المحتوى الرئيسى

السادات وما أدراك ما السادات (2)

12/27 20:52

عن الحقائق والأكاذيب في علاقة السادات بثورة يوليو ـ كيف تحولت الثورة التي وصلها السادات متأخراً إلى "ثورة يوليو التي أعلنها الرئيس السادات" في مناهج المدارس ـ لماذا أعاد السادات تسجيل بيان الثورة

بعد سنين؟ ـ جيهان السادات: التقيت مع أنور بالملك فاروق وخفت على نفسي عندما نظر الملك إلي طويلاً ـ السادات لموسى صبري: عبد الناصر له دين في رقبتي لأنه تولى قيادة الضباط الأحرار بدلاً مني! ـ هيكل يسأل عبد الناصر: لماذا أدخلت السادات في التنظيم برغم تاريخه الغامض ـ السادات يقول لرونالد ريجان أنه شاهد ليلة الثورة فيلماً من تمثيله بينما كان يتفرج ليلتها على الريحاني وكاريوكا. إذا كانت محاولة كتابة قصة التحاق أنور السادات بالعمل السياسي أمراً صعباً، كما أوضحت في الحلقة الأولى، فالحقيقة أن كتابة قصة علاقته بثورة يوليو أمر أشد صعوبةً، وأكثر غموضاً، ستكتشف هذا بنفسك، وأنت تقرأ كل المذكرات والشهادات التي تحدثت عن تلك الفترة، وأحاول عرض أهم ما جاء فيها في السطور التالية: في أغسطس/آب عام 1948، صدر الحكم ببراءة أنور السادات في قضية اغتيال أمين عثمان التي كان المتهم رقم 7 فيها، وخرج السادات من السجن بعد 31 شهراً قضاها فيه، ليجد نفسه عاطلاً عن العمل، بعد أن تم فصله من الجيش، فيبدأ العمل في المقاولات مع صديقه القديم حسن عزت، وبالتحديد في مدينة السويس، حيث التقى لأول مرة بزوجته الثانية وشريكة حياته، جيهان صفوت رؤوف، والتي خطبها من أهلها في 29 سبتمبر/أيلول 1948، وتزوجها في 29 مايو/أيار 1949، والغريب أن السادات يروي أن سعي حسن لإلحاقه بالعمل معه لم يكن لوجه الله، بل لأن خلافاً نشب بين حسن وشركاء له، فأحب أن يخيفهم ببطل قضية أمين عثمان، حديث المجلات والصحف، مع أن الصحف والمجلات نفسها كانت قد نشرت براءته في القضية، ونشرت الأحكام التي أوقعت بزملائه، وفي مقدمتهم حسين توفيق، ولم يكن هناك ما يجعل منه مخيفاً لأحد. 

 وربما كان سعي السادات إلى تبرير قيام حسن عزت بإلحاقه بالعمل، وراءه ما سبق أن تردّد عن كون التحاقه بالعمل الذي در عليه مكاسب مالية كبيرة، قد جاء بدعم خفي من القصر الملكي الذي قرر مكافأة السادات على خدماته له، وهو ما أشار إليه محمد حسنين هيكل في (خريف الغضب)، حين قال إن حسن عزت حصل على تمويل من القصر لكي يعمل في المقاولات، ثم صدرت له إشارة بأن يشرك معه السادات في عمله.

بالتأكيد سيشكك بعضهم في هذه الرواية، لما يعلمونه من تحامل هيكل على السادات بأثر رجعي، لكن الحقيقة أن السادات نفسه يعترف بأنه كان على علاقة وثيقة بيوسف رشاد، طبيب الملك الخاص، إلى درجة أن الشيخ حسن البنا، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، والذي وقف مع أسرة السادات خلال سجنه، طلب منه، بعد خروجه من السجن، أن يرتب له لقاء مع الملك فاروق، في إطار سعي جماعة الإخوان إلى نيل رضا القصر، بعد مرحلة حدث فيها خلاف بين القصر و"الإخوان"، بعد طول مودة ووفاق. وبالفعل، أبلغ السادات طلب البنا ليوسف رشاد، لكن يوسف أبلغه رفض الملك فاروق، وقد روى السادات ذلك في كتابه "صفحات مجهولة" الذي صادره بعد ذلك. بالطبع، لم يرو السادات هذه الواقعة المهمة في مذكراته المعدلة، لكنه في "البحث عن الذات" يعترف بعلاقته الوثيقة بيوسف رشاد، حيث يقول إنه، بعد فترة من العمل في الصحافة بوساطة من إحسان عبد القدوس، وبعد أن تزوج من جيهان، عاد ثانية إلى العمل مع حسن عزت، لكنهما اختلفا مالياً، وكان لا بد له أن يترك العمل معه. ولذلك، قرر أن يلجأ إلى صديقه يوسف رشاد "الطبيب في الحرس الملكي"، والذي كان قد تعرف عليه خلال خدمتهما العسكرية عام 1941، وأهداه يوسف كتاباً، يقول إنه ترك في نفسه أثراً عميقاً، هو كتاب جون ستيوارت ميل "النظام الشمولي والحرية والحكم النيابي".

وبالطبع، كلنا نعرف من تأمل مسار الحياة النيابية في مصر أي أثرٍ، بالضبط، تركه ذلك الكتاب في نفس السادات. طلب السادات من صديقه يوسف رشاد التوسط لإعادته إلى الجيش، وهو ما حدث، بعد لقاء تم بتاريخ 10 يناير/كانون ثاني 1950 مع الفريق حيدر باشا، قائد عام القوات المسلحة. ويروي السادات أن حيدر باشا عامله في ذلك اللقاء بعنف، وقال له "أنت ولد مجرم تاريخك أسود"، وحين حاول السادات أن يتكلم، قال له "لا تفتح فمك على الإطلاق"، ثم دق الجرس ليدخل كاتم أسراره، فيقول له حيدر باشا "الولد ده ترجعه الجيش النهارده".

وبالطبع، لم يكن ذلك ليحدث الرجوع السريع، من دون موافقة (أو أمر) من القصر الملكي، خصوصاً وأن السادات، كما قال بنفسه، لم يكن شخصية مجهولة، بل كان "حديث الصحف والمجلات"، ولعل ما يقطع بوجود دور مباشر للملك في إرجاع السادات إلى الجيش، ما ذكره السادات بنفسه في مقال كتبه ونشرته جريدة مايو عام 1981، حيث قال إنه ذهب مرة مع زوجته جيهان إلى نادي السيارات في الإسكندرية، ليقابل يوسف رشاد.

وهناك، فوجئ بالملك فاروق جالساً في النادي، وبصحبته يوسف رشاد وآخرون، فجلس السادات وجيهان في طاولة قريبة منهما، وجاء يوسف ليرحب بهما ترحيباً شديداً، قائلاً للسادات: "سألني الملك عندما دخلت ورآك: أليس هذا صديقك، يا يوسف، الذي توسطت لإعادته إلى الجيش".

بالمناسبة، تؤكد تلك الواقعة جيهان السادات في مذكراتها "سيدة من مصر"، وتضيف أن الملك فاروق ليلتها أخذ ينظر إليها طويلاً "حتى خفت على نفسي"، بنص تعبيرها، لكنها لم تقل كيف كان رد فعل السادات على تلك النظرات الملكية الطويلة والمخيفة. "دين في رقبتي" بعد عودة السادات إلى الجيش في 15 يناير/كانون ثاني 1950، جاءه في منزله الجديد في المنيل للتهنئة كل من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، ويروي السادات أن عبد الناصر قال له إن تنظيم الضباط الأحرار أصبح أوسع انتشاراً، وإن قوته تشتد يوماً بعد يوم، وطلب منه أن يتقدم لامتحان الترقية في الجيش، وألا يقوم بأي نشاط سياسي واضح "لأنني، بسبب تاريخي النضالي، لا بد أن أكون بطبيعة الحال مراقباً"، ولم يفسر السادات كيف يقول له عبد الناصر ذلك، بينما هو يزوره مع عبد الحكيم عامر في بيته، من دون أي احتياطات، بل ويدعوه من أول لقاء، ومن دون أي احتراز، لاستئناف علاقته بالتنظيم "السري".

لكن السادات ينتهز فرصة الحديث عن تلك الزيارة، لتذكير القارئ بأن عبد الناصر تسلم قيادة التنظيم من بعده، وأنه أزاح عبد المنعم عبد الرؤوف "الرجل الثاني من بعدي، ليتولى قيادة التنظيم بدلاً منه"، وهو ما تنفيه شهادات كل من شاركوا في إنشاء تنظيم الضباط الأحرار، على اختلاف توجهاتهم، بما فيهم الذين دخلوا في صراع حاد مع عبد الناصر، لكنهم، مع ذلك، يجمعون على أن السادات لا علاقة له بإنشاء التنظيم، وأنه لم يكن في الخلية الأولى للتنظيم، كما زعم، بعد ذلك في مذكراته التي كتبها بالطبع بعد سنين من وفاة عبد الناصر "الله يرحمه"، بل إن عبد اللطيف البغدادي يضيف مفارقة مدهشة في مذكراته، حين يقول إنه عندما اقترح عبد الناصر على قيادة تنظيم الضباط الأحرار ضم السادات، في نهاية عام 1951، وافق الجميع، إلا عبد المنعم عبد الرؤوف الذي وصفه السادات بأنه كان "رجله الثاني".

في الإطار نفسه، وفي حوار للسادات مع صحافيه المقرب موسى صبري، سبق نشر كتاب "البحث عن الذات"، نجده يقول: "عبد الناصر تولى أمر تنظيم الضباط الأحرار عندما اعتقلت، وبعد خروجي من السجن، لم يكن لي مكان في الوضع الجديد، وكان من الممكن أن يخشاني عبد الناصر، ورغم أن هذه طبيعة عبد الناصر، فإنه لم يشك فيّ، وأدخلني قيادة التنظيم، وقلت لعبد الناصر إلى أن أموت لك هذا الدين في رقبتي".

لكن السادات نسي هذا الكلام بعد ذلك، حين كتب "البحث عن الذات"، وقال، بصريح العبارة، إن عبد الناصر لم يدخله التنظيم لوجه الله والوطن، نافياً أن يكون صديقاً لعبد الناصر، على الرغم من أنهما تعارفا سوياً في سن التاسعة عشرة، متحدثاً عن عبد الناصر بلهجةٍ تختلف عن لهجة المودة الطافحة في سطور كتاب "يا ولدي هذا عمك جمال".

انظر، مثلاً، إلى هذه السطور التي يقول فيها السادات: "كانت علاقتنا علاقة احترام وثقة، من جانب كل منا، وليست صداقة على الإطلاق، فلم يكن من السهل على عبد الناصر أن ينشئ علاقة صداقة بمعنى الكلمة مع أي إنسان، وهو المتشكك دائماً الحذر المليء بالمرارة العصبي المزاج". طيب، ما هو إذن تفسير حرص عبد الناصر، على الرغم من شخصيته الشكاكة والحذرة، على ضم السادات إلى التنظيم؟، التفسير ببساطة، كما يراه السادات، هو ذكاء عبد الناصر الذي "أحس أنني قوة لها تجربتها وتاريخها، وأنه سيحتاج هذه القوة لتسانده في الصراعات".

ومن البديهي أن يثور، هنا، سؤال يلح على كل من يدرس تاريخ هذه الفترة: إذا كان الكل، وفي مقدمتهم عبد الناصر، يعرفون صلة السادات بالقصر، ويعرفون تاريخه الغامض الحافل بالتناقضات، فلماذا يدعوه عبد الناصر إلى الدخول في قيادة التنظيم، بكل هذه البساطة التي تصل إلى حد السذاجة؟، يجيب محامي عبد الناصر الأول والأبرز، محمد حسنين هيكل، على هذا السؤال، مرجحاً الرأي الذي يقول إن عبد الناصر وضع السادات تحت الاختبار، لكي يستغله في معرفة تنظيم الحرس الحديدي المقرب من القصر، والذي كان السادات يعمل معه، لكي يعرف ما إذا كان الملك سيفكّر في استخدام التنظيم ضد الضباط الأحرار، لو أحس بوجودهم. لكن هيكل نفسه في موضع آخر من "خريف الغضب" يكشف، من دون أن يقصد، أنه ليس مقتنعاً بهذا التبرير، حيث يروي أنه سأل عبد الناصر مرة هذا السؤال الذي كان يشغل هيكل، فقال له عبد الناصر إنه كان يريد أن يضع في إطار حركته كل الضباط الذين اقترن اسمهم بالعمل السياسي في مصر، ليفتح بذلك صفحة جديدة معهم ويستفيد التنظيم منهم، قبل أن يقول له عبد الناصر إنه كان يحتاج إلى ضباط من سلاح الإشارة، لتأمين التليفونات، "فقد كان ذلك من أهم العقد التي تواجهنا في الإعداد لخطة الثورة".

وستلاحظ، بالطبع، أن هذا التبرير مختلف عن التبرير الذي سبقه، فضلاً عن عدم منطقيته، لأنه ليس معقولاً أن تكشف أسرار تنظيمك بالكامل لشخص تراه غامضاً، لمجرد أنك تحتاج خبرته التقنية التي يمكن أن تتوفر لدى آخرين أكثر منه تخصصاً، بالإضافة إلى أن إجابة عبد الناصر كما نقلها هيكل، إن صحت، تفيد بأن عبد الناصر كان موافقاً على أن تاريخ السادات غامض ومريب، كما تفيد، أيضاً، أن هيكل نفسه كان له رأي سلبي في السادات، وقت حياة عبد الناصر، وهو ما يدفع لألف سؤال وسؤال عن سر انحياز عبد الناصر للسادات ليختاره نائباً له على الرغم من ذلك. وعن سر انحياز هيكل للسادات في صراعه مع من أطلق عليهم اسم "مراكز القوى"، وسأترك لك الحكم على صحة هذه الرواية، بعد أن تتأمل كل تلك الأسئلة. لكن، دعني أقول إنه ربما كان أقرب تفسير إلى المنطق أن السادات، بخبرته في العمل السياسي، قد أدرك أن الرهان على الملك بات خاسراً، خصوصاً بعد هزيمة حرب فلسطين التي وقعت وهو في السجن، وبعد أن وصل السخط الشعبي على الملك إلى أقصى مدى داخل الجيش وخارجه، حيث بدأت حركة الشارع الغاضبة تنبئ لكل متأمل عن فقدان الشارع الثقة في كل الأحزاب السياسية، ولعل ذلك ما دفع أعرقها، وهو حزب الوفد، إلى محاولة تجديد دمائه، بإنشاء الطليعة الوفدية لاجتذاب الشباب المؤمن بالأفكار اليسارية، ولعل ذلك كله دفع السادات لأن يراهن على قوة مشروع الضباط الأحرار، وألا يلعب دور العميل المزدوج، مثلاً، بل أن يكون ناصحاً مخلصاً لعبد الناصر، وهو ما لم يندم عليه فعلاً فيما بعد.

بعد عودة السادات إلى تنظيم الضباط الأحرار، ظل مبعداً عن الدوائر العليا للتنظيم، فالثابت أنه، حتى نهاية سنة 1951، لم يحضر سوى اجتماعين. وهنا، قرّر السادات بذكاء أن يجيد توظيف علاقته بيوسف رشاد، حيث نقل، في الاجتماع الثاني، معلومات عن تحركات الملك فاروق، كان قد سمعها من يوسف رشاد الذي كان لا يزال محتفظاً بعلاقته الوثيقة به، فأثارت تلك المعلومات اهتمام عبد الناصر، ليقرّر فجأة اصطحاب السادات إلى اجتماع اللجنة التأسيسية، ليجد السادات نفسه لأول مرة في مستوى قيادي أعلى، ولذلك قرّر أن يستغل علاقته بيوسف رشاد لتدعيم تلك النقلة، لكي لا يعود ثانية إلى درجة أقل. يقول السادات في مذكراته: "وجدت يوسف رشاد يأخذ كل ما أقوله أمراً مسلماً به، فلا جدال ولا مناقشة ولا شك من أي نوع، الطريق مفتوح، إذن، لتضليل الملك وتخديره، حتى يقوم تنظيمنا بالثورة... كنت أقدم له معلومات خاطئة، وعندما كان يعرض عليّ منشورات الضباط الأحرار، كنت أوهمه أنها من صنع خيال ضابط معروفٍ بحب التظاهر والعظمة، ولكنه في الحقيقة لا حول له ولا طول، وعندما كانت تصل إليه بعض الحقائق، كنت أعمل جاهداً على تصويرها في عينيه على أنها أكاذيب ومبالغات".

لا يكتفي السادات، في مذكراته، بالتفاخر بهذا الدور، على الرغم من أهميته، فهو يحرص على الظهور بمظهر كاتم أسرار عبد الناصر، حيث يروي أن جمال عبد الناصر كان يهرع إليه فور عودته من رفح، ليشكو له من المصاعب التي يلاقيها من بعض أعضاء التنظيم، وهو ما يصفه هيكل بأنه "صورة خيالية" لا أساس له من الصحة، لأن صداقة ناصر كانت أقوى بضباط آخرين غير السادات، وفي مقدمتهم عبد الحكيم عامر الذي كان يعرف عن عبد الناصر أدق تفاصيل حياته الخاصة، فضلاً عن العامة. يزعم السادات، أيضاً، أنه نصح ناصر، في 1951، بألا تلجأ الثورة لفكرة الاغتيالات، على أساس أن السادات كان خبيراً فيها وأدرك أنها لا تفيد، والحقيقة أنك لن تجد في مذكرات شركاء التنظيم جميعاً ما يدعم هذه الرواية، بل على العكس ستجد ما يناقض رواية السادات، أو على الأقل، يكشف أن عبد الناصر لو كان قد تلقى نصيحة السادات بالبعد عن الاغتيالات، فهو لم يلق لها بالاً، حيث يروي خالد محيي الدين، في مذكراته "والآن أتكلم"، أن عبد الناصر تورّط في محاولة لاغتيال حسين سري عامر، من دون أن يرجع إلى قيادة التنظيم، وعندما عاتبه زملاؤه على ذلك، بعد فشل المحاولة، قال لهم إنه لم يكن يحب أن يورّط أحداً معه.

على أية حال، كان لتلك المحاولة الفاشلة أثر كبير على تفكير عبد الناصر، حيث دفعته للتركيز على حشد أكبر عدد ممكن من الضباط المهمين، للتسريع بحدوث "الانقلاب العسكري" الذي كان مخططاً له في البدء أن يقع في عام 1955، لكن المعلومات التي كان يجلبها السادات من يوسف رشاد عن الملك، وارتباكه الشديد، خصوصاً بعد حريق القاهرة وقلقه من منشورات الضباط الأحرار، وتفكيره في توجيه ضربة وقائية لضباط الجيش المشكوك فيهم، كان لها أثر كبير في قرار عبد الناصر تسريع قرار التحرك وتقديم موعده، وهو ما يعبر السادات عنه بعد إضافة "تاتشه" الخاص، حين يقول: "أنا وعبد الناصر بتنا نقتنع أن حركة الضباط الأحرار لن تجد مقاومة تذكر من جانب الملك، ولذلك، جمعنا الهيئة التأسيسية في فبراير 52، وقررنا قيام الثورة في نوفمبر 52". وبالطبع، حين تقرأ كتاب "صفحات مجهولة"، سيطير حرف النون من رواية السادات، وستجد أن الحديث يركّز دائماً على مركزية دور عبد الناصر في التخطيط لما جرى في يوليو، وتنسيق جهود المشاركين فيه، والمضحك أن مشروع الخطة الأصلية للتحرك يوم 23 يوليو 1952 والمكتوب بخط يد عبد الناصر، يعطي للسادات مهمة وحيدة هي قطع الاتصالات التليفونية في أثناء تنفيذ المراحل الأولى للتحرك، في حين يتحدث السادات في "البحث عن الذات"، كما لو كان، هو وعبد الناصر، يخططان للثورة خطوة بخطوة. 

حين اقترب الموعد المحدد للتحرك في ليلة 23 يوليو، كان السادات موجوداً في رفح وقتها، وأرسل له عبد الناصر رسالة مع حسن إبراهيم، تسلمها السادات في مطار العريش، يطلب منه النزول إلى القاهرة يوم 22 يوليو، "لأن الثورة قد تحدد لقيامها ما بين 22 يوليو و5 أغسطس"، ووصل السادات بالفعل إلى القاهرة في الموعد المحدد في الرسالة، لكنه لم يجد عبد الناصر بانتظاره في محطة السكة الحديد، كما قيل له في الرسالة، "فقلت إن الوقت لم يحن بعد".

وهنا، لا بد أن نتوقف عند واقعة السينما الشهيرة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، ودفعت كثيرين لاتهام السادات بأنه قرر أن يلعب على الحبلين، ليؤمن نفسه في حالة فشل الثورة، إلى درجة أنه افتعل خناقة هناك، اعتبرها بعضهم رغبة في إثبات وجوده في السينما. لكن السادات يقول إنه، بعد أن أخلف عبد الناصر موعده معه، قرّر أن يذهب مع زوجته جيهان إلى سينما الروضة، والتي أصبح اسمها بعد ذلك سينما منيل بالاس، وقد ظلت تعمل حتى منتصف التسعينات.

وكنت أنا وبعض زملائي في الصحافة نتندر بواقعة ذهاب السادات إليها كلما دخلناها، لنسأل في ظل الموات السياسي الذي كان يكتنف مصر وقتها: يا ترى هل يوجد بين الزبائن الآن من يشترك في ثورة لإطاحة مبارك، أو يخطط للهروب من مسؤولية ثورة، حتى أننا، في إحدى المرات، انفجرنا في الضحك، حين رأينا خناقة اندلعت في السينما، لأن ذلك ذكرنا بالخناقة التي قام بها السادات ليلة الثورة، وقال بعضهم إنه افتعلها لإثبات وجوده في السينما، إذا فشلت الثورة. 

حين عاد السادات مع زوجته في منتصف ليلة 23 يوليو 1952 من السينما التي كانت كعادتها تعرض ثلاثة أفلام "في بروجرام واحد"، وجد في انتظاره "كارت" من عبد الناصر يطلب فيه أن يقابله في منزل عبد الحكيم عامر، بل وعلم السادات من البواب أن عبد الناصر جاء إليه مرتين في تلك الليلة، وهو ما يمكن تفسيره بإدراك عبد الناصر أهمية وجود السادات، أو لقلقه من غيابه المفاجئ.

بالمناسبة، حين التقى الصحافي الناصري، عبد الله إمام، عضو مجلس قيادة الثورة، حسن إبراهيم، والذي حمل رسالة عبد الناصر إلى السادات في مطار العريش، وسأله عن واقعة السينما، قال له حسن إنه ليس مقتنعاً بمبرر السادات، لأن السادات كان يدرك أهمية أن يرسل إليه عبد الناصر رسالة شخصية للحضور إلى القاهرة، وبالتالي، كان عليه إذا لم يجد عبد الناصر أن يذهب للبحث عنه، بدلاً من أن يهرب، ويبرر عدم وجوده ليلة الثورة بأن عبد الناصر لم يستقبله.

في تحقيقه التاريخي لواقعة ذهاب السادات إلى السينما ليلة الثورة، يؤكد الكاتب رشاد كامل أن الواقعة لم تكن سراً مجهولاً تم اكتشافه رغماً عن أنف السادات، كما يصور بعضهم، فالسادات كتب الواقعة بنفسه في صحيفة الجمهورية عقب الثورة، وأعاد روايتها بشكل عادي أكثر من مرة، ولم يحملها بعضهم أكثر مما تحتمل، إلا بعد موت السادات للانتقاص منه، بدليل أن عضواً آخر لمجلس قيادة الثورة، هو عبد المنعم أمين، ذهب ليلتها أيضاً إلى السينما، واعترف بذلك صراحة، لكن لأنه لم يكن يمتلك عداوات السادات، لم يتوقف أحد عند هذه الواقعة. وفي تحقيقه لروايات سينما ليلة الثورة، يكشف رشاد كامل وجود تناقضات عديدة في الروايات، لكن المؤكد أن السادات وجيهان شاهدا في تلك الليلة ثلاثة أفلام هي "القطة المتوحشة ــ غرام ثائر ـ لعبة الست"، طبقاً لإعلان نشرته جريدة المصري، والمثير أن ميول السادات الدرامية جعلته، بعد تلك الليلة بسنوات، يقول للرئيس الأميركي رونالد ريغان، حين التقاه أول مرة في صيف 1981، أن أحد الأفلام التي شاهدها، في تلك الليلة، كان من بطولة ريغان، وهو ما لم يكن صحيحاً بالمرة، لكن ريغان لم يسأل السادات حتى عن اسم الفيلم، بل قال له ضاحكاً "هكذا كان لي دور في الثورة المصرية من دون أن أعرف". البيان رقم 1 ولكيلا نتوقف أطول من اللازم عند محطة ليلة الانقلاب، أو الحركة المباركة، التي تحولت بعد ذلك إلى "ثورة يوليو المجيدة"، وصل السادات إلى مقر رئاسة أركان حرب الجيش، بعد أن كانت خطة التحرك العسكري والاستيلاء على مفاصل البلد قد تمت بنجاح، بما في ذلك مهمة تأمين التليفونات التي كانت موكلة إلى السادات، والمثير أنه تم منع السادات، وقتها، من دخول مقر رئاسة الأركان، لأن أحداً من الحرس لم يتعرف عليه، فظل ينادي على عبد الحكيم عامر من خارج المقر، بعد أن سمع صوت عبد الحكيم قادماً من بعيد، ليأمر عبد الحكيم الحرس بإدخال السادات، وبالمناسبة رآه هيكل ليلتها، لأنه كان موجوداً في المقر، وكانت تلك الليلة محطة مهمة في علاقة عبد الناصر بهيكل الذي يقول إنه لاحظ أن السادات كان يبدو مشدوهاً من النجاح المذهل لخطة الثورة.

يبدو، هنا، أن عبد الناصر لم يتوقف عند غياب السادات طويلاً، ولم يأخذ ذلك بسوء نية، بدليل أنه طلب من السادات أن يذهب لإلقاء بيان الثورة رقم 1 في أستديو الإذاعة، قائلاً له: "لأن لديك صوتاً قوياً، وأنت تجيد الإلقاء". وقد لا يعرف الكثيرون أن بيان الثورة رقم 1 تم تسجيله بعدة أصوات، منها جلال معوض وصلاح زكي واليوزباشي محيي الدين خلف الله، لكن كل البيانات تم تهميشها وحجبها بعد ذلك تماماً، ليبقى البيان الذي ألقاه السادات بصوته، ويصبح ذلك البيان جزءاً من شرعية السادات رئيساً، قبل أن يخوض قرار العبور في أكتوبر/تشرين الأول 1973، فتتوارى "شرعية يوليو" وتحل بدلاً منها "شرعية أكتوبر"، وحتى بعد ذلك، ظلت ثورة يوليو توصف في الكتب المدرسية، بأنها "ثورة يوليو التي أعلنها الرئيس السادات"، وهو بالطبع ما لم يكن يقال في عهد الزعيم الأوحد جمال عبد الناصر، الذي توارى في ظل حكمه دور زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة، بل وتم تماماً تغييب دور شخص، مثل يوسف صديق، لم يكن ممكناً أن تنجح الثورة لولا قيامه، وذلك بعد خلافه مع عبد الناصر في أزمة مارس/آذار 1954.

فيما يخص البيان رقم 1 أيضاً، يروي الصحافي عبد الله إمام في كتابه "حقيقة السادات" طبقاً لشهادات عاملين في الإذاعة المصرية، أن البيان الذي ظل متداولاً حتى الآن بصوت السادات، لم يكن البيان الأصلي الذي سجله السادات فجر الثورة، وأن السادات أعاد تسجيل البيان بصوته بعد وصوله إلى الرئاسة، في ظل ظروف أفضل نفسياً وفنياً وهندسياً، معتبراً أن ذلك كان جزءاً من هواية السادات التمثيلية التي لازمته حتى اللحظات الأخيرة. والمضحك أن السادات يروي، في مذكراته، واقعة البيان كالآتي "هكذا كانت فرحتي بها، أكبر وأجمل من أن أتحملها وحدي. ولذلك، ما إن طلع صباح 23 يوليو 1952، حتى هرعت إلى الإذاعة أعلن ميلاد الثورة، ليشاركني الناس ما أنا فيه من سعادة". وبالطبع، لم يجرؤ أحد ممن راجعوا الكتاب أو شاركوا في صياغته، أن يذكّر الزعيم بأن أحداً لن يصدّق أنه هرع من نفسه إلى الإذاعة، من دون أن يتلقى تكليفاً من عبد الناصر، ومن دون أن ينسق مع أحد.

كان السادات، في "البحث عن الذات"، يروي قصة اشتراكه في الثورة، بعد أن صار "آخر الفراعنة"، على حد تعبيره الشهير، ولم يعد مجرد ضابط وصل متأخراً ليلة الثورة (ظهرت الطبعة الأولى من الكتاب في إبريل/نيسان 1978). ولذلك، التزم بالعادة المصرية في كتابة التاريخ، وكان لا بد أن يحكي عن الثورة بوصفها حدثاً كان هو صانعه الأهم والأبرز، وليس مجرد ترس في عجلتها. تعال مثلاً لنقرأ هذا الموضع الذي يقول فيه: "والآن، وقد تحققت الرسالة، وشاركت أنا بالفعل في تحقيقها، فأعلنت ميلاد الثورة، وأخرجت الملك من البلاد، وواجهت بريطانيا التي كانت تمثل عدو الشعب رقم 1، وعلمته درساً كنت أتوق إليه من زمن"، أو مثلاً هذا الموضع الذي يقول فيه: "لا أعلم إذا كان من حسن حظي، أو العكس، أنني كنت الوحيد من بين أعضاء مجلس الثورة الذي كتبت عليه مواجهة جميع الأحداث، منذ إعلاني قيام الثورة إلى خروج الملك من مصر.

وتسبب هذا في خلق حساسيات كثيرة بيني وبين زملائي في مجلس قيادة الثورة، خاصة وأنني كنت الاسم الوحيد المعروف بينهم لدى الجماهير، نتيجة لنضالي السياسي الطويل، وبعد أن خلقت مني الصحف والمجلات بطلاً أسطورياً في قضية مقتل أمين عثمان".

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل