المحتوى الرئيسى

خالد منصور يكتب: رحلة صحفي في كواليس السلطة

12/24 10:26

“زمان” ليس كما نعتقد أنه كان.. عن مصر والفلسطينيين واليهود وإسرائيل:

في يوم شتوى دافيء هذا الشهر وأمام السفارة الروسية في القاهرة وقف ابن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ومعه عدد من السيدات والرجال كبار السن وهم يهتفون “طظ فيك يا اردوجان .. مصر وروسيا زي زمان“.

حمل هذا العدد الصغير حشدا من المفارقات ليس أقلها الحنين إلى زمن ربما لم يوجد قط لأن علاقات موسكو والقاهرة كان بها شد وجذب ومصالح معقدة. وحتى لو وُجدت العلاقة بشكل رومانسي أبله في الماضي، فمن المستحيل إعادة انتاجها الآن لأسباب عديدة ليس أقلها أن روسيا الحالية التي تعيش على ريع النفط والغاز وبيع السلاح، ليست هي الاتحاد السوفييتي الشيوعي، وأن مصر السيسي أضعف كثيرا اقتصاديا وإقليميا وثقافيا من مصر عبد الناصر.

هؤلاء الناس في الأغلب يستمدون معلوماتهم من كتب التاريخ المدرسية المزورة والأفلام الدعائية. والمضحك (المبكي أيضا) أن علاقات مصر الاقتصادية والسياسية بأمريكا بل وبإسرائيل ذاتها الآن باتت قوية للغاية بما يشمل التنسيق الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي، وأن سلاح مصر وتحالفاتها الأمنية وتجارتها، هي معظمها من دول لا تحب هذا الـ “بوتين” الذي دعته أحد المظاهرات للمضي قدما. “كمل كمل يا بوتين”. أما رئيس تركيا المغرور رجب طيب أردوغان الذي سبه المتظاهرون فلا يهمنا هنا.. يهمنا فقط الإشارة إلى أن التبادل التجاري بين البلدين أضخم من التبادل بين مصر وروسيا.

لكن ما هذا “الزمان” الذي يريد المتظاهرات والمتظاهرون عودته.. كبار السن منهم يحنون ربما لأيام كانوا فيها قريبين من السلطة أو يعتقدون هذا، سواء لأنهم إما كانوا يعيشون في بيت الأب الزعيم فعليا أو يقتلهم الحنين لأحلام الاستقلال الوطني المبهمة التي كان ناصر يسعى حقا قبل أوائل الستينيات لتحقيقها. كانت أحلاما جميلة تمكن المرء من الصبر على المكاره والهزيمة وتحمل تقييد الحرية وحكم العسكر ولكن كل هذا انهار دون رجعة مع هزيمة ١٩٦٧ ولم يعد مع الانتصار المشروط في ١٩٧٣ حيث كان السادات يعمل بدأب على تقويض كل التراث الناصري بحلوه ومره، وبأحلامه.

ولذا كانت قراءة مذكرات الصحفي الفرنسي الراحل إريك رولو منعشة للغاية في نفس الأسبوع الذي وقعت فيه هذه المظاهرة السيريالية، فالرجل كان يحب عبد الناصر ويفهم بعمق انجازاته، ولكنه كان أيضا مهنيا ومطلعا وقادرا على تشريح إخفاقات ونواقص الحكم الناصري.

اليهودي الملحد اليساري المصري الفرنسي:

كان إريك رولو مصريا يهوديا بأصوله الثقافية، لكنه كان أيضا فرنسيا وملحدا وشيوعيا. عارض سياسات إسرائيل بقوة حتى وصفه مناحم بيجن، رئيس وزراء إسرائيل السابق، بأنه “يهودي كاره لنفسه” وهو الوصف المعتاد من جانب غلاة الصهاينة لكل يهودي يرفض سياسات دولة إسرائيل.. التقي رولو مرارا مع ناصر ونمت بينهما علاقة طيبة، لكن الود المتبادل بينهما كما يقول الأخضر الإبراهيمي، الدبلوماسي الجزائري العريق وسفير الجزائر في القاهرة في الستينيات، “لم يؤثر على موضوعية الصحفي وحسه النقدي.”  وحاور رولو بن جوريون، مؤسس دولة إسرائيل، عدة مرات والتقى بصفته الصحفية مع كل زعيم عربي وإسرائيلي مهم منذ الستينيات وحتى منتصف الثمانينيات مثل الملك حسين وصدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد وإسحق رابين وشمعون بيريز وجولدا مائير وموشى ديان والسادات، وكان على علاقة حميمة ببعضهم ومنهم ياسر عرفات.

وُلد رولو في القاهرة عام ١٩٢٦وتلقى تعليمه كله فيها وانخرط في الحركة الطلابية قريبا من تنظيمات اليسار حتى اُعتقل في عام ١٩٤٨ لمدة شهر في حملة طالت “الشيوعيين” و”الصهاينة” وبعد خروجه من السجن أكتشف أنه فقد عمله في الصحافة وأنه يواجه احتمال السجن مرة أخرى، فحاول السفر، لكن الحكومة رفضت منحه تأشيرة خروج إلا إذا تخلى عن الجنسية المصرية وسافر إلى فرنسا حيث استأنف العمل بالصحافة. كان الرجل مزعجا لحكومة يرى بعض رجال أمنها أن رولو صهيوني (وكان هذا إدعاء بلا أساس سوى أنه من عائلة يهودية)، بينما يرى قسم آخر أنه شيوعي وعنصر “إثاري” كما هو اللفظ الشائع الآن لدى رجال الأمن في مصر.. لم يكن خيار البقاء متعطلا عن العمل مهددا بالسجن ومع تصاعد العداء لليهود بسبب نشأة دولة إسرائيل خيارا سهلا أو مرغوبا فيه خاصة وأن رولو لم يكن من عائلة ثرية للغاية.

ويلخص آلان جريش، رئيس تحرير صحيفة لوموند ديبلوماتيك سابقا، في مقدمته للكتاب معضلة يهود كثيرين في مصر بعد ١٩٤٨ قائلا: “كان يهود مصر يشعرون بأنهم مصريون، ولم يكن ليسحرهم شدو نداهات الحركة الصهيونية، باستثناء الأقلية الصهيونية لم يكن أحد يستشعر ضرورة قيام دولة يهودية أو تنتابه الحاجة إلى الترنم بأنشودة (العام المقبل في القدس) حين كان الذهاب إلى هناك لا يتطلب أكثر من ركوب قطار الساعة ٤٥.٩، لكن عندما جعل النزاع الإسرائيلي العربي حياتهم مستحيلة، وصاروا ضحايا لموجات كراهية اليهود في العالم العربي وهدفا لمحاولات الحكومة الإسرائيلية لاستعمالهم كطابور خامس، اضطروا للهجرة إلى فرنسا، أرض الميعاد الحقة. “وهكذا فعل والد جريش نفسه”، وهو الزعيم الشيوعي المصري الأممي، هنري كورييل الذي واصل من باريس دعمه لثورات التحرر الوطني في المنطقة العربية وخاصة الجزائر، حتى تم اغتياله على يد مجهول في ١٩٧٨. بل وهكذا فعل جريش الذي وُلد في مصر في ١٩٤٨ واضطر للخروج مع عائلته في آخر موجات الخروج اليهودي من مصر في ١٩٦٢ وعمره ١٤ عاما.

لكي نفهم عمق التغيير الذي حدث للقاهرة لنرى كيف يصفها رولو في الثلاثينيات: “كانت الأحياء التجارية تغرق في سبات عميق أيام الأعياد اليهودية كعيد الغفران أو رأس السنة اليهودية، إذ كانت العديد من المتاجر الكبرى والمحلات والمصارف وشركات الأعمال، فضلا عن البورصة، جميعها تغلق أبوابها.. كان بحسب المرء التجول في أحد الشوارع الرئيسية لرؤية أسماء المتاجر الكبرى الراقية تتلألأ وضاءّة، مثل شيكوريل وشملا وجاتنيو وأوروسدي باك وعدس وأوريكو والصالون الأخضر والملكة الصغيرة، التي كانت كلها مملوكة جميعا لعائلات يهودية سفردية واسعة الثراء.”، وكان حاخام مصر الأعظم حاييم ناحوم أفندي (١٩٢٥ حتى ١٩٦٠) عضوا في مجلس الشيوخ ويتقن العربية الفصحي والعامية والعبرية والتركية والفرنسية والإنجليزية وعضوا في الأكاديمية الملكية.

كان في مصر نحو ٨٠ ألف يهودي في عام ١٩٤٨ وتركها عشرين ألف في هذا العام، ثم بدأ عددهم يقل ألفين أو ثلاثة كل عام، لكن الهجرة الضخمة وقعت بعد العدوان الثلاثي في ١٩٥٦ ومع بداية الستينيات كان عدد اليهود لا يزيد عن سبعة آلاف في مصر، ويعتقد رولو أن أقل من نصف يهود مصر ممن غادروها ذهبوا إلى إسرائيل لأسباب اقتصادية في معظمها، حيث كانت الدولة الوليدة تدعمهم ماديا وتعينهم، بينما ذهب القادرون إلى أوروبا والولايات المتحدة.

ويقدم الكتاب قراءة لتعقيدات العلاقة بين اليهودية كديانة وكثقافة وبين السياسة في إسرائيل وخاصة أن كل كبار ساستها تقريبا كانوا علمانيين ولا دينيين، ويركز في فصل مهم على وضع اليهود الشرقيين (السفارديم أو السفرديين، وأيضا يُطلق عليهم لفظ المزراحيين)، وكيف تمت معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.

يقدم رولو قراءة مدّققة ومنصفة لعبد الناصر نجت من فخ التضخيم ومؤامرة الشيطنة، فلم ينظر إليه قط مثل معظم صحفيي الغرب آنذاك على أنه “ديكتاتور القاهرة” أو “هتلر مصر” أو “ستالين على ضفاف النيل”. وفي نفس الوقت ورغم إعجابه باصلاحات اجتماعية واقتصادية قام بها نظام ثورة ٢٣ يوليو في آواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات “إلا أن الطابع العسكري للنظام الذي أرسته الزمرة التي استولت على مقاليد الحكم في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ بقى في ناظري أشبه بوصمة لا تُمحى.. لا شىء يبرر مصادرة الحريات العامة وخرق ما يُسمى في أيامنا هذه بحقوق الإنسان، إذ بدا لي القمعُ الوحشيُّ المنصبُّ في مصر فوق رؤوس كافة المعارضين، من ليبراليين ووفديين، وشيوعيين، وإخوان مسلمين، فوق حدّ الإحتمال.” ويصف رولو كيف قتل زبانية السجن زميله في المدرسة الثانوية الطبيب فريد حدّاد الملقب بـ “طبيب الفقراء” وزميله في الصحافة شهدي عطية الشافعي، وكلاهما من تنظيمات شيوعية لم تكن تناهض عبد الناصر فعليا.

كان عبد الناصر يريد أن يصل صوته إلى “الغرب” ويريد صحفيا متعاطفا إلى حد ما، ومن هنا كانت الدعوة التي أرسلها محمد حسنين هيكل المقرب لعبد الناصر إلى رولو ليلتقي مع الرئيس في القاهرة.. كانت فورة النجاح والزعامة الملتهبة التي قادها ناصر قد اصطدمت بفشل تجربة الوحدة في سوريا وانهيار نظام عبد الكريم قاسم في العراق وحلول البعث المناوىء لناصر محله وقلقه من أن قواته لم تحقق نجاحا يذكر في اليمن بعد عام من وصولها.

يعتقد رولو أن ١٩٦٣ كانت بداية التحول في تفكير عبد الناصر إزاء القومية العربية وحلم الوحدة ليركز أكثر على مصر وعلى تحدياتها، وعندما أثار رولو ملف المعتقلات والتعذيب رد عليه عبد الناصر بهدوء قائلا: “لقد قررت الإفراج عن جميع السجناء السياسيين قبل نهاية هذا العام.”، وسيستغرق الأمر وقوع هزيمة ١٩٦٧ المدوية لكي يغلق ناصر ملفين آخرين كانا يضغطان على النظام السياسي وعلى ناصر ذاته، وهما إضطهاد وملاحقة الإخوان المسلمين والنفوذ المتصاعد للمشير عبد الحكيم عامر رغم فشله العسكري والسياسي في حرب القناة وفي اليمن وفي سوريا.

كانت القومية العربية كأيدولوجيا سياسية قد بدأت في الترنح بعد نجاحات متتالية في الخمسينيات شملت خلق مجموعة عدم الانحياز الدولية مع الهند ويوغسلافيا، وتأميم القناة، والانتصار السياسي في حرب ٥٦، وقلب نظام مصر الاجتماعي والاقتصادي، وإعلان بناء السد العالي رغم أنف واشنطن، ثم الوحدة مع سوريا، لكن مع منتصف الستينيات بدأت القومية العربية كأيدولوجية حكم وسياسة تتداعى وتتحول النظم الحاملة لواءها إلى حكومات قمعية تماما، وسلطوية للنهاية، وتدريجيا صارت هذه النظم مركزا لتنظيم شبكات الفساد وتوزيع الغنائم. ولخص اللواء الأردني على أبو نوَّار -وكان لاجئا في مصر في الستينيات بعد مؤامرة فاشلة على الملك حسين- هذه القومية المُعسكرة عندما قال للصحفي المصري لطفي الخولي في مقهى بالقاهرة: “ينبغي ذبح كل الشيوعيين من أمثالك”، ثم أضاف متوجها إلى رولو: “نعم، أنا فاشي إن كان ذلك يعني الدفاع عن الأمة العربية، ونعم أنا عنصري حين يتعلق الأمر بالتنديد بادعاء الأكراد الحق في الحكم الذاتي.”.. هذا الرجل، وكان من أصل فلسطيني، عاد بعد عفو ملكي لبلاده ووقف بجوار الملك حسين ليشارك مع الجيش في قتل الفلسطينيين في مذبحة أيلول الأسود.. هذا النوع من القوميين منتشر بقوة الآن في مصر وفي سوريا وفي غيرها، حيث يؤيد القتل والقمع والسحل العشوائي تقريبا من أجل انقاذ البلاد، وكأن البلاد غير قاطنيها.

لا بد أن عبد الناصر لم يكن سعيدا تماماً  في عام ١٩٦٣ وهو يرى مشروعه الطموح لزعامة العالم العربي يترنح على صخرة ضعف مصر الاقتصادي ومعارضة الملكيات الرجعية التي بدأ نفوذها يزيد بفعل مداخيل النفط، وكان ناصر يحتاج إلى تأمين دعم الاتحاد السوفيتي للمرحلة الثانية لبناء السد العالي ولبناء عديد من المصانع الثقيلة وتمويل الخطة الخمسية الثانية، ومن أجل هذا خرج المعتقلون اليساريون.. لم يرغب عبد الناصر أبدا في فتح باب السياسة لعموم الشعب، لكنه كان يستعمل الإخوان والشيوعيين حسب مقتضيات الحاجة، طالما كان هو فوق الجميع، وطالما كانت مساحة الحركة السياسية أمام هذه القوى محدودة وتحت الميكروسكوب.. كان عبد الناصر فوق السياسة ويتصرف كما لو كان هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب وتطلعاته، يرفض أن تكون شرعيته مستمدة من حزب أو كيان سياسي، ويذكرنا هذا بالموقف الحالي للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يماهي بعض القوميين الشوفينيين المتحجرين بينه وبين ناصر في تجاهل أو جهل باختلاف الرجلين والزمانيين والعوامل الاقليمية والترتيبات الدولية بعد مرور ستين عاما.

يقدم رولو صورة لعبد الناصر كرجل سياسة مستعد للحلول الوسط والمناورة حتى مع إسرائيل ومستعد للحوار وخاصة مع تداعي مشاريعه الطموحة ولا سيما بعد هزيمة  ١٩٦٧ بل وحتى من قبلها حيث يقول رولو إن عبد الناصر في كل تصريحاته منذ أواخر الخمسينيات لم يكن “راغبا أو قادرا على فرض حل بالقوة”، بل كان يعرض السلام دائما كحل ويسخر ممن يدعون أنه يجب إلقاء إسرائيل في البحر، لكن عبد الناصر كان يرسل إشارات متناقضة بين أفعاله وأقواله تاركا مساحة من سوء التأويل وانتهاز الفرص والصيد في الماء العكر أمام اسرائيل، وهي المساحة التي قفزت إليها ووسعتها واستعملتها لتحتل سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس في أقل من ستة أيام وتغير خريطة الشرق الأوسط وحياة جيلين أو أكثر.

رقصت سهير زكي حتى قبل هجوم إسرائيل بساعات:

رغم أن رولو يوضح بدقة تفاصيل الصراعات داخل الحكومة الإسرائيلية وأنها كانت ترفض دائما مبادرات وأغصان زيتون السلام التي لوح بها عبد الناصر بأشكال دقيقة وغير درامية، إلا أنه يحمل الجيش المصري وعبد الناصر مسؤولية الهزيمة في حرب ١٩٦٧.. إسرائيل لدى رولو دولة توسعية هجومية رفضت العمل بجد نحو حل سلمي منذ نشأت وحتى العقد الحالي، لكن مصر -حكومة وجيشاً- هي المسئولة عن الهزيمة وهي من وقعت في فخ ربما استدرجتها إسرائيل إليه.

يصف رولو كيف أن سهير زكي كانت ترقص حتى ساعات الصباح الأولى أمام قائد القوات الجوية اللواء صدقي محمود يوم وقوع الهجوم الإسرائيلي، وهو نفس اللواء الذي منح ثلث طياريه إجازات (ولا غرابة فقد كان قائد القوات الجوية التي فشلت في مهامها بشكل مروع في ١٩٥٦).

وفي فجر الخامس من يونيو حظر الأمن على كل الصحفيين الأجانب في القاهرة استعمال مكاتب البريد والتلغراف أو التحرك بحرية، وجُن جنون رولو وتمكن من الوصول لوزير الإعلام محمد فائق (وهو الرئيس الحالي للمجلس القومي لحقوق الإنسان والضابط السابق في جهاز المخابرات الحربية).. واوضح رولو للوزير كيف أن الصحفيين على الجانب الإسرائيلي يتنقلون دون عوائق وتردد إذاعة إسرائيل أن الجيش الصهيوني يصد هجوما مصريا، بينما تقيد مصر حرية العمل على الصحفيين الأجانب، وظلت إذاعتها صامتة ساعات، حتى بدأت بعدها في إذاعة بيانات كاذبة عن انتصار مصري وشيك “ولم يكن الرأي العام العالمي يصدق إلا المعلومات الصادرة عن القدس.”، وسمح فائق للصحفيين الفرنسيين فقط بالحركة بحرية في القاهرة فقط، على ألا يخرجوا منها، ولم يكن لهذا التصريح من فائدة إذ رفض كل المسؤولين الحديث للصحفيين الأجانب.

وعندما اتضحت معالم الهزيمة وأن سلاح الطيران المصري كله دُمر في عدة ساعات، وأن ضباطا كثيرين فروا من ميدان القتال، وتركوا عشرات الآلاف من الجنود يواجهون قصفا جويا إسرائيليا بالقنابل والنابالم، غضب الشارع المصري بشدة، لكن الشعب المصري لم يتفهم أبعاد الهزيمة الساحقة وعمقها حتى أوائل عام ١٩٦٨، ويعتقد رولو أن المظاهرات الشعبية التي خرجت في مساء التاسع وصباح العاشر من يونيو رفضا لتنحي عبد الناصر جاءت قبل أن يدرك الناس مدى مسؤولية ناصر وقيادات الجيش عنها، وكان الناس بعد ١٥ عاما من القصف الإعلامي والتوجيه المعنوي لا يرون بديلا للرجل الضرورة من أجل عكس الهزيمة. نفس هذه المصطلحات سيعيد هيكل تدويرها في ٢٠١٣ و ٢٠١٤ ليستخدمها إعلاميون لوصف ترشيح وزير الدفاع السيسي لمنصب رئيس البلاد.

وببراعة متناهية يصف رولو تحول عبد الناصر عن دور قائد في القومية العربية بعد هزيمة ١٩٦٧ والصلح مع الملكيات “الرجعية” والإنكفاء على محاولة السيطرة على البلاد، وفي السنوات الثلاث السابقة على وفاته المفاجئة دعم ناصر أجهزة الأمن ونشأت قوات الأمن المركزي للسيطرة على المظاهرات والاحتجاجات، واُفرج عن ألف من الإخوان المسلمين، وزادت  جرعة الدين في وسائل الإعلام، حيث تلقت الإذاعة والتلفزيون الأمر ببث آيات من القرآن بانتظام وإعطاء الكلمة قدر الإمكان للواعظين المحافظين، وتدفقت أموال سعودية لوادي النيل، فمولت المساجد ومدارس تحفيظ القرآن والمؤسسات الإسلامية.

كان عبد الناصر أيضا يقبل تدريجيا نشأة طبقة بورجوازية جديدة ممن ورثوا أو وضعوا أيديهم على ثروات الإقطاع، وما جرى تأميمه وخاصة من بين العاملين في الجيش وبيروقراطية الدولة أو رجال الأعمال الذين تحالفوا مع الدولة، وكل هؤلاء كانوا يريدون التقارب مع الولايات المتحدة وتحرير الأرض المصرية وترك قضية فلسطين للفلسطينيين.

ويُظهر رولو كيف أن عبد الناصر في قمة الخرطوم المشهورة باللاءات الثلاثة تمكن من فرض مزيد من الاعتدال على لغة الاجتماع وفتح الباب أمام السلام،  ووصل الأمر بعبد الناصر إلى أن يسخر من عرفات قائلا له في اجتماع بعد ذلك: “محتاج كام سنة عشان تدمر الدولة الصهيونية وتبني مكانها دولة موحدة وديمقراطية على كل أرض فلسطين المحررة؟ أحسن لكم تقبلوا بفلسطين مصغرة في الضفة الغربية وغزة، وده ح يكون أحسن من لا شىء.. شعبكم مش حا يمشي وراكم في سكة الأوهام، ولما الناس تتمرمط أكتر من عشرين سنة في مخيمات اللاجئين ولم تكون أهم حاجة عندهم هي التخلص بأسرع وقت من الاحتلال الإسرائيلي يصعب عليهم إنهم يتحملوا أحلام أهل السياسة …”، وفي تلك الفترة نشر أحمد بهاء الدين مقالا، اقترح فيه أن تقوم دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتوقفت أجهزة الإعلام عن وصف إسرائيل بـ “الكيان”، وكان بهاء الدين قد صار رئيسا لإذاعة صوت العرب، ليحل محل الديماجوجي أحمد سعيد الذي كان يصرخ في يونيو أن الجيش المصري سيدخل تل أبيب ويدمر إسرائيل.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل