المحتوى الرئيسى

كيف قرأ الغيطانى الخديوى إسماعيل

12/26 09:51

بدأتُ مقالى الأسبوع الماضى قاصدةً أن أكتب عن الخديوى إسماعيل.

وهو المقال الذى كنتُ قررتُ كتابته ردًا على آخر مقال كتبه الأديب الكبير جمال الغيطانى هنا فى "مبتدا": “إسماعيل المُفترى عليه" بتاريخ 15 أغسطس 2015، قبل أن يدخل فى غيبوبته الصوفية، شهرين، ثم يسافر إلى السماء ولا يعود، فإذا بمساحة مقالى قد انتهت ولم أذكر كلمة عن الخديوى المثقف عاشق الفن، إذ أصرّ القلمُ الحرونُ الآمرُ الناهى أن يكون المقال بكامله خالصًا خُلَّصًا للغيطانى وشجونه.

وها اليوم أحاول أن أتمّ ما بدأته الأسبوع الماضى، وكلى رجاءٌ ألا يخوننى قلمى هذا الأسبوع أيضًا، ليكتب عن العصفور الذى تركنا ورحل دون استئذان، لنفقد صرحًا أدبيًّا عزّ نظيرُه.

جلستُ إلى مكتبى يوم 16 أغسطس الماضى لأكتبَ هذا المقال وأردُّ بعض الحق للخديوى الذى أهدى مصرَ كنوزًا فريدة، ولكن الأخبار التى تواترت على صحائف الصحف عن دخول الغيطانى عتمة الغيبوبة ذهبت بحماسى لكتابة المقال، وكنتُ على سفر في أمريكا، فأضحت غُربتى غربتين؛ إذا أردف غيابى عن مصر، غيابُ أستاذى ومعلّمى فى مجهول الغياب.

ها هو القلمُ من جديد يعاندُ ويشاكسُ لكى يجرّنى إلى حقل الغيطانى من جديد، لكننى سأكسر أنفَه وأستأنف الكتابة عن إسماعيل باشا.

استهلّ الغيطانى مقاله بإقراره أنه ينتمى إلى جيل نشأ على حقائق مغلوطة بخصوص الماضى الممتد لقرنين من الزمان إلى الوراء، أدى ذلك إلى تكوين صورة غير حقيقية لعدد من الشخصيات العظيمة التى أسهمت فى تقدم مصر. ومن هؤلاء الخديوى إسماعيل، وكانت الصورة العامة التى تلقيناها منذ الصغر أنه ملك فاسد، خرَّب مصر وحمل ميزانيتها ما لا تطيق بسبب أنثى أعجب بها، هى الملكة أوجينى إمبراطورة فرنسا.

ثم يكمل: "كان الزمن الذى بدأنا نتلقى فيه العلم فى الخمسينيات محدود المصادر والحقائق، فالعلم هو ما تقدمه إلينا المناهج المقررة، وفى مسارى لم أكره كلمة مثل تلك "المقرر" هى بمفردها تعنى الإجبار، القسر. وأذكر أن وزارة المعارف العمومية كانت تقرر بعض الأعمال الأدبية لدراستها فى المراحل المختلفة، وأذكر على سبيل المثال رواية "أنا الشعب" لمحمد فريد أبو حديد، و"على باب زويلة" لمحمد سعيد العريان، و"وإسلاماه" لعلى أحمد باكثير، كان مجرد وجود رواية فى المقرر ينفرنى منها، وبعض هذه الروايات لم أفضلها إلا بعد أن قرأتها فى إطار اطلاعى الحر.

وأذكر أن العم محمود السعدنى كان يقول ساخرًا: "يا خوفى أن تقرر وزارة التربية والتعليم أحد كتبى على الطلبة فتنفرهم منى”، ونلاحظ أن نجيب محفوظ لم تُقَرَّر له رواية واحدة إلا بعد حصوله على جائزة نوبل 1988، وتم اختيار "كفاح طيبة"، بعد حذف أجزاء منها. وهذا طُبِّق على التاريخ أيضًا، ولأننى أدعو دائمًا إلى مراجعة الأخطاء العامة، ليس من مدخل النقد لفترة معينة، ولكن من زاوية الحرص ألا نقع فيها مرة أخرى.

من هذا المنطلق أدعو إلى إنصاف الخديوى إسماعيل وتصحيح صورته فى كتب التاريخ الرسمية، خاصة ما نتج عنها من ترويج لصورة حاكم لا يعرف إلا نزواته، وإهدار المال العام من أجل امرأة، حتى قيل ما يدخل فى نطاق الفولكلور، مثل أنه أمر برصف طريق الهرم الطويل بحيث يكون به ميل حتى إذ جلسا بجوار بعضهما اضطرت إلى الميل لتلامسه! أول من لفت نظرى إلى دور إسماعيل باشا كان الدكتور لويس عوض، كان ذلك خلال حديث بيننا عندما كنت أزوره فى بيته، الذى اتخذ منه مكتبًا خاصًا بشارع الأهرام، وكان مقرًا لمكتبته الضخمة، دفعنى الحوار إلى قراءة ما كتبه عن تاريخ الفكر المصرى الحديث، ثم قرأت كتاب المؤرخ إلياس الأيوبى، ومن خلاله أدركت الدور المتقدم العظيم الذى قام به فى تحديث مصر، بما يتجاوز أحيانًا دور محمد على باشا نفسه.

لقد أدرك الخديوى إسماعيل أن العالم ليس به إلا حضارة واحدة، هى الحضارة الغربية، وأن أى أمة تريد أن تنهض لا بد أن تتبع علامها ونهجها، وعندما زار باريس بهر بالمدينة، وشاهد المعرض الدولى الذى كان برج إيفل ما زال فى بدايته، إذ تم تشييده ليكون أحد المعالم المميزة للمعرض ثم أصبح من أشهر معالم باريس.

ما أنجزه الخديوى إسماعيل مفصل فى التاريخ، يشمل جوانب الحياة كافة، من نظم الإدارة إلى الرى والمواصلات والتعليم، ومن السكك الحديدية التى لم تكن عاصمة الخلافة تعرفها، وعندما زار الخليفة السلطان عبد العزيز مصر نزل الإسكندرية وصحبه الخديوى ليركب القطار، خاف من منظر القاطرة وهى تصدر أصواتًا لا يعرفها وتنفث بخارًا كثيفًا، وراح الخديوى يهدئه ويحايله حتى اطمئن الخليفة وركب القطار، وبهذه المناسبة تم إطلاق اسمه على شارع شهير فى وسط القاهرة، يبدأ من حدود قصر عابدين الذى بناه الخديوى إسماعيل كرمز لمدينة السلطة، التى نزل بمقرها من القلعة إلى المدينة، وهو الشارع المعروف الآن بتجارة الأدوات الكهربائية وأجهزة المنازل.

سأتوقف عند إنجازين هامين؛ الأول موقفه من قناة السويس، والذى فصّله الدكتور مصطفى الحفناوى، صاحب رسالة دكتوراة عن القناة، نوقِشَت فى جامعة السوربون بالفرنسية، ثم تُرجِمَت وطُبِعَت بالعربية فى 4 مجلدات عام 1951، وتعتبر أروع دفاع علمى تاريخى عن حقوق مصر التاريخية والقانونية فى قناة السويس، هذه الموسوعة قرأها جمال عبد الناصر قبل أن يتخذ قراره بتأميم القناة، والتقى بمؤلفها شخصيًّا قبل 26 يوليو 1956، وقد أعادت مكتبة الأسرة، التى تصدر عن الهيئة العامة للكتاب ويرأس تحريرها الدكتور فوزى فهمى، طبعها.

لا أعرف كتابًا ينصف الخديوى إسماعيل مثل هذا المؤلَف، الذى طالب فيه مؤلِفه عام 1951 بتأميم قناة السويس قبل انتهاء امتيازها عام 1968، وقال بالنص إنه لا بد من تأميم القناة قبل هذا التاريخ، وهذا ما قام به عبد الناصر عام 1956. كان موقف الخديوى إسماعيل يتلخص فى عبارة كان يرددها دائمًا: "لقد أرادوا مصر للقناة ولكننى أريد القناة لمصر". هذا الموقف الحافل بالتفاصيل والتى يذكرها الدكتور مصطفى الحفناوى فى كتابه الموسوعى يجب أن نتذكره من منظور إيجابى لإنصاف لخديوى إسماعيل من التشويه الذى لحق به، والذى تطوع به البعض بعد ثورة 1952، انطلاقًا من أن كل ما كان قبلها فاسد ومشوه. ولكن التاريخ مهما طاله العبث لا يمكن أن يستمر طبقًا للمنطق المغلوط.

الحفاظ على حقوق مصر فى القناة أول مأثرة أذكرها لهذا الحاكم العظيم الذى تحلى بوطنية جارفة وثقافة شاملة، تكونت خلال سنوات دراسته فى فيينا عاصمة النمسا، وفى باريس التى وقع فى غرامها، ومن تخطيطها استلهم تصميم القاهرة الحديثة التى نطلق عليها الآن "القاهرة الخديوية"، والتى تشهد الآن عملية ترميم وعناية كبرى تعيد إليها رونقها. وتلك المأثرة الثانية التى تُحفَظ للخديوى إسماعيل، بناء العاصمة الحديثة لمصر.

لقد استدعى المعمارى الفرنسى العظيم أوسمان الذى خطط باريس الحديثة وصمم ميادينها الرئيسة وشوارعها المستقيمة، استعان به لتصميم القاهرة الجديدة، وقام على باشا مبارك بالتنفيذ، وهو صاحب فكرة شق طريق شارع طريق محمد على على نمط وشكل شارع يفولى فى باريس، ولكن شارع محمد على فيه رمزية عميقة، فإذا بدأنا من أعلى من ميدان القلعة، سنجده يبدأ بمسجد هو الأعظم فى العمارة الإسلامية، أعنى جامع السلطان حسن، وفى منتصفه المكتبة الوطنية، دار الكتب، وفى نهايته المسرح القومى المطل على ميدان العتبة، أى شارع فى العالم يحفل بهذه الصروح الثلاثة ويجمع بينها، الفضل فى ذلك يرجع إلى الخديوى إسماعيل، الذى أدعو إلى إقامة تمثال له يوضع فوق القاعدة التى أُنشِئَت خصيصًا له، ثم تغيرت الظروف فلم يوضع أى تمثال لأى حاكم جرت الدعوة لوضع تمثال له فوقها، الوضع تغير لكن التاريخ لم يتغير.

كان ميدان التحرير اسمه ميدان الإسماعيلية حتى الخمسينيات، نسبة إلى الخديوى إسماعيل، ومن الصعب الدعوة إلى إلغاء الاسم الذى يوجد به الآن، خاصة أنه يرمز إلى معنى إنسانى جليل، التحرر، وشهد أحداثًا كبرى تتسق مع ذلك، لذلك أقترح أن يتوسطه تمثال لهذا الحاكم الذى لقى ما لقيه وهو يدافع عن حقوق مصر، خاصة قناة السويس، ولحسن الحظ لا يوجد فى حكام مصر الآن من له أى حساسية مع الماضى".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل