المحتوى الرئيسى

مخاطر الاحتياطي الفدرالي على الاقتصادات الناهضة

12/24 23:39

قام مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) أخيرا، وبعد مرور قرابة عقد على التزامه الثابت بسعر فائدة منخفض للغاية، برفع سعر الفائدة الفدرالية -أي الفائدة التي تحدد كل أسعار الفائدة الأخرى بالاقتصاد- بنحو 25 نقطة أساس، الأمر الذي يجعل الفائدة الجديدة ترتفع قدرا ما زال ضئيلا لتبلغ 0.5%. وقد وعدت رئيسة مجلس الاحتياطي الفدرالي جانيت يلين، بحكمة، بأن أي زيادة مستقبلية لسعر الفائدة ستحدث تدريجيا.

وأخذا بعين الاعتبار وضع الاقتصاد الأميركي -حيث يبلغ النمو الحقيقي 2% وحيث سوق العمل متأزم وحيث الشواهد قليلة على ارتفاع معدل التضخم إلى نحو 2% كما يستهدف مجلس الاحتياطي الفدرالي- أرى في رفع الفائدة هذا خطوة أولى معقولة وحذرة على حد سواء صوب تطبيع الوضع (إذ هي بمثابة توازن أفضل بين المقترضين والمقرضين).

ومع ذلك، فلن تكون البنوك المركزية الأخرى، وبشكل خاص في الاقتصادات التي تعاني من فجوة إنتاج أعمق مما في الولايات المتحدة، متحمسة للسير على خطى مجلس الاحتياطي الفدرالي، الأمر الذي يعني أن الفترة المقبلة ستتسم بتباين السياسة النقدية مع تبعات غامضة لذلك على الاقتصاد العالمي.

في ظاهر الأمر، لا يُفترض أن يكون التغير الطفيف في سعر الفائدة الأميركية سببا في تحولات عميقة في تدفق رؤوس الأموال العالمية. ولكن مع سير السياسة النقدية الأميركية على طريق تطبيع سعر الفائدة، قد يكون لذلك تداعيات غير مرغوب فيها، تداعيات اقتصادية ومالية على حد سواء، قد تتخذ خاصة شكل تقلبات في أسعار العملة وخروج رؤوس أموال من الاقتصادات الناهضة.

وسبب الخوف الذي يجب أن يعترينا من هذا الاحتمال هو أن التوازن الاقتصادي العالمي هش وغير مستقر على حد سواء ويمكن أن يميل إلى هذه الكفة أو تلك على نحو خطير ما لم تتوفر سياسة تدخل حاسمة ومنسقة. ورفع سعر فائدة مجلس الاحتياطي الفدرالي قد لا يساعد في هذا الصدد، ولكن قد تساعد بعض الإجراءات الأخرى التي تبدو غير ضارة.

ولا يحتاج المرء لذاكرة قوية لإدراك الكيفية التي يمكن بها أن تفضي أي تغييرات متواضعة نسبيا في السياسة إلى ردود فعل هائلة في السوق. ولنتذكر في هذا الصدد على سبيل المثال موجة الغضب بشأن خفض موازنة مجلس الاحتياطي الفدرالي، التي اجتاحت الأسواق المالية في ربيع عام 2013، حين أشار رئيس المجلس آنذاك بن برنانكي إلى أن صُناع السياسة كانوا يفكرون فقط في الإنهاء التدريجي للتيسير الكمي.

ولكن كان تصريح برنانكي آنذاك بمثابة مفاجأة (مثله مثل تخفيض سعر الرنمينبي الصيني في الصيف المنصرم). وفجأة عمدت رؤوس الأموال التي كانت قد تدفقت إلى الأسواق الناهضة بحثا عن عوائد لم تعد متوفرة في الاقتصادات المتقدمة إلى تغيير اتجاهها، ولم يرغب أي مستثمر في أن يكون آخر من يخرج. ولا يحتمل النظام المالي العالمي المذعور مثل نظامنا الحالي مفاجآت غير سارة من هذا النوع.

ولكن خلافا لتلك الموجة التي حدثت في عام 2013، ولتخفيض سعر الرنمينبي، لم يكن الإعلان عن رفع سعر فائدة مجلس الاحتياطي الفدرالي يوم 16 ديسمبر/كانون الأول الجاري مفاجأة. ولذلك قد يقول قائل إنه إذا كان تحرك المجلس يؤدي إلى تقلبات في تدفق رؤوس الأموال العالمية، فيجب أن تكون هذه العملية قد بدأت بالفعل. وفي الحقيقة، فإن التوقعات شبه العالمية برفع سعر الفائدة الأميركية كانت السبب في عدم حدوث ارتفاع كبير أو مفاجئ في تدفقات رأس المال أو في أسعار الأصول.

ومع ذلك تظل المخاوف الواسعة النطاق باقية. فقد تناول صندوق النقد الدولي، على سبيل المثال، الأمر قائلا إن أي رفع لسعر الفائدة يقرره مجلس الاحتياطي الفدرالي يحتاج إلى "إستراتيجية اتصال فعالة للسياسة النقدية"، وتلك عبارة مهذبة للقول إن أي تشديد نقدي تجريه الولايات المتحدة والاقتصادات المتقدمة الأخرى سيكون سابقا لأوانه.

والأساس المنطقي هنا هو أن الاقتصادات الناهضة أضحت تعتمد بشكل خطير على انخفاض سعر الفائدة وارتفاع أسعار السلع الأولية. وأصبح الكثير من شركات الأسواق الناهضة في وضع هش للغاية بسبب قروضها الضخمة بالعملات الأجنبية. ولسوف تكون العواقب وخيمة في حالة هروب رؤوس الأموال مثل: الحد من الائتمان وصعوبات في ميزان المدفوعات وتضخم وارتفاع أسعار الفائدة وإجهاد مالي وخفض التصنيف من قبل وكالات التصنيف الائتماني الكبرى، وكل هذا يعني المزيد من هروب رؤوس الأموال.

وأصبح الأوروبيون أيضا يعتمدون على انخفاض أسعار الفائدة، مع عمل البنك المركزي الأوروبي كقوة رئيسية لدعم الاستقرار. ولولا تمسك البنك المركزي الأوروبي بالالتزام الذي تعهد به منذ 2012، بمنع الارتفاع الشديد لعائدات الديون السيادية، لكان هناك خطر مستمر على منطقة اليورو، بل وفي الواقع على صرح الاتحاد الأوروبي برمته، وهو خطر التخلف عن سداد الديون السيادية.

ولكن أوروبا استفادت من هبوط أسعار السلع الأولية. وعلى النقيض، عانت الكثير من الاقتصادات الناهضة، التي تعتمد بشدة على عائدات تصدير السلع، من هبوط أسعار السلع الأولية ومن ركود نمو الاقتصادات المتقدمة ومن تباطؤ النمو في الصين. وسيضيف هروب رؤوس الأموال عبئا كبيرا إلى محنتها، وهو العبء الذي سيكون في بعض الحالات كارثيا.

لقد اعتاد العالم منذ الأزمة المالية في عام 2008 على الربط على هذا النحو بين الأحداث، وعلى تداعياتها وانتشار تأثيرها إلى مساحات أخرى. ومع ذلك، ما زالت السياسة النقدية في مواجهة الأزمات لا مركزية الطابع.

ولا تملك الاقتصادات الناهضة بنكا أوروبيا مركزيا، ولا تستطيع التأكد من رجاحة قرارات صانعي السياسة النقدية لديها في مواجهة هروب متسارع لرؤوس الأموال، ولا من قدرتهم على مواجهة ذلك، من حيث الأدوات السياسية أو الاحتياطات أو الميزانية العامة لديهم. وليس بوسعها أيضا التأكد تماما من سرعة وكفاءة ردود الفعل الدولية والتي قد تسلك سلوكا مخالفا لذلك وتقوم بدور "قواطع الدائرة الكهربائية".

الحقيقة هي أن الأسواق الناهضة التي استفادت بعد أزمة عام 2008 من النمو الاقتصادي للصين، ومن ارتفاع أسعار السلع الأولية، ومن رأسمال أجنبي بخس الثمن، ينبغي لها الآن التكيف مع التقلبات في كل هذه المجالات. وسوف تكون التحولات الضروري إجراؤها في هذه الأسواق معقدة وتنطوي على مخاطر ولن يكون بوسعها السيطرة عليها كلها.

ربما لا يُحدث رفع سعر الفائدة الأميركية، الذي رافقه بحصافة التركيز على خطوات صغيرة تدريجية، التأثير الذي يتوقعه البعض، لكن القلق من تداعياته أمر مشروع. ولن يكون من الحكمة في شيء أن نفترض، وقد أصبح الارتفاع الأولي لسعر الفائدة أحد أحداث الماضي، أن المخاطر على النظم المالية قد اختفت بطريقة أو أخرى.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل