المحتوى الرئيسى

جود سعيد: أصور الحرب كي أرفضها

12/30 02:04

فاز فيلم جود سعيد «بانتظار الخريف» بجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة الأخير، والمخرج السوري الذي يتبنى سينما المؤلف سبق له أن درس السينما في فرنسا. فيلمه الفائز والفيلم الذي تلاه «مطر حمص» يتناولان الواقع السوري في الحرب الراهنة بواقعية وميل إلى الطرافة والتهكم. هنا بورتريه عنه.

يبدو جود سعيد (مواليد دمشق 1980) منحازاً نحو سينما ترفض الدخول في المتوقع، فمنذ ملامساته الأولى للصورة بحث المخرج الشاب عن حساسية مغايرة عن أبناء جيله وعمّن سبقه من جيل المؤسسين في السينما السورية، من دون أن يتنكر لما قدموه: «سينماهم كانت جريئة ومحترفة برغم أنها مُنجزة بأدوات بسيطة، إلا أنها كانت جزءاً من تكويني السينمائي كونها سينما هوية، صحيح أن أدواتي مختلفة عما قدمه كل من محمد ملص ونبيل المالح وعبد اللطيف عبد الحميد، لكن في المضمون هناك تقاطعات كثيرة».

ما بين حيّي «المزرعة» و «المزة» قضى سعيد تأملات الصبا الأولى في دمشق، المدينة التي تربطه بها علاقة عاطفية خاصة، فما بين بيت جده لأبيه «جودت سعيد» وبيت أهله كانت مشاويره الأولى نحو صالات العرض التي غاب اليوم معظمها عن المشهد السينمائي للبلاد، إلا أن عرضاً لفيلم «زمن الغجر» لمخرجه اليوغسلافي إمير كوستوريتزا سوف يدفع الشاب في عتمة «سينما السفراء» إلى حلمه المضيء: «كان ذلك عام 1999 عندما شاهدتُ هذا الفيلم الساحر بظروف عرض رديئة للغاية، قلبت معظم ألوان الفيلم إلى اللون الأحمر، لكن ذلك كان كافياً لأحزم أمري بترك دراسة الهندسة والتوجه نحو دراسة السينما، فلقد ترك «كوستوريتزا انطباعاً لدي بأن السينما قادرة على إعادة خلق الزمن وقراءته مرة أخرى بطريقة أكثر نضجاً مما هو في الحياة».

قدّم الشاب بعدها أوراق قبوله في معهد «لوي لوميير» بباريس؛ مصحوباً بفيلم تجريبي بعنوان «باص» تدبر تصويره بكاميرا فيديو منزلية؛ وبمساعدة والدته «تغريد أحمد» وبعض أصدقائه، وكان القبول وقتذاك له كطالب في الأكاديمية الفرنسية.

في باريس تعرّف «سعيد» على مدارس وتيارات وموجات السينما في العالم، منجزاً العديد من الأفلام أثناء الدراسة كان أبرزها: «بضعة من أيام أُخر» (26 دقيقة) الفيلم الوثائقي الذي سوف يحققه عن قرية «تل عبر» في شمال حلب وعلى كتف الفرات الغربي، منتشلاً مادته من المفارقات الحياتية التي سجلها بكاميرته عن يوميات بعثة أثرية وعلاقاتها مع أهالي القرية في موقع أثري يعود للألف العاشر قبل الميلاد.

بعدها حقق سعيد فيلمه الثاني بعنوان «وجهكِ أرضٌ قصية» (20 دقيقة) الذي طرح فيه عبر المزج بين الوثائقي والدرامي حكاية مجموعة من الشباب السوريين الذين يعيشون في لبنان. السنوات الست التي قضاها الشاب في معهده الباريسي جعلته أكثر مراناً على توليف الحياة في شريط من الصور: «علمتني باريس ما معنى أن أصنع سينما بصدق، وأقصد هنا باريس الثقافية لا السياسية. أجل علمتني التواضع وأن كلّ ما تصنع يبقى صغيراً أمام التاريخ الهائل لسينما العالم».

كانت آلية تعليم السينما في فرنسا آلية مفتوحة على كل مدارس وتيارات السينما في العالم، يخبرنا سعيد: «دعني أقول ومع احترامي لتجارب مثل تروفو وغودار، إلا أنني كنت أميل إلى المدرسة الواقعية الإيطالية التي كانت أقرب إليّ من السينما الفرنسية، لقد سحرتني أفلام «أنطونيوني» و «بازوليني»، و «فيليني»، ومخرجي أميركا الطليان وعلى رأسهم «فرانيسيس كوبولا» و «سرجيو ليوني»، أما السينما الفرنسية فلم أكن من المغرمين بها».

ليست سينما سيرة ذاتية ما أصنعه، إنما هي سينما مؤلف ـ يقول: «أعتبر سينما المؤلف هي من يكون لصانع الفيلم الكلمة الأخيرة على كل تفاصيله من كتابة السيناريو إلى آخر نوتة موسيقية توضع أثناء العمليات الفنية، سواء عبر الاشتراك مع كاتب آخر أو من دونه».

عام 2006 عاد سعيد إلى دمشق بعد حصوله على شهادة «الماستر» في الإخراج السينمائي، وليحقق فيلمه الروائي القصير «مونولوج» (فضية مهرجان دمشق) وليتبعه بفيلم قصير آخر بعنوان «وداعاً» (مكرم في مهرجان أبو ظبي) ولينال من المؤسسة العامة للسينما أول فرصة إنتاج لفيلمه الروائي الأول «مرةً أُخرى» الذي تعرض للحقبة السورية في لبنان عبر قصة حب بين فتاة لبنانية قضى أبوها في الحرب الأهلية وشاب كان أبوه يعمل ضابطاً في الجيش السوري، حيث تمتد أحداث الفيلم بين الشابين بين فترتي الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وعدوان تموز عام 2006.

حصد «مرةً أخرى» العديد من الجوائز كان أبرزها «ذهبية مهرجان دمشق» و «جائزة أفضل فيلم عربي» في «مهرجان سان فرانسيسكو»، مما دفع تجربة سعيد قدماً نحو الأمام، وأعطته ثقة متصاعدة بما كان يحلم بتحقيقه على الشاشة الذهبية. لينجز عام 2011 فيلمه الثاني «صديقي الأخير»، الشريط الذي دخل من خلاله إلى كواليس الأروقة الأمنية عبر قصة محقق يتقصى حادثة انتــحار شاب يكشف عبر تسجيل بصـــري تركه قبل موته، بأنه قتل زوجته الفرنسية بعد فقدانه الأمل بشفائها من مرض السرطان.

القتل الرحيم وخفايا المؤسستين الأمنية والقضائية كانت محاولة جريئة لجود سعيد الذي أكد حضوره في واجهة المشهد السينمائي السوري، مسجلاً موقفه مما يحدث قبيل اندلاع الأحداث الدامية في بلاده وبعدها، إلا أنه في فيلمه «بانتظار الخريف» سيذهب بعيداً هذه المرة في تقصي خارطة الخراب الدموي، إذ يطلعنا في هذا الفيلم الذي حاز مؤخراً «جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة» على قصة حب تجمع بين صحافية وناشط ثوري، ليتعرض هذا الأخير لحادثة اختطاف من قبل قوى راديكالية وهو في طريقه لحضور مباراة كأس الجمهورية لفريق الكرة الطائرة، وذلك بعد أن يضحّي بنفسه من أجل إنقاذ ضــابط في الجيش مع طفله (علي رمضان) أثناء تعرض الحافلة التي تقلهم للتفتيش من قبل حاجز تابعٍ للثوار.

الأحداث المتصاعدة في «بانتظار الخريف» تطلعنا أكثر فأكثر على حياة الناشط الثوري وتوثيقه لما لحق بمدينة حمص، عبر مطاردة كاميرته لطفل يجوب أرجاء حيّه المدمّر على دراجة هوائية. يتداخل هنا الروائي بالوثائقي مرةً أخرى في لحظة عالية من زمن الفيلم الذي أنتجته (المؤسسة العامة للسينما)، بالاشتراك مع (آدمز برودكشن)؛ محيلةً حوار الطفل الحمصي إلى ما يشبه (مانشيت) لحبكة الفيلم الرئيسية.

مواجهة مأساوية بين الناشط وبين من دافع عنهم، فما أفرزته الحرب من لعبة أقنعة لا نهائية وتبادل أدوار تراجيدي بين الضحية والجلاد، مزجها «سعيد» بمهارة، مقارباً بين مصائر شخصياته ومآلات البلاد، مورداً مشاهدَ توثيقية من عمر حرب توشك على إنهاء عامها الخامس: «مشهد (بالذبح جئناكم) الجملة التي يرددها طفل يحمل سكيناً وهو محمولٌ على أكتاف مقاتلين إسلاميين، التهام أحد (الجهاديين) لكبد جندي سوري، رمي جثامين لجنود في نهر العاصي على وقع صيحات التكبير»!

انتصر «سعيد» مجدداً في هذا الفيلم للطرافة السورية في صياغة حواراته، في محاولة لإنجاز طليعية سينمائية في الفيلموغرافيا الوطنية. يبدأ ذلك من التعليق الساخر الذي تسوقه بطلة فيلمه (سلاف فواخرجي) على حدث التهديد بـ «الضربة الأميركية لسوريا في أيلول 2013»، منتهياً بمشهد يواجه فيه أبطال الفيلم الكاميرا يداً بيد مع جنود قضوا بتفجير إرهابي، حيث ينهض الجميع من موته، في لقطة تعيدنا إلى أجواء (under ground) لمخرجه أمير كوستوريتزا.

الحياة التي قدمها جود سعيد تبدو وكأنها معكوسة زمنياً في مناظر يوثّقها «بانتظار الخريف» وسط خراب مترامي الأطراف وبلغة سينمائية لافتة؛ فالمشاهد التي صوّرت في حي «بابا عمرو» بحمص؛ دمجت بذكاء بين الكاميرا وعدسة القناص؛ متخذةً من الديكور الطبيعي في قرية جبلية في طرطوس فضاءً رحباً للأسئلة والتأمل في المأساة؛ وذلك وفق خلط أساليب وثّقت عبر طابع هزلي لانهياراتٍ عصبية بالجملة. سينما سعيد استوحت المرارة من معاقبة الذات وهزيمتها؛ ليجعل مخرج الفيلم من سيناريو (كتبه بالاشتراك مع عبد اللطيف عبد الحميد وعلي وجيه) نوتة لحركات كاميرته وتنقلاتها بين مدن أتى عليها الخراب وجبال خضراء تتلامح في سديمها البصري البعيد، مطارداً السينما ككرة طائرة بين فتيات فريق نسائي؛ غزلت حكاياتهن خيوط وأحداث فيلمه الصادم.

هذا التطور الدراماتيكي لأحداث الفيلم يبدو في حياة قلقة ومبعثرة يشارك الكومبارس فيها بتوظيفٍ فني لافت وعلى نحو مختلف ومتباين، وصولاً إلى تركيب لوني حققه مخرج «بانتظار الخريف» من الدم والنار والشجر الأسود، لتتطور القصة بشكل ديناميكي يعيد المخرج ترتيبها وفق مونتاج متوازٍ لماضي الشخصيات التي تموت أمام الكاميرات، أو تتهاوى عند عتبات أحلامها مضرجةً بورودها وصرخاتها المخنوقة.

هي إذاً مواجهة جديدة خاضها سعيد مع شوارع الحرب وغابات الركام والرغبة بالنجاة ومقاومة العبث والقتل اليومي بالضحكات، مراهناً على إنقاذ الصورة من التزوير والتقريرية ونزعات الصورة البديلة، فالسينما في «بانتظار الخريف» تقول إن الحياة ليست سوى فيلم طويل من أفلامها، يقول (سعيد) ويضيف: «السينما التي أبحث عنها اليوم هي سينما هوية، بمعنى أن تكون سينما أصيلة مرتبطة ببيئتها وتعكس شكلاً فنياً يفسر علاقة الإنسان بالكون والحياة والأرض، هناك محاولة لأحقق فيلماً روائياً يكون في ذروته وثائقياً والعكس صحيح».

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل