المحتوى الرئيسى

مشاريع صهيونية لتخليد واقع بحركات شكلية

12/28 02:15

رغم انشغال العرب كثيرا بهمومهم ومشاكلهم الداخلية وصراعاتهم الطاحنة وابتعادهم، إلا ما ندر، عن الاهتمام بإسرائيل، فإن إسرائيل لا تملك ترف عدم الانشغال بالعرب لأسباب كثيرة بينها أن وجودها في جوهره هو تعبير عن تفسخ الحالة العربية. ومع أن الانشغال بالعرب لا يقتصر فقط على الفلسطينيين سواء من يعيشون داخل الخط الأخضر أو في الاراضي المحتلة عام 1967، بل يتجاوز ذلك إلى العرب عموما خصوصا في دول المحيط، فإن ذلك لا يمنع انشغالات إسرائيل بذاتها.

والانشغالات الإسرائيلية بالذات كبيرة جدا. وحتى إن كان الوجه الأبرز لهذه الانشغالات أمني وعسكري بدرجة كبيرة، فإن الجانبين الاجتماعي والاقتصادي صارا مع الوقت يشكلان بعدا آخر للأمن القومي. وليس صدفة أنه منذ أكثر من عقد من الزمان اعتمد مؤتمر هرتسيليا مقياسا أكاديميا للمنعة القومية على أساس اجتماعي اقتصادي بوصفه ركيزة هامة من ركائز الأمن القومي. كما أن التظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل التي رافقت الشهور الأولى من «الربيع العربي» قبل أربع سنوات دفعت الكثيرين من المفكرين في الدولة العبرية لاعتبار البعد الاجتماعي-الاقتصادي خطرا وجوديا لا يقل أهمية عن الخطر الأمني.

وازداد الانشغال بالذات في أعقاب تجلي الانزياح اليميني المتزايد في المجتمع الإسرائيلي حيث باتت الهوامش السابقة تنتقل إلى المركز لتؤثر فيه بقوة بل ولتقوده. وتبدى الأمر في البداية في انتقال الطليعة من الكيبوتسات ذات الطبيعة الاشتراكية إلى المستوطنات ذات الطبيعة الدينية. ورغم أن الدين، لعب منذ اللحظة الأولى، دورا مركزيا في العقيدة الصهيونية، إلا أن التوازن الذي كان قائما بين العلمانية والدين تحطم وباتت الغلبة للفكر والسلوك الدينيين. وما تولي متدينين بشكل متزايد المناصب الكبرى في الدولة إلا بعض من تجليات هذه الغلبة. فثلاثة من بين قادة الأجهزة الأمنية الأهم في إسرائيل باتوا من معتمري القبعة الدينية بعد أن تولى رئاسة الموساد يوسي كوهين لينضم إلى الثنائي رئيس الشاباك يورام كوهين والمفتش العام للشرطة روني ألشيخ.

غير أن الوضع بدا مؤخرا وكأنه ينزلق في مسار بالغ الخطورة إثر الحملات التي شنها مستوطنون، بينهم وزراء، على جهاز الشاباك بعد اعتقاله خمسة من المتطرفين اليهود بتهمة حرق بيت الدوابشة وإحراق أفراد العائلة في قرية دوما. وظهر أن الحملة يقودها حاخامات ورجال سياسة في مشهد أعاد إلى الأذهان وقائع سابقة كانت أقل حدة بينها اغتيال رئيس حكومة. وصار كثيرون يراجعون مواقفهم حول البداية التي انطلق منها «صبية التلال» ممن صاروا ينادون علنا بغلبة قوانين الشريعة على قوانين القضاء والكنيست. ولم تعد المسألة دعوة بل صارت فعلا يتمثل بكسر احتكار الدولة العبرية لحق استخدام العنف وتبرير ممارسته وفق فتاوى ومواقف.

ومعروف أن حاخامات يهودا يفتون ليس فقط بسرقة العربي واغتصاب أرضه وأملاكه وإنما أيضا بقتله. وبين هؤلاء من يفتي بأن قتل العربي، حتى لو كان رضيعا، هو في نهاية المطاف تقرب إلى الله. ومن الجائز أن حكم محكمة إسرائيلية بعدم جنائية مؤلف كتاب «توارة الملك» والتي تحوي دعائم تبرير قتل العربي وسلبه أملاكه باعتبار ذلك «حرية تعبير» مجرد مثال على تقبل المؤسسة الإسرائيلية لذلك. وهناك بين المعلقين من يقول أن ليس ثمة فارق كبير بين فتوى دينية تجيز سلب العربي أملاكه وحكم قاضي محكمة عليا بجواز زراعة اليهودي لأرض فلسطينية خاصة.

في كل حال، فإن السجال الكبير الدائر في إسرائيل هذه الأيام حول من يمتلك الصلاحية الأعلى، القانون أم الشريعة، القائد العسكري أم الحاخام، القيادة السياسية أم الدينية، هو جزء من سجال قديم لكنه هذه المرة أكثر صخبا من أي وقت مضى. وتكمن أسباب علو الصخب في حقيقة أن أنصار المرجعية الدينية لم يعودوا طرفا صغيرا في المعادلة، بل صاروا قوة مركزية فعلية. وهؤلاء، بإسناد من اليمين القومي، صاروا أصحاب النفوذ الأكبر في الدولة العبرية حيث لم يعد النقاش يدور حول قضايا فكرية وإنما أساسا حول صورة الدولة كما يريدون.

وتسن الكنيست بشكل متزايد قوانين تعزز فرض رؤية محددة قومية ودينية تجعل الاختلاف في الوسط اليهودي متعذرا. وربما أن بين ضحايا هذا التعذر ما يعرف بجماعة «تحطيم الصمت» التي تحاول أن تشكل نوعا من الرقابة لمنع انحدار الجيش الإسرائيلي إلى مواقع أدنى أخلاقيا. ويتزايد الإقرار في صفوف اليمين والوسط بأن جماعة «تحطيم الصمت» تخون المجتمع الإسرائيلي وهو إقرار يجد من يناقضه حتى بين عدد من قادة الأجهزة السابقين. ولكن المسألة في جـــوهرها ليست صحة أو عدم صحة بقاء مثــل هذه المجموعة وإنما محاولة اليمين المتطرف إعادة صياغة البنية العامة للمجتمع الإسرائيلي. وهنا أيضا يأتي «قانون الجمعيات» الذي يعتبره كثيرون أقرب إلى القوانين المكارثية.

نرشح لك

Comments

عاجل