المحتوى الرئيسى

نعم تعيش فيّ كما أعيش فيها! (عن قطر في يومها الوطني)

12/20 22:41

مُنى التي أنا عليها اليوم لم تكن لتصبحَ هيَ لو نَشأت في مكانٍ آخر، ليس بالضرورة أسوأ أو أفضل، لكنها لن تكون هي كما أعرفها ويعرفها الآخرون. في قطر وُلِد أبي وجُلّ أسرتي القريبة من جيله وما بعد، نشأنا جميعا هنا مذ كانت الدوحة مدينة بسيطة لا تستطيع ذكرها في دولة أخرى دون التعريف بها كجارة للسعودية (حيث الكعبة) أو لدبي، لم يكن ليعرفها أحد -تقريبا- في ذلك الوقت، وكُنّا نغار لأجلها! نتساءل: كيف لا تعرف قطر؟!

قطر تلك بشوارعها الضيقة وبنائها البسيط وهدوئها الحميم ونُدرة مقاصِد الترفيه فيها؛ كانت تسكُن في قلوبنا، وطنٌ ثانٍ، ذكريات وتفاصيل راسخة نعرفها ويعرفها من عاش معنا هناك من أهل البلاد (قطريين وغير قطريين)، ممن عاش فيها سنين طوال فأصبح جزءًا منها وأصبحت جزءًا منه، فلم يكن مجرّد باحثٍ عن عمل، يستقيل فيغادر، إننا في أقسى ظروفنا المادية لم نكن لنفكّر بالانتقال إلى الأردن مثلًا حيث يتوفر مسكنٌ لا ندفع إيجاره، أو إلى دولة أخرى كان بالإمكان العثور فيها على حياة أكثر جودة وأعلى دخلًا، هكذا كان كثيرٌ ممن أعرف ولم يكونوا بالضرورة من الشتات الفلسطيني، سودانيون ومصريون وسوريون ويمنيون...إلخ.

بمرور الوقت تفتّح وَعيي على الدوحة تنطلقُ في مارثون كبير وسريع نحو الريادة والتطوير والمنافسة في مجالات متعددة، هذه الدولة الصغيرة مساحةً وتعدادًا سكانيًا بدأت تهرول محاولةً صنع مجدٍ حديث، رافضةً التهميش بين جاراتها، تُدرك تمامًا مكانها على خريطة الاقتصاد والسياسة والرياضة والتعليم والثقافة والتاريخ، وأن أمامها الكثير لتدخل ميدان المنافسة فيه، لكنها تدرك في ذات الوقت أن الباب لا يمكن أن يكون مُوصَدًا تمامًا، وأن الأموال الطائلة -التي أنعم الله بها على أبنائها- لا بد أن تُوظَّفَ لخوض هذا السباق (ولا عيب في ذلك إن لم يكن العامل الوحيد).

في عامي الدراسي الأول بالجامعة استضافت قطر للمرة الأولى دورة الألعاب الآسيوية "آسياد 2006" والتي تعد أكبر الأحداث الرياضية المقامة في المنطقة في ذلك الوقت، تطوّعتُ مع قريبتي في تنظيم الحدث لأشهرٍ عديدة، وتَرقّبنا انطلاقته في حماسٍ كبير، لا لحجمه فقط، بل لشعورٍ بالفخرِ تملَّكَنا، فنحنُ لا نسكن هنا فقط، نحن ننتمي إلى هذه البلاد، نحن جزءٌ منها، رضيَ من رضي وسَخطَ من سَخَط، لكلِ زاويةٍ هنا ذكرى لنا وإنجاز؛ أنجز هذا جدي لأبي (رحمه الله)، وذاك أسسهُ جدّي لأمي، خالي بنى هذا، وأبي أدارَ ذاك، أنا تطوعّت هنا، وأخي بَرَزَ هناك!

أعوامٌ مرّت ووجدَتْ قطر لنفسها مكانًا على الخارطة يُحسبُ له حساب، مهما أنكر ذلك بعض الشوفينيين ممن يقيس البلاد بامتارها المربّعة وماضيها السحيق فقط، ومهما أنكرَ حاقدٌ على كل ذي مال، أو مَدنيٌّ مستهزئٌ بكُلِّ من سِواه. اتفقنا أم اختلفنا مع تَوجُّه و"إنجازات قطر" سياسيًا واقتصاديًا وتنمويًا، لا يمكن لعاقل إنكار وجود هذه الإنجازات والتي تمت صناعتها في فترة قصيرة نسبيًا، إنجازات لم تكن لتُصنعَ بلا هذه الأموال الوفيرة، نعم صحيح، لكنها لم تكن لتُصنعَ أيضًا دون إرادة وتخطيط وعمل وجهد كل من ساهم فيها من آل البلاد وغيرهم، دول الجوار تملك المال أيضًا، فماذا فعلت به؟ حسنًا، هل وصلت قطر القمة؟ لا، لكنها تحاول. من في القمة في وطننا العربي؟ ربما لا أحد بعد، وفي غالبه لا يحاول أصلًا. هل التجربة القطرية تستحق الإشادة؟ طبعًا.

بأريحية شديدة أقول: نعم أختلفُ مع بعض سياسات قطر، أعرف السيئ منها، أتفهّم دواعي بعضها ولا أتفهّم البعض الآخر، نعم ليست ولم تكن مدينة فاضلة، لكنّ الفضل فيها كثير، ويلحظه جلّ أصدقائي القادمين الجدد، نعم تعاني -كما معظم دول العالم إن لم يكن كلها- -من شيء من فساد أو إهمال أو سوء تخطيط لا ينبغي الرضا به أو إقراره، لكن هذا كله لا يعني الإجحاف ومساواتها بأعتى مراكز الفساد والإهمال والعشوائية، نعم ليست ديمقراطية، لكنها ليست إمبراطورية قهر واستبداد وإذلال. أنا حقًا لا أستطيع فَهم من يحلو له إلقاء (الدول، الأشخاص، الأشياء..) كلها في خانة الجنة أو الجحيم، الملاك أو الشيطان.

أدركُ عيوب قطر جيدًا، لكنّي أدرك ميزاتها، أدركُ ما أعطتني، وأدركُ ما فقدتُ فيها، لم أتعامل معها يومًا كمُجرّد مَصدرٍ للتربُّح، ولم أتملّق سلطة أو جاهًا، لكنني أحببتها كوطن، نرعاه ويرعانا، انتماءً. إنني حين كتبتُ في ملفي الشخصي على تويتر "رئيسة الحكومة التأسيسية للولايات المتحدة العربية" وتحدّثتُ يومًا عن انتمائي للوطن العربي الكبير في ذروة جمال ثورات الحرية قبل نكستها، حينها كانت قطر في القلب مِنِّي إلى جوار وطني الأم وحبيبتي فلسطين، وحولها تستقرُّ باقي أقطار الوطن الكبير، انتماءاتي المتعددة هذه هي دائمًا عندي شرفٌ لا نقيصة، ولا أخجل من التصريح بها خوفًا من اتهاماتِ من عينة "التملق، حلف الإخوان، أمريكا، المال، البطيخ!" أو من تعليقاتٍ عنصرية تصدرُ من أشخاص لا يعرفون من الوطنية سوى الجيش ومن الحضارة سوى ما عفى عليه التاريخ، وما لحاضرهم مجدٌ ولا لمستقبلهم رُؤية، إلا أنهم حين يَرِنُّ المال يتعرّفون فجأة إلى ضرورة المراجعات الذاتية لآرائهم وأحكامهم المسبقة، ويُقررّون أن في السكوت حِكمة.

بِمضي العُمر قد تلقاني يومًا أعيش هنا أو هناك، لكنك لن تلقاني مُطلقًا نسيتُ مساء الدوحة المضيء، ولا صباحاتها المشمسة، ولا صفحة بحرها الساكن، ولا رائحة الحطب في صحرائها، لن تلقاني نسيتُ الطيبين من أهلها، ولا أسواقها فسيفسائية الزائرين من كل أقطار العالم، لن تلقاني أتنكّر يومًا لفضلها، أو أطُفئ حبها في القلب، وسأتذكر دومًا أنني هناك -في قطر- اكتسبتُ صِبغتي الأولى، لأكون ما أنا عليه، ووجدتُ العناية بصحّتي، واحترامَ إنسانيتي، والأمان والمساعدة من شرطة لم تهنّي يومًا ولم أخشَها لحظة، وجدتُ أبوابًا كثيرة مُشرعة لأنهل الثقافة والعلم، ومحاولاتٍ حثيثة لصناعة المتعة. أنحازُ لقيم الحق والعدالة والحرية، وأنحاز في ذات الوقت للإنصاف والتقدير والحب.

سَكِينة الدوحة لا تعادلها سَكينة. هي الملجأ حين نتعب من الحياة الصاخبة المخيفة، إننا حين نخرج ونخوض في العالم الزاخر ونستمتع بالمغامرة، سنعود دائما لأخذ قسط من الراحة في دوحتنا.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل