المحتوى الرئيسى

الوثائقي العربي وغياب الدراما

12/21 17:30

لاشك أن من أهم وظائف الفيلم الوثائقي لفت أنظار المشاهدين إلى أهمية إن لم تكن خطورة- الموضوع الذي يناقشه، خاصة إذا كان يتعلق بقضية اجتماعية، أو بعيوب ونواقص في التعامل مع موضوع ما، أو عندما يتناول أفكارا سياسية تتعلق بالمواقف التي تنطلق منها السلطة -مثلا- في التعامل مع قضايا تمس المجتمع عموما.

هذه النقاط يتركز عليها اهتمام السينمائي الوثائقي عموما، لكن الملاحظ أن مخرجي الوثائقي العربي أدمنوا كثيرا الخضوع للصورة الواقعية، أي محاولة نقلها كما هي، وتقريبها بقدر الإمكان من المشاهدين، دون تدخل كبير، فني وإبداعي، في سياق الصور وعلاقاتها مع بعضها البعض، واستخدام وسائل أخرى أيضا في بناء الفيلم، مثل الرسوم أو التحريك والصور الفوتوغرافية وإعادة المحاكاة بالتمثيل، وغير ذلك.

ولعل الأصل في هذا الغياب، أي البعد عن المغامرة، يرجع إلى خضوع كثير من مخرجي هذه الأفلام للمفهوم القديم للفيلم الوثائقي، الذي يعدونه "الفيلم الذي يصور الحقيقة"، بينما للحقيقة ألف وجه ووجه. وما يقدمه السينمائي في فيلمه الوثائقي هو فقط الحقيقة كما يراها هو، من الزاوية التي ينظر منها إلى الموضوع، ثم من خلال الصياغة التي يتوصل إليها في مرحلة المونتاج بالاستبعاد والاختصار أو الاستعانة بما يدعم وجهة نظره الخاصة حول "الحقيقة".

هنا يبرز كثيرا دور المقابلات (interviews) في الوثائقي العربي، التي تطغى كثيرا على تفاصيل الصورة، وعلى الحدث الذي يصوره الفيلم، وعلى السياق الوثائقي نفسه، خاصة مع غياب البعد "الدرامي" في الفيلم الوثائقي، أي القدرة على بناء قصة تدور حول شخص أو حدث أو موضوع، وتكون قادرة على جذب انتباه المشاهدين، بعد أن أصبحت السينما الوثائقية -عموما- تواجه مشكلة كبرى في العالم كله، تتمثل في ذلك التحدي القائم والمستمر من جانب الفيلم الروائي الخيالي الذي يقدم وجبة مشوقة مثيرة مسلية، إضافة إلى الموضوع القوي والقصة التي قد تحمل أيضا مغزى اجتماعيا أو سياسيا.

ولعل المفارقة أن الفيلم الروائي استطاع الاستفادة كثيرا من العناصر الوثائقية في سياقه الدرامي، بحيث أصبح قادرا على إضفاء مصداقية أكثر على القصة التي يعرضها، وقد تكون بالطبع خيالية تماما، بينما لم يستفد الفيلم الوثائقي كثيرا من البعد الدرامي القصصي الذي يتمتع به الفيلم الروائي الخيالي.

ولعل مما يعيق بروز ما نطلق عليه "السياق الدرامي" في الفيلم الوثائقي العربي، خشية معظم مخرجي الوثائقي العرب من كتابة سيناريو شبه متكامل للفيلم، وهي مشكلة يواجهها أيضا الكثير من صناع الوثائقي في العالم.

فالعرف السائد هو أن يبدأ المخرج تصوير فيلمه بمجموعة أفكار عامة حول الموضوع، اعتمادا على البحث المكثف الذي يجريه، ثم يختار الأشخاص المناسبين الذين يمكنهم مناقشة الموضوع من زواياه المختلفة من خلال مقابلات مصورة، يستعين بها عبر أجزاء الفيلم. هذه الطريقة في العمل جاءت تحديدا نتاجا لتوجه الوثائقي بنسبة طاغية إلى التليفزيون، الذي فرض أيضا طابع التحقيق التليفزيوني على الفيلم الوثائقي.

من جهة أخرى، يخشى معظم المخرجين كتابة سيناريو يمتلئ بنوع من التفاصيل، حتى لا يفرض هذا السيناريو قيودا على "التلقائية" أو الإخلاص في تصوير الحقيقة والواقع، عن طريق التدخل في إعادة صياغة الواقع حسب رؤية السينمائي، رغم أن "التدخل" سيأتي بلا شك، في مرحلة ما بعد التصوير، أي خلال المونتاج.

يقول المنتج والمخرج الأميركي ديف ديفيز (مخرج الوثائقي الطويل "الستينيات: السنوات التي شكلت جيلا" عام 2005) إنه لا يكتب السيناريوهات لأفلامه الوثائقية، بل يضع الخطوط العريضة للمحتوى الذي يتركز حوله الفيلم والمواضيع المطروحة، والتيمات، ونوعية المشاهد التي يرغب في أن يتضمنها الفيلم، وما يريد توصيله للمشاهدين من خلال تلك المشاهد.

ويضيف أن الباقي يتم خلال العمل في المونتاج، ومن خلال التعليق الصوتي المصاحب للفيلم. ويوضح أنه عادة ما تبرز أشياء جديدة لم يكن يتوقعها في البداية خلال المونتاج.

ولا شك في صحة ما يقوله ديفيز، فهناك مساحة لا شك فيها يجب أن يتركها المخرج لما يمكن أن ينتج من تداعي الأفكار التي تولدها الصور خلال العملية الإبداعية الأساسية في الفيلم الوثائقي خصوصا، أي عملية المونتاج، إلا أن رأيه هذا يعكس -في الوقت ذاته- الوجهة التقليدية في إخراج الوثائقي السياسي الذي يعتمد على "التعليق الصوتي" أكثر مما يعتمد على "المؤثر الدرامي"، الذي يمكن أن تكشف عنه العلاقة بين الصور والمواقف.

ورغم ما حدث من تقدم كبير في شكل وبناء الفيلم الوثائقي، فإن الكثير من المخرجين لا يزالون يفضلون اللجوء إلى التعليق الصوتي المصاحب، وهو ما يطرح تساؤلات حقيقية مثل: من الذي يكتب التعليق؟ ومن أي وجهة نظر؟ وهل سيكون التعليق محايدا، وكيف يمكن أن يتم دفع العلاقة بين الصور والتعليق؟ وهل يحتاج المشاهدون إلى شرح للصور، أم يجب أن تشرح الصور نفسها بنفسها وأن يتم سرد الموضوع في سياق سمعي-بصري، بعيدا عن تدخل ذلك الصوت القادم من خارج الصور كأنه صوت القدر، الذي يهيمن على الفيلم ويفرض وجهة نظر محددة؟

لقد كان هذا مألوفا في الأفلام الوثائقية التعليمية أو السياسية التحريضية، وأشهرها فيلم "ساعات الأفران" (1968) الذي اشترك في إخراجه فرناندو سولاناس وأوكتافيو غتينو، وكان تطبيقا عمليا لفكرة "السينما الثورية" أو "السينما الثالثة" التي تنفي السينما الأولى، المصممة على وتيرة هوليوود، أي سينما القصص المثيرة، كما كانت نقيضا للسينما الثانية، أي سينما المؤلف المشغولة عادة بالتأملات الذاتية.

يتميز فيلم "ساعات الأفران" بالتعليق الصوتي الطويل الذي يسرد الكثير من الأرقام والبيانات والمعلومات، ويتوقف أمام الصور، ويحلل ويشرح، ويوجه المشاهدين لتبني وجهة نظر صانعي الفيلم الثورية، التي ترفض نظم الحكم الشمولية في أميركا اللاتينية، وتهاجم هيمنة طبقة وكلاء الشركات الأميركية التي تنهب الثروات، كما يتردد في الفيلم حرفيا.

ورغم ذلك، كان الفيلم يتميز ببنائه الجدلي المكثف من الصور واللقطات الفريدة، وكانت الشاشة تتحول أحيانا إلى سبورة تظهر عليها الأرقام والإحصائيات والبيانات بالرسوم، وقد استخدم المخرجان أيضا الصور الفوتوغرافية، وبدا الفيلم موجها للتحريض واستثارة الوعي وإيقاظه عند الجمهور، خاصة أن هذا الفيلم وغيره من أفلام السينما الثورية في أميركا اللاتينية في الستينيات كانت تعرض عروضا سرية في المصانع وساحات القرى وداخل الكنائس، وكانت تنتج بالتالي في خضم حركة سياسية تسعى للتغيير.

لا أعتقد بأن جمهور الفيلم الوثائقي اليوم بعد كل ما شهده هذ النوع من تقدم، سواء في أساليب التصوير أو العرض والاستقبال، يمكن أن يجلس أربع ساعات لمشاهدة فيلم مصمم على غرار "ساعات الأفران" الذي كان مصبوغا بصبغة الفيلم الثوري الفقير الذي تمتلئ لقطاته بما يشبه النقاط بسبب الحالة البدائية لأجهزة التصوير والمونتاج المستخدمة (كان التصوير يتم سرا).

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل