المحتوى الرئيسى

نهى عودة تكتب: الأندلس، نهاية أليمة لحضارة عظيمة | ساسة بوست

01/02 23:04

منذ 21 دقيقة، 2 يناير,2016

الأندلس، اسم يحمل إرثـًا مجيدًا منذ فتحها المسلمون الأوائل في بداية القرن الثامن وحتى سقوطها عام 1492، يحتل موقعها المتميز وطبيعتها المبهرة مكانًا مميزًا في خرائط الجغرافيا، ويتصدر علماؤها وقادتها كتب التاريخ ليسطرا معًا فصلاً مهمًا في قصة الحضارة. لعل حضارة دولة الإسلام في الأندلس قد بلغت الحد الذي أصبحت لا تستطيع أية حضارة أخرى أن تضاهيها، وقد تحقق لها ذلك خلال فترة وجيزة. لم تنشأ تلك الحضارة وتتربع على عرش حضارات العالم – لتصبح الأندلس حاضرة العالم – عبثًا بل اجتمع لذلك عدد من العوامل التي ساعدت على ازدهار تلك الحضارة، وكان لابد للمجتمع الذي أفرز مثل تلك الحضارة المتفردة عن غيرها أن يكون متميزًا عن غيره. وهنا عادة ما يكمن السؤال: لماذا سقطت دولة الإسلام في الأندلس برغم حضارتها السباقة والمميزة؟ وهل يمكن لهذه الحضارة أن يكون لها علاقة بذلك السقوط؟!

على مستوى العلاقات الخارجية نجد أن ازدهار الحضارة الأندلسية شكل وازعًا قويًا كي يصبح الأندلسيون منفتحين على العالم، فدائمًا ما تكون الدول المتحضرة شرهة لامتصاص المزيد والاندماج مع من حولها من حضارات مختلفة. وقد ساهمت حقًا الحضارة الأندلسية في تعريف الغرب بالحضارة الإسلامية ومآثرها، وكان النصارى في أوروبا خلال القرن العاشر الميلادي يرسلون أبناءهم للتعلم في قرطبة على سبيل التباهي بصفتها حاضرة العالم، وقد وصلت الحضارة الأندلسية لمرتبة عالية من التقدم في مختلف المجالات وذاع صيت علمائها في كل أوروبا الأمر الذي جعل نقل علومهم السباقة أمرًا تسعى إليه كل أوروبا كي تستطيع يومًا أن تلحق بركب الحضارة. وفي ظل هذا الكم من التحضر كان لا مفر من نشأة العلاقات الدبلوماسية، فلم يجد الأندلسيون حرجًا من إقامة علاقات رسمية بل شعبية أيضًا مع الإفرنج وبالأخص الدولة البيزنطية بالرغم من أنها كانت تشكل العدو الأبرز للدولة العباسية. وتشير المصادر إلى أن الوفود الدبلوماسية كانت متبادلة بين الأندلس وبلاد الفرنجة، نذكر منها على سبيل المثال وفد الأمير عبد الرحمن الداخل إلى بيزنطة الذي حمل رسالة من الأمير تتضمن رغبته في استمرار العلاقات الطيبة بين الطرفين. ومن ناحية أخرى يذكر أن ملك ألمانيا قد بعث بوفد إلى الخليفة الناصر بينما بعث الناصر طبيبًا إلى أمير ليون ليساعده على تخفيف سمنته. ووصلت العلاقات في بعض الأحوال إلى المصاهرة مثلما كان من الملك المنصور الذي تزوج ابنة ملك نبرة الإفرنجي بعد أن أسلمت وتسمت عيدة وأنجبت له الأولاد. ولا دليل على تحضر أهل الأندلس على المستوى الاجتماعي خير من تعاملهم مع سكان شبه الجزيرة الأيبيرية عقب فتحها، الأمر الذي جعل هؤلاء السكان يدخلون إلى الإسلام طوعًا ومن بقي على دينه كان معززًا مكرمًا في كنف الحكم الإسلامي.

وقد شاع الاندماج والتزاوج بينهم وبين المسلمين حتى نشأت طبقة من الشعب الأندلسي عرفت بطبقة المولدين والتي نشأت نتيجة تزاوج الرجال المسلمين عربًا كانوا أم أمازيغ من نساء أهل شبه الجزيرة الأصليين. وعلى النقيض نجد أنه على الرغم من الاستفادة العظمى التي منحتها الحضارة الأندلسية في العلوم والفنون لأبناء أوروبا إلا أن أبناء الممالك الأوروبية – بينما يمدون يدا للمصافحة ومنح الهدايا والرسائل الودية المتبادلة كانت اليد الأخرى – تمد الممالك الشمالية في الأندلس يدها بالعون والمرتزقة الذين جاؤوا ليأججوا سكانها لإشعال لهيب الثورة على الحكم الإسلامي، الأمر الذي جعل التوغل في الفتوحات الإسلامية صعبًا للغاية، حتى إن المنصور فتح برشلونة سنة 985 م إلا أن هؤلاء الشماليين المتأججين غضبًا تمكنوا من انتزاعها مرة أخرى، ينبغي القول هنا إن هذه التحركات والتي كانت لفرنسا اليد الطولى في تنظيمها وتمويلها لم تكن تتحرك بوازع حماس ديني لإعلاء كلمة المسيحية فقط، فقد كان الهدف الأكثر وضوحًا هو السعي وراء كنوز دولة الأندلس التي ذاع صيت حضارتها وثرائها داخل كل بيت من بيوت أوروبا، والغنائم التي سوف تعود عليهم جراء انتصارهم في تلك الحروب.

وبينما أظهر أمراء الأندلس الود للدولة البيزنطية كانت قوات البيزنطيين تنخر في الشرق وتتحالف مع الأعداء من المغول وغيرهم لإسقاط الممالك الإسلامية هناك. ومن جهة أخرى لم تحمِ تلك الوفود الدبلوماسية والهدايا المتبادلة طليطلة من السقوط في أيدي النصارى وانفرط العقد حتى سقطت غرناطة فدقت أجراس أوروبا وأقام بابا روما صلاة الشكر ابتهاجًا بسقوطها. ومن هنا نستنتج أنه مهما كان من ازدهار أمر الحضارة في الأندلس فإن هذا لا يعني على الإطلاق إمعان الثقة في الأعداء مهما أظهروا من ود ومهما أبرموا من عهود، ولا ينبغي لأصحاب العقيدة الواحدة أن يناصر ويحالف أحدهما عدو الآخر، فمتى انتهى من الآخر جاء دور حليفه.

أما كيف يؤثر ازدهار الحضارة سلبًا على المجتمع فيبدو لأول وهلة أن الأمر غريبًا بعض الشيء! إلا أنه بقليل من التفكر سنجد أنه لا ريب أن هناك علاقة طردية بين الاختلال الأخلاقي وبين انتشار مفاتن الحضارة التي تتحول بدورها بعد فترة وجيزة إلى حضارة ترفيهية استهلاكية يغلب عليها طابع الميوعة الأخلاقية، وما لم يقف المجتمع من ذلك موقف المقاومة فإنه لا مفر من تداعي تلك المجتمعات وزوالها. وليس مثالًا أوضح من دولة الإسلام بالأندلس لتمثيل ذلك، والتي استمرت زهاء ثماني قرون إلا أن أركانها تهاوت مثلما تتهاوى الجدران المتهالكة في لمح البصر، وكأن مرضًا ظل ينخر في أساسات تلك الحضارة العظيمة حتى تمكن منها، في حين أن أهلها كانوا منغمسين في الملذات والترهات ولم يستفيقوا إلا وهم تحت الركام! ويجدر الإشارة هنا إلى أن الأزمة الأخلاقية التي نتج عنها تصدع الأندلس طالت كلا من الدولة والمجتمع، فمنذ عهد المرابطين الأواخر انعكس الاستقرار على الحياة الاقتصادية في الأندلس وتطورت الزراعة والصناعة والعلوم، إلا أن أولي الأمر لم يولوا اهتمامًا للأعداء المتربصين بهم، ومالوا إلى جني ثمار هذا الاستقرار، وانصرفوا بعيدًا كل البعد عن حياة الزهد والتقشف، وسلكوا نهج حياة الدعة والترف والتنعم، وتأنقوا في تشييد قصورهم التي اكتظت بالعبيد وتفننوا في زخرفتها. وفي ظل تلك الأجواء المترفة كان لابد من شيوع جلسات الأنس والسمر، وبعد أن كانت الأندلس منارة للأدباء والشعراء صار نظم القصائد والأشعار مبارزة بين الأمراء يغدق كل منهم بالعطايا على مادحه. وفي هذا الجو المفعم بوسائل الإلهاء وعدم الاكتراث بالمسئوليات التي تقع على عاتق أولي الأمر صار الاستكثار من الإماء والجواري عامل تفاخر لدى أغلبهم، ولم يجد بعض الأمراء حرجًا من قضاء الليالي بين الغناء واللهو ومعاقرة الخمر.

كل هذه العوامل كانت نتيجة لتحول الحضارة المدنية الأندلسية من إنتاجية إلى استهلاكية قوامها التفنن في هذا الاستهلاك، وقد تنبه بعضهم إلى خطورة هذا الوضع وما سيجلبه من آثار سلبية على أخلاق المجتمع، فنجد بعض المؤلفات التي صدرت في تلك الفترة من طبيعتها أن تقوم بدور توجيه النصح والتوجيه لما يجب أن تكون عليه أخلاق الملوك مثل كتاب “الإشارة في تدبير الإمارة” للقاضي أبي بكر الحضرمي، وكتاب “سراج الملوك” لأبي بكر الطرطوشي والذي ذكر فيه بإسهاب الأخلاق السياسية التي يجب أن يتحلى بها الحاكم، حيث لجأ بعض الحكام عندما شحت النقود في أيديهم إلى فرض ضرائب باهظة على الشعب. وفي هذا الصدد يذكر في “ريحان الألباب” للمواعيني: (وملك الملثمون بلاد الأندلس في ظل واقعة الزلاقة مدة، وجاهدوا أطراف العدو صدرًا من دولتهم، ثم أدبروا فخلدوا إلى الراحات والبطالات وفساد الأعمال والنيات، وكثر ظلمهم وحيفهم)

من جهة أخرى فإن الرعية لم تكن أفضل حالًا من ملوكهم؛ فقد تردى المجتمع الأندلسي في هذه الفترة وشاعت الموبقات، فانتشرت عادة شرب الخمر في مختلف المدن الأندلسية حتى وصل الأمر أن ناشد محمد بن عبيد الله بن خاقان – وكان كاتبًا ومؤرخًا من النخبة في مدينة إشبيلية – أحد القضاة إلى العمل من الحد على تفشي الخمور، إلا أن الأمر انتهى بأن أقيم عليه نفسه الحد من قبل القاضي عياض حين دخل عليه مجلسه مخمورًا! وقد تم اتخاذ عدة إجراءات لمنع ذيوع هذه العادة حتى تضمنت بعض الأوامر الرسمية في مدينة بلنسية قطع مادتها وإراقتها أينما وجدت، إلا أن هذه الأوامر لم تكن من الحزم والشدة ما يسمح بانتزاع تلك العادة التي أضحت عادة اجتماعية مألوفة وخاصة في الأوساط الأرستقراطية. ولمزيد من التفنن في الترف واللهو يقول المقري في كتابه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: “اشتهرت بعض المدن الأندلسية بكثرة الملاهي وأماكن المجون والدعارة والمراقص مثل برشانه وأبذه، كما أن إشبيلية كانت مضرب الأمثال في الخلاعة”، وقد أضاف ابن سعيد المغربي في كتابه المُغرب في حُلى المغرب: “انتشرت عادات أخلاقية شاذة مثل اللواط في بعض الأحياء المشهورة كدرب ابن زيدون بقرطبة”،  فضلاً عن استشراء الزنا والسفور وغير ذلك من المحرمات. وقد تشكلت رغبة جامحة لدى أمير كل منطقة في الأندلس أن يستقل بإمارته منساقًا خلف غريزة الطمع وحب التملك لكثرة الخيرات في الأندلس، وفي ذلك يقول المقري: “منذ وقعت الفتنة في الأندلس اعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد عن إمام الجماعة، وصار في كل جهة مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة كما يتوارث ملوكها الملك، واعتادوا على ذلك فصعب ضبطهم إلى نظام واحد، وتمكن العدو منهم بالتفرق، وعداوة بعضهم لبعض بقبيح المنافسة والطمع، فآل ذلك إلى تلف القواعد العظيمة وتملك الأمصار الجليلة، وخروجها من يد الإسلام”.

وخلاصة القول لابد من الإشارة إلى أن ابن خلدون قد وقف طويلاً في مقدمته عند مسألة الترف، واعتبر أن الترف يرتبط ارتباطـًا وثيقـًا بعملية التحضُّر والاستقرار، وبيّن ما يؤول إليه الترف من تفكك في الأخلاق وركود في الهمة ينعكس بدوره بالضرورة على مسيرة الحضارة ويأذن بتوقف تدفقها الإبداعي وبالتالي انحلالها ودمارها فيقول: “من مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ، ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا واللواط، وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخًا على الحقيقة”، هنا تسطع كلمات الله تعالى لتلخص في إيجاز بديع كيف خسرنا الأندلس ولماذا، كيف ضاعت رغم حضارتها التي بلغت الآفاق وعظمتها التي تخطت الحدود، كيف نفرط أحيانًا في التغني بالأمجاد والتحسر عليها ونتناسى أن سنن الله في كونه نافذة، بسم الله الرحمن الرحيم “وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ” صدق الله العظيم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل