المحتوى الرئيسى

محمد رفعت الدومي يكتب: من الذي لا تخجله الكتابة عن نهاية شيخ الصيادين؟

12/31 10:10

خلال أشهر مشاهد فيلم “ابن حميدو”، احتشد “شيخ الصيادين” عدة مرات، وحشد كل عضلات جسده ومخارج ألفاظه وحركات عينيه وتعبيرات وجهه وصاح كالغاضبين فى وجه زوجته المتسلطة:

– وشرف أبوكى لو فتحتى بقك بكلمة لأقطم رقبتك، إنتى عارفة، أنا راجل وكلمتى لا ممكن تنزل الأرض أبدًا.

ولأنها كانت تعرف أن غضبه “سويسي”، أعلنت رجولتها هى الأخرى وصاحت فى تحفز:

فارتخت فجأة رجولة “الريس حنفي”، وقال فى استسلام حرص على ألا يكون نهائيًا، إنما يحمل فى طياته وعدًا بمحاولات قادمة:

– خلاص .. هتنزل المرادي، بس اعملى حسابك المرة الجاية لا ممكن تنزل ابدًا!

مسافة بين جملتين لا تستغرق أكثر من دقيقة على الشاشة، استطاع “الريس حنفى شيخ الصيادين أنعم وأكرم” أن يقطعها فى نهاية الفيلم ويقود “أم حميدة” صفعًا إلى بيت الطاعة، غير أن “عبد الفتاح القصري” لم يستطع الحصول على تلك النهاية السعيدة أبدًا، فقد شاءت واحدة من مكائد الحياة القاسية أن يكرر تجسيد هذا المشهد فى سينما الواقع حرفيًا وأن تكون النهاية مُرة كالعلقم، ستبقى شاهدة على ذلك الارتباط المذهل بين الإبداع والسذاجة لارتباطها بحياة ساخر جلل نالت بعض “إفيهاته” من الشهرة قدرًا أكبر بكثير مما نال منها كثيرٌ من المحسوبين على فن الكوميديا، فلا ينتابنى شك أن فناناً مثل “محمد الصاوي”، حتى بعد أن ينتهى من تقديم مشروعه كاملاً، سيظل اسمه أقل شعبية من أى من هذه “الإفيهات” التى تمكث فى ذاكرة المصريين والعرب على استعداد متواصل لتهييج الضحكات:

– ست؟! أنا مش شايف أدامى أيتوها ست، ده أنا جنب منك أبقى مارلين مونرو!

– يا عزيزة الباز أفندى ده عريس .. أنا نفسى أتمناه!

– انتى ست انتي؟! انتى ست أشهر!

– يا صفايح الزبدة السايحة .. يا براميل القشطة النايحة!

– نورماندى تو، تو، تو!

من الجدير بالذكر أن كل الذين حاولوا أو سيحاولون فى المستقبل رسم  بورتريه بالكلمات لذلك الفنان الذى ما زال مكانه شاغرًا لا يجرؤ على مجرد التفكير فى الاقتراب منه أحد، قد اكتشفوا حتمًا أنهم أمام شخصية عاشت حياة مليئة بالمتناقضات، فهو المولود لعائلة ميسورة الحال شاءت الجينات أن تكون قسمات وجهه أشبه بقسمات وجوه معظم المصريين فى القاع، وهو الذى نال قسطاً من التعليم فى المدارس الفرنسية وشاءت الحياة أن تكون الكلمات المغرقة فى العامية هى الأكثر استخدامًا على لسانه، وهو الذى عاش حياة محاصرة بالجماهير ومات وحيدًا دون أن ينتبه لموته أحد، ولكل نهاية بداية!

والبداية طفل ليس هناك اتفاق على عام ميلاده فى حى الجمالية بالقاهرة، قيل: كان ذلك 1905، وقيل: 1906، وبعض من لمسوا سيرته يعتقدون أن “عبد الفتاح القصري” ولد قبل عام 1905 بسنوات، وثمة رواية منقولة عن لسانه هو ومنشورة وصحيحة النسب إليه شخصيًا تدعم هذا الاعتقاد، فقد سرد لأحد الصحفيين ذات يوم أنه عمل فى أول فرقة أسسها المحامى “عبد الرحمن رشدى”، وأضاء فى نفس اللقاء لحظة منسية من بدايات الموسيقار “محمد عبد الوهاب”، عندما سرد كيف رآه طفلاً لأول مرة يغنى أغنية يقول مطلعها: “أنا صوتى كمنجة وأحب المنجة” على أحد مسارح حى الحسين خلال عرض لفرقة الفنان “فوزى الجزايرلي”، حتى ذلك المساء البعيد كان “محمد عبد الوهاب” يحمل اسم “محمد البغدادى”!

ولربما كان إحجام “عبد الفتاح القصري” عن التطرق إلى الحديث عن أصول عائلته هو ما جعلها مثارًا لاجتهادات المجتهدين، فذهب بعضهم إلى أن عائلته موجودة فى مصر منذ العصر الفاطمى، وهى رواية تقوم على سبب شديد اللياقة، فحتى وقت قريب كانت العائلات تستمد اسمها من مهنة مؤسس العائلة، عدة عائلات كبيرة فى استطاعتنا أن نعرف من اسمها مهن مؤسسيها، مؤسس عائلة “الزيات” مثلاً كان يبيع الزيت، ومؤسس عائلة “الجمال” كان يتاجر فى الجمال، ومؤسس عائلة “الطرابيشي” كان يصنع الطرابيش، كذلك “الترزي” و “البنا” و “النجار” و “الخضري” و “الدخاخني” و “العطار” والقائمة طويلة، أكتفى منها بما سبق وأضيف مما أنا متأكد من صحته أن عائلة “عباس محمود العقاد” قد اكتسبت لقبها من حرفة مؤسسها الذى كان يعقد الحرير، ولعل عائلة “القصري” أيضًا قد اكتسبت لقبها من مهنة مؤسسها الذى كان يعمل فى قصر من القصور!

لكن، ثمة بعض الذين يحبون تسطيح الأمور يعتقدون أن أصول عائلة “القصرى” من مدينة الأقصر بجنوب مصر، وبالبناء على اعتقادهم هذا قد افترضوا أن المصريين خففوا بمرور الزمن لقب “الأقصري” إلى “القصري”، ونحن الجنوبيون بصفة خاصة نعرف أن هذا كلام باطل وسخيف، فلا لهجته ولا قامته القصيرة ولا جسده السمين ولا ملامحه ولا طريقته الشهيرة فى المشى تمت بصلة إلى غالبية المنحدرين من أصول جنوبية، هذا بالإضافة إلى أن الصعايدة لم يكونوا حتى ذلك الوقت قد اكتشفوا دروب الهجرة إلى العاصمة بهذه الوتيرة التى هى الآن، كما أن صناعة الذهب أيضًا مهنة نادرة فى مجتمعاتهم الآن وحين كان أبوه صائغاً يملك محلاً فى منطقة الصاغة الملاصقة لمنزله، وكعادة المصريين فى تلك الأيام، كان لابد أن يورِّثَ الأبُ ابنه أمراضه ومهنته، وكان من غير المستبعد أن يبدد “عبد الفتاح القصري” كل طاقته فى صناعة الذهب ويمضى دون أن يشعر بمروره على الدنيا أحد لولا أن حظنا السعيد جعل “نجيب الريحاني” يكتشفه ويطلب منه أن يترك مهنته ويحترف التمثيل، وإغلاقاً لكل نافذة من الممكن أن يطل منها من ينصحه بالتمسك بمهنة والده، وعده “الريحاني” بأن يعوضه عن ذلك براتب كبير!

دلالة هذه الحادثة القصوى تكمن فى عبقرية “نجيب الريحاني” الذى لم يكتف بالتقاط الموهبة الكامنة فيه، بل اختار لها الوعاء الذى يناسبها ويبرزها أيضًا، ومن جهته، لم يتخلى “عبد الفتاح القصري” عن ذلك الوعاء حتى بعدما امتصته أضواء السينما وسحرها، أقصد بالضبط، شخصية “ابن البلد” غير المتعلم مع ذلك يدعى العلم ببواطن كل الأمور، ويحسب لـ “عبد الفتاح القصري” أنه استطاع أن يطورهذه الشخصية وأن يتنقل من خلالها بين مناطق مجهولة فى عالم الكوميديا قبل أن يتمكن أغلب المضحكين من رؤيتها بوقت طويل، فأضاف إلى فن صناعة الضحك بعدًا آخر، هذا جعل شعبيته لا تتوقف يومًا عن النمو حتى طوقت الوطن من المحيط إلى الخليج!

لكنه، عقب موت “الريحاني” بسنوات، ترك الفرقة التى كانت شاهدة على ميلاد نجمه لتوتر اندلع بينه وبين الكاتب “بديع خيري” وانخرط فى فرقة “إسماعيل ياسين” عند تأسيسها عام 1954 واستمر بها حتى ولدت الخيوط الأولى لمأساته على خشبة المسرح وولدت معها خطواته الأولى فى ممرات الوجع الذى أبى أن ينكسر أو يهادن حتى خسر كل الناطقين بالعربية واحدًا من أروع من أضحكوهم!

كان واقفاً على خشبة المسرح يؤدى أمام “إسماعيل ياسين” مشهدًا، فى أحد عروض صيف عام 1962، وعندما كان يجب أن يخرج من الديكور الجانبى انطفأت الدنيا فجأة فى عينيه، فانفجر فى البكاء وهو يتحسس أشياء الديكور ويصيح:

– مش شايف .. نظرى راح يا ناس!

تجاوزت قسوة اللحظة ذروتها عندما اعتقد الجمهور أن استغاثته هذه بعض من نص المسرحية فتفاقمت ضحكاتهم وتصفيقهم، استوعب “إسماعيل ياسين” المأساة تدريجيًا فأمسك به واقتاده إلى الكواليس، ومن ثم نقلوه على الفور إلى المستشفي، فتبين أن ارتفاع نسبة السكر فى دمه أصابه بالعمى المؤقت، لقد هرب النور من عينيه ورفض أن يعود إليهما كاملاً مرة أخري، وسوف يصير “عبد الفتاح القصري” منذ تلك اللحظة وحتى نهايته البائسة مجرد ظل لا يحفل به أحد ولا يحركه شئ سوى التآكل اليومى وهجمات الوجع الباهظ!

والمصائب لا تأتى فرادي، ذلك أنه، بعد مرور ثلاثة أشهر على تلك الليلة، ضربته مصيبة أشد وطأة، لقد أجبرته زوجته صغيرة السن على تطليقها، وعلى أن يكون شاهدًا على زواجها من صبى البقال الذى ظل يرعاه لمدة 15عامًا باعتباره ربيبًا، ما هو أبشع من ذلك، أن الزوجين أقاما فى شقة الرجل وكانا يمارسان طقوس المتعة على مقربة منه، فى تلك الفترة، ترويضًا للألم واختباءًا من بشاعة الواقع، أغلب الظن، طورت نفسه قناعًا جميلاً للنسيان ليرتديه قبل أن يستيقظ من النوم، لم يكن ذلك القناع سوى فقد الذاكرة تمامًا والتحلى بمرض الهذيان، لكن “د. ذكى سويدان “، وسياق المقال يفرض على أن أذكر أنه جد الفنانة “لقاء سويدان”، جد الأخيرة، من جانبه، اتهم تصلب الشرايين بالتسبب فى ضياع ذاكرته وهذيانه، وأنا، من جانبي، أعتقد أن ذلك لم يكن صحيحًا، وبالتالي، أعتقد أنها آخر مناورة نفسية قام بها “عبد الفتاح القصري” لينجو من الجنون!

وثمة صورة شهيرة ثبتت حالته فى تلك الأيام نشرتها جريدة الجمهورية، ظهر فيها وهو يمسك بأسياخ حديد نافذة غرفة بالدور الأرضى فى حارة جانبية من حارات شارع النزهة المتفرع من شارع السكاكينى، ما لا تقوله الصورة، أنه كان يصرخ كل يوم من وراء تلك النافذة يطلب من المارة أن يعطوه سيجارة فيضحك صغار الحارة!

لم ترتبط قصة آخر أيام “الريس حنفي” بأحد من زملائه الذين يجب أن نتوقع ارتباطهم، حتى النطع “إسماعيل ياسين” اختفى تمامًا من يومياته الأخيرة وتنكر له، لم يتخذ موقفاً رماديًا حتي، فقط الفنانة “نجوى سالم” كان لها دورٌ بمثابة حجر كريم فى مشاركة المسكين أعباء محنته، منذ عرفته قبل سنوات صار لدى سببٌ واضح لحبى لها ولطريقتها فى التلاعب بطبقات صوتها وقدرتها المذهلة على تنعيم الكلمات ومطها، فهى التى نقلت صورة معاناته كاملة إلى الصحافة، وبفضل إصرارها هى على تعرية مأساته بشكلٍ لا يعفى أحدًا من مسئولية تجاهلها، حدث أن تحمست “مارى منيب” لزيارته وعلاجه فى مستشفى الدمرداش على نفقتها الخاصة، ليرتطم عقب خروجه بمأساةٍ أخرى تضربه بقسوة، لقد اكتشف حين عاد إلى بيته بعد أسابيع المستشفى أن طليقته قد باعت كل أثاث المنزل وتركته خاويًا، ولم يكن ذلك كل شئ، لقد بلغ تآكل الرجل أقصاه ووصلت قصته حافة التراجيديا حين وضعت البلدية الشمع الأحمر تمهيدًا لإزالة البيت من جذوره، آنذاك فقط، كانت المأساة قد اتخذت وجهًا آخر، لقد أصبح بلا مأوى أيضًا، واضطر فى نهاية المطاف إلى أن يسكن غرفة شديدة التواضع، لا يعنى أحدًا، ولا يعتنى به أحد إلا سيدة فقيرة تبيع الشاى فى أحد الشوارع الجانبية، لا أستغرب خفوت ظلال شقيقته “بهيجة” فى الأحداث حتى الآن، فما حدث من عائلة “سعاد حسني” بعد نهايتها الغامضة من غياب لأبسط مظاهر الحزن عليها وتراشق للتهم فى كل اتجاه، ونحو كل الذين اقتربوا من دائرة “سعاد” فى أعوامها الأخيرة، طمعًا فى اصطياد أى فريسة تجود ببعض النقود يجعلنى مضطرًا إلى اتهام السيدة “بهيجة” بالريادة!

توقف نمو المأساة لبعض الوقت حين علمت الفنانة “هند رستم” بما صارت عليه ملامح واقعه، ونقلتها بأمانة إلى أثرياء الوسط الفني، فأقاموا مهرجاناً أشبه بمهرجان الدموع المجانية الذى أقامه الفنانون بعد ذلك بحثاً عن بقعة ضوء أو لتنمية شعبيتهم عند مقتل “سعاد حسني” التى تنكروا لها جميعًا فى محنتها، واندلعت المزايدات من كل جانب، وعود مسرفة فى الكرم ومشاعر مبالغ فيها وأحاديث رمادية عن تبرعات ستنتشل الرجل من مأساته وحال الرجل باقٍ على ما هو عليه من وعورة!

ما هو أسوأ أن جريدة الجمهورية جعلت من الترويج لنكبته معبرًا لكل راغب فى الشهرة أو فى المزيد منها، عندما نشرت اسم كل فنان وقيمة تبرعه لإدخال “القصري” إلى أى مستشفي، على سبيل المثال:

فريد الأطرش 100 جنية، عبد الحليم حافظ 50 جنيها، شادية 20 جنيهًا، جمال الليثى 25 جنيهًا، مارى كوينى 10 جنيهات، مريم فخر الدين 5 جنيهات، أحمد مظهر 5 جنيهات!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل