المحتوى الرئيسى

هجرة القرويين صاحبتها أنانية أضعفت العلاقات

12/30 22:33

يعد التليفزيون من أخطر الوسائل الإعلامية، وأشدها تأثيراً فى الجمهور، وقد أجريت بحوث كثيرة فى معظم دول العالم -وبخاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية- لدراسة الآثار الجانبية للتعرض للتليفزيون، ومن هذه الدراسات استخلص الباحثون نتائج عديدة أفادت وجود علاقة ارتباط دالة إحصائياً بين طول مشاهدة التليفزيون وعدد آخر من المتغيرات التى قيست مثل: الانحراف السلوكى، ومستوى التحصيل الدراسى، والرغبة فى القراءة وغير ذلك، وفى معظم الأحوال كانت النتائج فى غير صالح التليفزيون، والزاوية الجديدة التى نود أن تلتفت إليها أنظار الباحثين هى العلاقة بين التليفزيون والقرية فى مصر، فقد أجريت فى مصر دراسات عن تأثير الإذاعة، وتأثير الصحافة فى القرية، وما زال الميدان الاجتماعى والإعلامى والتربوى فى حاجة إلى دراسات ميدانية متجددة تتناول الآثار التى ترتبت على دخول التليفزيون إلى منازل الأسر المقيمة فى الريف المصرى، من حيث الاهتمامات التقليدية لتلك الأسر، ومن حيث التركيب الاجتماعى فى القرية المصرية، وسنحاول إلقاء بعض الضوء على هذه الزاوية، ففيما مضى كانت القرية المصرية وحدها إنتاجية مترابطة، وكانت طبيعة العلاقات داخل القرية تتسم بالهدوء والتسامح، وأدى ذلك إلى ظهور مفاهيم تبلورت وشاعت وارتبطت تاريخياً بشخصية القروى مثل: الشهامة والمروءة والكرم.. إلخ. ومع تعقد الحياة واتجاهها نحو التمدين البطىء، تضافرت داخل القرية المصرية عوامل متعددة مثل الهجرة الداخلية والخارجية وغلبة الروح المادية وسيادة ما يسمى بـ«الأنا مالية» والأنانية وتغلب المصلحة الخاصة على العامة، كل هذه العوامل أدت إلى تدهور ملموس فى العلاقات داخل القرية، كما أدت إلى تغيير فى المراكز والأدوار الاجتماعية، وفى النهاية أدت إلى تدهور وانهيار فى تلك المفاهيم الأخلاقية السامية التى ارتبطت تاريخياً بالإنسان القروى البسيط، ولا شك فى أن دخول التليفزيون إلى بيوت القرى ارتبط بما شاب الثقافة القروية من تلوث، فإنسان القرية الذى كان يعرف بالوفاء والقناعة والشهامة، ويعتز بالرجولة والنجدة والتمسك بالمبدأ، بدأ هذا الإنسان يرى صورة مشوهة له فى التليفزيون، صورة غير واقعية سداها ولحمتها السخرية بمبادئه، والغمز فى شخصيته وفى محاولة للتخلص من الصورة الوهمية التى تقدمها دراما التليفزيون للقروى، والصعيدى بصفة خاصة، بدأ هذا الإنسان القروى يحس إحساساً أليماً بأنه متقوقع ومتخلف، فنبتت فى ذهنه اتجاهات سلبية نحو حياة القرية، وترعرعت هذه الاتجاهات فأثمرت تطلعاً شغوفاً، وطموحاً رخيصاً نحو حياة المدينة، والقاهرة بصفة خاصة، هذا التطلع وذلك الطموح أتيا من الصراع غير المتكافئ بين الثقافة التليفزيونية، وثقافة القروى البسيطة المتهافتة.

وهذه الاتجاهات السلبية التى تولدت لدى القرويين نحو حياة القرية تمثل من وجهة نظر علماء الاجتماع والتربية انهياراً قيمياً، كما أنها تمثل تهديداً صارخاً متواصلاً للمحتوى التربوى النبيل الذى تقدمه المدارس ودور العبادة وغيرهما من المؤسسات الثقافية التربوية التى تسعى فى إخلاص لبناء الإنسان، وآية ذلك أن المراهقين الذين يعيشون فى الريف يعانون من تخبط فكرى، وتزعزع قيمى ومصدر هذا التخبط وذلك التزعزع هذا الصراع غير المتكافئ بين ما يستمع إليه من مواعظ أخلاقية مصبوبة فى قوالب تقليدية رتيبة، وبين الإمكانات الفنية الهائلة التى يعرض بها التليفزيون بضاعته الرديئة، وإذا كان المبدأ الاقتصادى «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق» صحيحاً، جاز أن ينسحب ذلك على ما نرمى إليه، فالمراهق المعجب ببطل معين من نجوم الممثلين، يتأثر ويقتدى به ويعجب بسلوكه فيقلده، وحين يظهر ذلك الممثل فى أحد الأفلام أو المسلسلات لصاً ذكياً، أو نذلاً خفيف الدم، أو مهرباً جذاب الأسلوب، أو مجرماً ناجحاً فى تضليل الشرطة، فى مثل هذه الأحوال يندفع المراهقون إلى التقليد ضاربين عرض الحائط بقائمة المثل العليا والنواهى الخلقية التى يحفظونها عن ظهر قلب من كثرة ما سمعوها من معلميهم فى المدارس، ومن مشايخ معينين فى برنامج «حديث الروح».

إن التهديد الدائم للرسالة التربوية التى تقوم بتأديتها المدرسة والمسجد والأسرة، إنما يأتى من التليفزيون بالدرجة الأولى لأسباب بديهية يدركها كل العاملين فى الأوساط التربوية، وهى أن التربية المدرسية أو المنزلية أو العبادية ذات أنماط ثابته تقليدية، أما التليفزيون فإنه يقدم ما يقدم من تعلم مصاحب فى أساليب مشوقة جذابة صوتاً وصورة، فضلاً عما يوضع فيه هذا العطاء من إطار ترفيهى أحياناً، وتراجيدى أحياناً أخرى، إن الجانب القيمى فى الشخصية المصرية يحتاج إلى نظرة جديدة، وليس الدافع إلى هذه النظرة خلقياً إنسانياً فقط، بل إنه -فى هذه المرحلة- دافع تنموى، فعلى سبيل المثال، يمكننا ملاحظة أساليب معيشة المهاجرين من الريف إلى المدينة فى حياتهم الجديدة فى المدن، أو لدى عودتهم -إن كانوا ممن يترددون على المدينة ثم يعودون- فماذا سنلحظ؟ سنلحظ تغييراً مفاجئاً فى أسلوب المعيشة، أسلوب التعامل، السلوك الاستهلاكى، الغناء الشعبى، أسلوب التفكير، القيم الشخصية، الاتجاهات المستحدثة -الملوثة- نحو أشياء أساسية فى حياتنا كالتعليم والعمل الوطنى والعمل الاجتماعى والموقف السياسى.. إلخ ومن المؤسف أن لدينا أعداداً فلكية من المجالس والهيئات والمؤسسات وليس من بينها جهاز واحد يأخذ على عاتقه مهمة رعاية القيم الاجتماعية، فهى ملكية عامة، ومع تسليمنا بهذا، فإننا ندعو إلى تحديد المسئوليات لأن أول من يجب أن يحاكم بمقتضى قانون العيب -من وجهه نظرنا- هو التليفزيون حين يستورد -ويعرض- فيلماً عن «الخيانة الزوجية» مثلاً، أو ما إلى ذلك من مشكلات لا ظلال لها فى مجتمعنا، أو هى إن وجدت فلا تكاد تحصى لندرتها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل