المحتوى الرئيسى

بذور القداسة

12/25 02:15

هذا ليس رثاء لغريغوار حداد. لا يمكن رثاء رجل اختار كيف يعيش وكيف يموت، وعلى الارجح، متى يفعل. يليق اكثر الاحتفال بحياة غريغوار، ذاك الانسان الذي مسّ بعضا من شعاعه كل من عرفه أو التقاه. لكل حكايته معه. أما حكايته هو، شغفه، حلمه، عمله، نضاله وعمره، تمحور حول الانسان، كل انسان وكل الانسان. عشق الناس أجمعين. لم يشترط، لم يُدِن، لم يحاسب ولم يحقد.

لعل نشأته كانت سببا في تكوين شخصيته. فجده أرثوذكسي من عبيه. أبوه إنجيلي بتأثير من الارسالية الانجيلية التي أنشات مدرسة ابتدائية في البلدة. اما هو وبعد سنة من دخوله الى مدرسة النهضة التابعة للرهبانية الباسيلية الشويرية في بمكين فقد طلب من الاب المسؤول ان يصبح «رومَ كاثوليكٍ»، ولم يكن عمره قد تجاوز الثلاثة عشر عاما. أكمل دراسته عند الآباء اليسوعيين. اكتسب منهم الدقة والتنظيم والانضباط واللغة الفرنسية. اُعجب بالفيلسوف والكاهن الفرنسي «تيار دي شاردان «Teilhard de Chardin. اعاد قراءة كتابه «الوسط الإلهي او «le milieu divin» اكثر من مرة بشغف كبير، أسهم فيه، ربما، منع الكاتب والكتاب من دخول الاديرة يومها. اعجب ايضا بالحلاج وحفظ الكثير من أشعاره.

هو نفسه كتب الشعر. مزق الكثير مما كتب. احتفظ بأربعة أبيات ائتمنني عليها سنة 2002. كان لهما مكانة خاصة. يومها كتبت عنه ما يشبه البورتريه في «السفير» ذكرت فيه أن «قلبه خفق مرة واحدة لغير إلهة وكان في بداية مشواره الكهنوتي. فكتب لها شعرا ابقاه سرا. وهو الذي اضاع البراءة الفاتيكانية التي برأته. لا يزال يحتفظ بذاك الشعر العزيز على قلبه. نسي اسم من كان يقصدها. نسي تفاصيل ألم كبير وصراع عاشهما وبقي وفيا لإنسانيته». وحين أخبرته ان هناك من عاتبني، من باب الحرص عليه، لأني أتيت على ذكر هذه الحكاية، ضحك وأعطاني «قصيدته». كانت ورقة صغيرة لونها أقرب الى الاخضر المائي سطرّها بقلم رصاص وكتب فوق سطورها بخط أنيق شعرا لطيفا. وحين أخبرته، بعد سنوات، في ما يشبه الاعتراف بخطيئة، انني اضعت الورقة، مع صندوق كتب وأوراق اثناء الانتقال من منزل الى آخر، ضحك وسألني: «هل حقا كنت تحتفظين بها؟ ما اصغر عقلك». لكن يمكنني الاجتهاد والقول إنني رأيت غيمة حزن، ولو صيفية، في عينيه.

وصار الكاهن المتميّز في ابرشية بيروت مطرانا متمردا. مستندا الى ايمان شفاف يرى الله في كل انسان، حاول ان يترجم ايمانه افعالا. تنازل عن الشكليات والمظاهر والالقاب. أصر على اصلاحات عميقة في الكنيسة وصولا الى «اعادة النظر في الكنيسة ذاتها وباقي مظاهر او تجسدات الايمان المسيحي».

ثارت «السلطة» الكنسية ضده. تواطأ معها بعض اصحاب السلطة المدنية.

فمن هو هذا المطران الذي ينحاز الى الفقراء ويقدمهم على الاغنياء؟ من يظن نفسه ليُساوِيَ في مساعداته وتقديماته الاجتماعية وخدماته بين الجميع من دون اعطاء الاولوية لابناء الطائفة؟ لماذا يشغل نفسه بهذا الكم من القراءات والتفكير؟ ولا يكتفي. بل يواصل العمل ويصدر مجلة «آفاق» فيحفز على تفكير اعمق وأشمل واكثر انسانية.

فكيف تصل به الجرأة الى هذا الحد؟

احتاروا في وصفه وتصنيفه. فتارة هو بالنسبة الى بعضهم «المطران الأحمر»، ولآخرين «مطران الفقراء». وتارة هو «خارج عن العقيدة الكاثوليكية»، وفي احدى المرات قالوا إنه أسلم، بعد أن أعلن أن «لا اله الا الله وان محمدا نبي من أنبياء الله».

بعد سنواتٍ طوالٍ، حين سألته عن كارل ماركس وجذور لقبه ضحك قائلا: «قرأت عنه قليلا وقرأته قليلا. تراني فهمته يومها؟ لا املك جوابا. تراه أَثَّرَ فيَّ كما فعل بالكثيرين من ابناء جيلي؟ لا املك جوابا ايضا». واستشهد بصديقه «الاب بيار» الذي كان يردد «ان المسيحية قطعت صفحة من الانجيل ورمتها في سلة المهملات فأتت الماركسية والتقطتها وعملت منها شرعتها. هذه الصفحة هي صفحة المحبة».

أما نطقه بالشهادة فلم ينفه. فهو يؤمن ان «لا اله الا الله» وقد قال: «كل من يهدي بعض الناس الى الله يمكن تسميته نبيا. والنبي محمد هدى اكثر من مليار شخص».

لكن «تهمة» انحيازه الى الفقراء فباطلة بشكل قاطع. هو لا ينحاز اليهم. هو يحبهم. أحب الفقراء بقدر ما كره الفقر وحاربه. في اي حال كان هو نفسه فقيرا بقرار إرادي وتعهد خطيّ مع عدد من الاساقفة.

اتهم بأنه خرج عن العقيدة الكاثوليكية وشكك بوجود المطلق ودعا الى اقامة علاقة مع الله والمسيح من دون حاجة الى وساطة الكنيسة، فاستدعي الى الفاتيكان وتم الاستماع اليه ومحاورته قبل أن يصدر حكم ببراءته في تاريخ حُفر في ذاكرته: 10 تموز 1974.

لم يستسلم صاحب القلب الطفولي والاحلام الثورية، حتى بعد أن أقالته السلطة الكنسية المحلية من منصبه على ابرشية بيروت لتعيّنه «مطران شرف على ابرشية اضنه».

استمر برعاية وليدته الاعز «الحركة الاجتماعية». حرص على أن تنفتح على الاكثر حاجة. وكان حيث يكون الفقراء من البقاع الى الجنوب وما بينهما.

وحين قَطَّعت الحربُ الاوصالَ بقي مصرا على الوصل. لم يُقفَل في وجهه باب. حاول من خلال صداقته مع كمال جنبلاط وموسى الصدر ان يخلق تيارا مناهضا للحرب والعنف. لكن الزمن لم يكن زمانه. انسحب الى عزلة في دير توحدي في فاريا اولا ثم في اللقلوق. يقرأ، يكتب، يفكر ويصلي. طالت عزلته حتى عام 1997.

حينها راح يسأل ويحرض ويستدعي من يثق بآرائهم وحكمتهم و «نقائهم» الطائفي ليستشيرهم ويطلب دعمهم من اجل خلق «تيار المجتمع المدني». كان يعرف أن اسمه يجمع. فوضع ثقل اسمه لعلّه ينجح في تحقيق أحد احلامه وهو العلمانية الشاملة المنزّهة عن حسابات الطوائف ومرجعياتها. استطاع ذاك العجوز، صاحب الشعر الابيض ان يجمع حوله شابات وشبانا آمنوا مثله بوطن علماني غير طائفي، ديمقراطي، يكون إنماء الانسان فيه هو الهدف والمحور.

مجددا أزعج من يخافون الانعتاق من بوتقاتهم ومُسَلَّماتهم. في احدى المرات كنت أرافقه الى محطة «تيلي لوميار» ليسجل حديثا تلفزيونيا. اقترب منا شاب، وقبل أن استوعب مضمون صراخه، رفع يده وصفع غريغوار وأوقعه أرضا. لا اذكر إلَّا صراخي وهدوءه. نهض من دون ان ألمح في عينيه نظرة حقد. انهالت الاتصالات على المحطة وزارها وزراء ونواب متعاطفون. كان يكتفي بالابتسام، ولاحقا رفض رفع دعوى على الشاب المضلل برأيه.

لا يمكن اختصار غريغوار حداد، او «الأبونا» لمن يصر على لقب يناديه به، بمقالة او صفحات او كتاب. فها هو المطران غريغوار من اوائل الذين شطبوا الطائفة عن قيدهم حين فُتح هذا الباب. وها هو الرجل التسعيني، الذي أقعده المرض، يطلب أن ينزل الى حيث اعتصام «الحراك المدني الشبابي» ليعبّر عن تضامنه ولو من السيارة. وهو نفسه في اقامته في السنوات الاخيرة في المستشفى حيث رافقته «الحازوقة» ليل نهار. ينزعج زائروه عنه ويواصل هو ابتسامته وسخريته حتى من نفسه. يطلب كتابا او صحيفة. يسأل عمن يحب ويعرف، ويستوضح عن تفاصيل قضايا مطروحة.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل