المحتوى الرئيسى

قراءة في سينما «عاطف الطيب» المخرج المنتقم للغلابه من الحكومة

12/26 22:03

لم يكن مجرد مخرجًا عاديًا، بل من الممكن القول إنه المخرج الوحيد الذي اعتبره رجل الشارع أحد أبطاله الخالدين، فهو المنتقم من سارقي الأحلام والقوت، صاحب القبضة التي تصطدم بوجه النفعية والوصولية، هو المخلص للطبقة الوسطى في فترةٍ حاولت المنظومة الاجتماعية الاقتصادية للدولة سحق تلك الطبقة ومحو أثرها من الوجود، هو الشرس أمام لصوص الأمل، هو الطيب في عين البسطاء والمهمشين النبلاء، إنه الطيب عاطف الطيب.

لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل التغيرات السياسية والاجتماعية عن سينما عاطف الطيب، الذي عاصر كافة التغيرات المحورية التي شهدها الوطن منذ ثورة 1952، وانكسر مع الأمه في 1967، وعبر مع العابرين إلى الكرامة في أكتوبر 1973، سعى إلى لقمة العيش محاربًا الغلاء والترف الزائف بعد سياسة الانفتاح، وشهد صعود الدولة البوليسية بعد اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، كل هذه المتغيرات عوامل أساسية في أفلام الطيب إن لم تكن هي الركن الأهم فيها.

سواق الأتوبيس.. صرخة في وجه الإنفتاح

في عام 1982 قدم عاطف الطيب من تأليف الثنائي محمد خان وبشير الديك؛ فيلمه الثاني «سواق الأتوبيس»، الذي انتقد فيه بكل جرآة تبعات نظام الإنفتاح الاقتصادي من خلال حسن سائق الأتوبيس نهارًا و سائق التاكسي ليلًا، الذي يعمل ليجد له مكانًا في وطن استفحل فيه الغلاء ليتحول إلى غول يلتهم الجيل الذي حارب في أكتوبر، ويتعرض حسن وعائلته لموقف مصيري بعد الحجز على ورشة والده لحساب الضرائب بعدما سرقها زوج شقيقته، ليلهث حسن خلف أشقائه من أجل مساعدته ولكن تخلى الجميع عنه، في إشارة واضحة للأنانية والتفكك الذي رسخهما نظام «الانفتاح» لدى طبقة من المصريين.

قدم عاطف الطيب في مشاهد الفيلم قراءة متأنية وصادقة لحال المجتمع المصري بعد أكتوبر، وجاءت مشاهد الفيلم معبرة عما تحول إليه المواطن المصري، فلا يمكن أن ننسى مشهد «الولية» الذي يقيمها شقيق زوجته الأخري وحيد سيف ومظاهر الابتذال والتفكك والإنحلال -إذا أمكننا القول- التي ظهرت بالمشهد، مشهد موجز لخص خلاله الطيب تحولات الشخصية النفعية في المجتمع المصري.

ومثلما كانت أحداث الفيلم صرخة في وجه هذا النظام النفعي جاءت نهايته انتقامًا من هذا النظام حيث يوجه "حسن " قبضته لكل سارقي القوت ومدعي الفضيلة ولصوص الأمل و الأحلام والمتخمين بدماء وعرق الشعب، بقبضته التي انتقمت لذلك المواطن قليل الحيلة مكسور الهمة بفعل الحاجة، مشوش الرؤية بفعل الزخرف الكاذب الذي يحيط به في الشوارع، ليخلق عاطف الطيب مساحة من الخصوصية والحميمية بينه وبين جمهوره.

التخشيبة وملف في الأداب.. رحلة في مجتمع متهاوي

في عام 1984 قدم عاطف الطيب فيلم «التخشيبة» من تأليف وحيد حامد وبطولة أحمد زكي، نبيلة عبيد، حمدي الوزير، وفيه تجد الطبيبة أمال " نبيلة عبيد" نفسها في مواجهة تهمة لا تعرف عنها شيئ لتبدأ رحلتها في محاولة إثبات براءتها، ولكن يصم الجميع آذانهم عنها و يعاملونها كمتهمة إلا من مجدي "أحمد زكي" المحامي الشاب، الذي يواصل معها رحلتها في إثبات برءاتها وينقذها قبل أن تتهاوى مثل المجتمع الذي اتهمها، قصة بسيطة كشف من خلالها الطيب كم العفن الذي أصاب المجتمع المصري، وجحم الانهيار الذي أصاب قيمه وأخلاقياته وفقدانه لمعاني الإنسانية، فالشاب العابث ابن الثري يسرق والده وحينما يكتشف والده السرقة يتهم الطبيبة التي حاول إغواءها فصدته مشمئزه، أما زوجها فلا يكلف نفسه عناء التفكير في الأمر و يصدق التهمة بل و يعاقبها عليها لتنهار حياتها رأسا على عقب.

الفيلم الذي جاء بعيًدا عن الرطانة السينمائية والخطابة، كان صادقًا كبقية أفلام الطيب، واضحًا ومباشرًا وبسيطًا مثل جميع أعماله، جاء الفيلم كأنين من مجتمع شارف على الانهيار بعدما إنهارت أخلاقياته و إنسانيته.

وفي عام 1985 قدم الطيب مع وحيد حامد فيلم «ملف في الأداب» بطولة مديحة كامل، فريد شوقي، أحمد بدير، ووحيد سيف، واعتبر الفيلم ناقوس خطر يدق ليعلن بداية نهوض الدولة البوليسية من جديد، حيث يحاول سعيد  صلاح السعدني" ضابط الآداب استرداد كرامته المهدرة بعدما أوقفه أحد أصحاب النفوذ من استكمال التحقيق في قضية لأسباب خاصة فيطلب من سيد القواد"وحيد سيف" أن يدله على بعض من زبائن المطعم الذي يعمل به ليلفق لهم قضية دعارة وإمعانا في التعذيب النفسي يجبر الضابط أحد الضحايا وهو كمال "أحمد بدير " على الإعتراف على زملائه وزميلاته مع وعد بتبرئة ساحته فيوافق كمال ثم يندم على فعلته ويعترف بالحقيقة.

قصة بسيطة كسابقتها يقدمها الطيب في ثوب إنساني شديد الألم، ليكشف معها القيمة الحقيقة لأقدار المواطنين ومصائرهم أمام الدولة البولسية حيث لا تساوي قيمة المواطن جزء من كرامة احد رجال النظام إذا أهدرت.

البرئ.. الناي في مواجهة قانون الطوارئ

وفي عام 1986 قدم عاطف الطيب مع السيناريست وحيد حامد فيلم «البرئ» بطولة أحمد زكي، محمود عبدالعزيز، ممدوح عبد العليم، وإلهام شاهين، الفيلم الذي على الرغم من زمن أحداثة التي كانت تدور في زمن أقدم من وقت تصويره وحمله للعديد من الإسقاطات على النظام الناصري والساداتي على حدٍ سواء إلا أنه جاء كصرخة جديدة يطل بها الطيب في وجه قانون الطوارئ عن طريق أحمد سبع الليل المواطن البسيط الذي يلتحق بالجيش ليجري غسيل عقله وإيهامه بدور زائف في حماية الوطن أثناء حراسته لعدد من المعتقليين السياسين وأصحاب الفكر المعارضين للنظام، بل إن هذا البرئ والساذج أحمد سبع الليل يتورط في قتل أحد المعتقلين " رشاد عويس" صلاح قابيل في إشارة واضحةٍ لحادثة مقتل المفكر والكاتب " شهدي عطية" إبان الحكم الناصري عام 1960.

وفي الفيلم الذي راقب انتاجه آنذاك أربعة وزراء هم: وزير الداخلية أحمد رشدي، وزير الدفاع المشير عبدالحليم أبو غزالة، وزير الثقافة أحمد هيكل، وصفوت الشريف وزير الإعلام، وقدم الطيب تحذيرًا شديد اللهجة من عواقب فرض الدولة لقانون الطوارئ والمصير المنتظر لمعارضي تلك الدولة البوليسية من مفكرين وكتاب وأصحاب رأي.

يذكر أن فيلم البرئ قد أقتطعت منه نهايته الأصلية لفترة طويلة، لتختار الرقابة ووزارة الثقافة نهاية مبتورة؛ لحين الانتهاء من التحقيق حول إذا كان الفيلم صور داخل معسكر اعتقال عسكرى بالفعل أم لا وإلى فترة قريبة كان الفيلم يذاع على التلفزيون المصري بتلك النهاية الركيكة التي اختارتها الدولة دون النهاية الأصلية التي قدمها الطيب.

كتيبة الإعدام.. لننتقم مجددًا من سارقي الأحلام

بحلول عام 1989 قدم الطيب مع أسامة أنور عكاشة فيلم «كتيبة الإعدام» بطولة نور الشريف، معالي زايد، ممدوح عبدالعليم، وشوقي شامخ، ليعاود الطيب انتقامه من سارق الأمل والحلم، عن طريق حسن عز الرجال "نور الشريف" الذي يُتهم ظلمًا في سرقة مرتبات ضباط وجنود الجيش الثالث بعد حرب أكتوبر، وتحديدًا أثناء حصار مدينة السويس، ليسجن حسن بتهمة زور ويخرج بعدها ليجد المجتعم المتفكك في انتظاره، ليبدء رحلة البحث عن ولده وطليقته الذان اختفيا بعد سجنه، وليجد نفسه مطاردًا من نعيمة سيد الغريب "معالي زايد" التي تظن إنه هو من قتل أباها و شقيقها فبل أن يسرق أموال الجيش، والظابط يوسف "ممدوح عبدالعليم" الذي يسعي وراء الأموال التي نهبها عز الرجال، ومن قوة مجهولة تضيق عليه الخناق أينما رحل.

ليكشف الطيب ما تحول إليه ابناء هذا الوطن وكيف أرتفع شان لصوص المقابر وقوت الشعب حتى يصلوا إلى قمه الهرم الإجتماعي في مصر، وينهي فيلمه بتكاتف الجميع الضابط ووكيل النيابة ونعيمة سيد الغريب وحسن عز الرجال للإنتقام ممن قتلوا الروح في هذا الشعب و سمموا أفكاره وأخلاقياته بسلع استهلاكية مزخرفة في مشهد إعدام " فرج الأكتع " أو " عزام أبو خطوة" عبد الله مشرف، كإشارة لتلك الظروف التي قادت المجتمع إلى التفكك والانهيار.

ضد الحكومة.. كلنا فاسدون حتى بالصمت العاجز الموافق قليل الحيلة

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل