المحتوى الرئيسى

عبد الله أحمد يكتب: روسيا عقدة التاريخ و الجغرافيا التركية | ساسة بوست

12/20 22:07

منذ 1 دقيقة، 20 ديسمبر,2015

إن النظرية السياسية التي لا تستطيع أن توجد انسجامًا بين التوجهات الاستراتيجية والأدوات التي تستخدمها في توجهاتها هذه، ستظل أسيرة للمتغيرات التي تحدث في الأوضاع الدولية، وستكون خطاباتها المتعلقة بهذه المتغيرات خطابات راديكالية “فرقعات صوتية”. أما التطبيقات العملية لسياساتها، فستكون أيضًا أسيرة للمتغيرات الديناميكية في الأوضاع الدولية ورهينة السعي إلى التكيف مع هذه المتغيرات – أحمد داوود  أوغلو. (رئيس وزراء الجمهورية التركية)

يطرح إسقاط الطائرة الروسية على الحدود السورية التركية من قبل الجيش التركي،  وما تبعه من تصاعد لنذر الحرب بين الطرفين مع توتر العلاقات بينهما والذي يرجع لبدايات الثورة السورية في ظل تباين وجهات النظر حولها، فبينما دعمت الحكومة التركية الشعب السوري في مطلبه بإسقاط نظام بشار الأسد الذي يأوي آخر قاعدة روسية خارج الأراضي الروسية، وهو الأمر الذي يدفع روسيا التي خسرت أوكرانيا (خلا المنطقة الشرقية السلافية التي استولت عليها المليشيات الموالية لها بالإضافة  لشبه جزيرة القرم) وجورجيا للوقوف إلى جانب نظام بشار الأسد المتهاوي وحلفائه الشيعة.

استدعاء تاريخ العلاقة المتقلبة الفصول والتي تراوحت طبيعتها بين الصراع الذي غلب عليها طيلة خمسة قرون منذ فتح القسطنطينية التي غدت عاصمة الدولة العثمانية، والتي تزامنت مع حروب الخانات التركمانية في القوقاز وشمال البحر الأسود مع إمارة موسكوفا (نواة الإمبراطورية الروسية)، مرورًا بحرب القرم ومحاولات الإمبراطورية الروسية الوليدة الاستفادة من ضعف رجل أوروبا المريض ، وصولاً لتأسيس الاتحاد السوفييتي بالتزامن تقريبًا مع إقامة الجمهورية التركية وسقوط الخلافة العثمانية، من ناحية ثانية طبع تقارب خجول منذ نهاية الحرب الباردة العلاقة بين الطرفين استعراض هذه العلاقة قد يساهم في فهم طبيعة التوتر المحتدم بين الطرفين ومستقبلها وتأثيرها على المنطقة ككل.

تعاني روسيا بتاريخها الإمبراطوري/السوفييتي وصولاً إلى اليوم من لعنتي التاريخ والجغرافيا معًا في علاقتها مع محيطها الأوروآسيوي، حيث اصطدمت بجيرانها المسلمين الأتراك، الذين استطاعوا تحويل البحر الأسود لبحيرة عثمانية داخلية، ما حرم روسيا من شريانها البحري للاتصال بالعالم، كما أن أقربائهم الأوزبك والأذريين فضلاً عن بقية مسلمي القوقاز ضيقوا الخناق على الإمبراطورية الروسية في بحر قزوين؛ حيث لم تسيطر على منطقة آسيا الوسطى تمامًا سوى في نهاية القرن السابع عشر،  فباتت ترنو للوصول للمياه الدافئة سواء عبر البحر الأبيض المتوسط الذي يسيطر عليه من الشرق الأتراك العثمانيون، أم الخليج العربي وبحر العرب عبر إيران أو أفغانستان.

شكل فتح السلطان العثماني محمد الثاني للقسطنطينية سنة 1453، صدمة للعالم المسيحي عمومًا والأرثوذكسي خصوصًا، سيما مركز هذه العقيدة الجديد: موسكو عاصمة الإمارة الروسية، والتي ارتبط أمراؤها من أسرة روريك بصلات مصاهرة مع حكام القسطنطينية من “آل باليغول” منذ عهد أمير كييفسكايا روس (نواة الإمارة الروسية) فلاديمير روريك (980-1015)، ما جعل أمراء الدولة الروسية الوليدة على عداء مستمر مع الإمبراطورية العثمانية التركمانية المنبعثة من الأناضول إلى البلقان، الذي يعرف هو الآخر وجود أكثرية سلافية تشكل امتدادًا عرقيًا  لسكان الإمارة الروسية، لم يخف العداء مع تولي أسرة رومانوف للحكم في موسكو، إذ حرص القيصر الطموح إيفان المعروف بالرهيب (1530-1584)، على تصفية الإمارات التترية (القومية التترية هي الأخرى قومية طورانية قريبة للأتراك) على نهر الفولغا مثل قازان  (1552) واسترخان (1554).

شكل ميلاد ما يسمى النظام الويستفالي سنة 1648، الذي رسخ للدولة القومية في أوروبا الغربية إحدى تحديات الإمبراطورية الروسية في عصر الحداثة، حيث انطلق الروس يبحثون عن هوية تحدد عمقهم الجيوثقافي والجيوسياسي لاسيما مع فتوحات  بطرس الأكبر (1689-1725)، في غرب روسيا مع استعادة كييف ثم أزوف على البحر الأسود، ثم القضاء نهائيًا على خانية القرم التركية في عهد الإمبراطورة كاترينا (1729-1796)، أدى توسع الإمبراطورية شرقـًا في وسط آسيا وصولاً لنهري أموردريا وسيرداريا، فانبثقت مدرستان، الأولى ترى في الأمة الروسية أمة أوروبية على عهد الإمبراطور بطرس الأكبر (1689-1725)، الذي سعى لتغريب روسيا وكان من منظري سياسته الجغرافي فاسيلي تاتيتشف ((1686-1750، الذي أعلن أن أوروبا تنتهي عند الأورال.

وبذلك تكون الأمة الروسية أمة أوروبية، لكن مع اصطدام روسيا المحافظة الاستبدادية مع الغرب الأوروبي، الذي بدأ يعرف ظهور دول مؤسسية تقطع مع الاستبداد الثيوقراطي، وزاد الطين بلة حروب نابليون مع روسيا، ما أدى إلى ظهور نظريات التقوقع على الذات، والتي أطلقها مجموعة من الجغرافيين والسياسيين والأدباء كان من أبرزهم دلفنسكي (1822- 1885)  بالإضافة  لليونتييف (1831-1891)  ولامنسكي (1833-1914) الذين تبنوا نظرية جيوسياسية تقوم وفقها روسيا العظمى بتوحيد الأعراق السلافية والطورانية (التركمانية) والسيومية (الفنلدية) في بوتقة حضارية محافظة واحدة في وجه الانحراف  الغربي (الحداثة).

وقد كان الأديب دستفويسكي من متبني هذه الفكرة، غير أن الفكرة اقتصرت بعد ذلك على وحدة العرق السلافي، لاسيما بعد حرب القرم التي دعمت فيها القوى الغربية  الدولة العثمانية، التي بدأت آنذاك في التلاشي لتصير رجل أوروبا المريض، كما عبر عن ذلك قيصر روسيا نيقولاي الأول سنة 1853، في المقابل تحول الدعم الروسي لمساندة ثورات الأكثرية السلافية والأرثوذكسية في البلقان؛ حيث دعمت روسيا انفصال بلغاريا وصربيا واليونان في أواسط القرن التاسع عشر.

عند نهايات هذا القرن انتقل الدعم الروسي ليشمل الأقلية الأرمنية الأرثوذكسية في شرق الأناضول؛ حيث شن هؤلاء  حرب تطهير عرقي في محيط بحيرة فان ضد الأكراد والأتراك المسلمين، لكن تصدي الدولة العثمانية سنة 1915 فيما يعرف تاريخيًا بإبادة الأرمن، شكل  القشة التي قسمت ظهر البعيد على المستوى الشعبي  بين الأتراك ونظرائهم السلاف، بالإضافة  لفظاعات هؤلاء في آسيا الوسطى بحق الأوزبك والتركمان والكازاخ والشيشانيين والشركس في القوقاز، وبقية الشعوب الطورانية، جعل الأتراك يتخوفون من أية محاولة روسية للقضاء على الوجود التركي في الأناضول نفسه قلب الدولة العثمانية، ومع تصاعد الفكرة القومية ممثلة في جمعية تركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي، بدأ الصراع يتخذ طابعًا قوميًا بالإضافة لطابعه الديني-الجغرافي.

رغم التحول في فكر النظام السياسي الروسي وبنيته مع الثورة البلشيفية، إلا أن المطامع الروسية لم تتغير بخصوص الأناضول لاسيما بعد سقوط الدولة العثمانية في يد القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ومع توقيع اتفاق سيفر سنة 1921 حرصت روسيا على بسط نفوذها في شرق الأناضول، لكن انتصار الجمهورية التركية  الوليدة في حربها الاستقلالية ضد القوى الغربية، ظل الاتحاد السوفيتي يطمح  للسيطرة على مدينتي قارص وأردخان شمال شرق الأناضول، بالإضافة لمحاولة الحصول على حقوق الملاحة في مضيقي البوسفور ودردنيل هذه الأطماع التي ظلت تلوح طيلة فترة بين الحربين العالميتين، رغم التزام تركيا الحياد في الحرب العالمية الثانية إلا أن محاولات الاحتواء السوفييتية دفعتها للارتماء في أحضان القوة الأمريكية الصاعدة وريثة الإمبراطوريات الاستعمارية الآفلة، التي رأت في تخوف تركيا من السيطرة السوفييتية فرصة  لتعزيز تموضعها –الولايات المتحدة- الاستراتيجي في منطقة الحزام المحيط بقلب القارة الأوراسية الأم.

وشكل انضمام تركيا لتحالف الشمال الأطلسي سنة 1952 خطوة أخرى في تعزيز العداء بين الكيانين الجارين، رغم تغير البنيات الفوقية والتحية في كل من نظامي البلدين، شكل غزو تركيا لشمال قبرص سنة 1974 فرصة للارتقاء بالعلاقة بين البلدين بسبب فتور علاقة أنقرة بالغرب، لكن التدخل السوفييتي في أفغانستان والانقلاب العسكري في تركيا حالا دون ذلك.

لم تتحسن العلاقات الروسية-التركية في سنوات التسعينات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، على أثر دعم روسيا للأرمن في حرب قره باغ في مقابل أذربيجان الجمهورية التركمانية المدعومة من تركيا، والتي رفعت نخبتها  الحاكمة من قوميين (أوزال وديميريل…) وحتى إسلاميين (أربكان) شعار: الوطن التركي من سور الصين وحتى الأدرياتيكي والذي حاولت تفعيله من خلال الدعم الدبلوماسي والاقتصادي لجمهوريات آسيا الوسطى التركمانية الوليدة.

ولد هذا المشروع تخوفـًا لدى روسيا التي سعت لضمان مصالحها من خلال منظومة الدول المستقلة التي تأسست سنة 1992، كما أن حرب الشيشان عمقت حالة الفتور، رغم سعي تركيا من خلال منظمة دول البحر الأسود لترميم علاقتها مع روسيا وجمهوريات المنطقة الوليدة، إلا أن حروب البلقان في البوسنة وكوسوفو مع دعم روسيا لعمليات الإبادة بحق البوشناق والألبان المسلمين، الذين اعتبرتهم الدعاية السلافية في روسيا وصربيا امتدادًا لتركيا المسلمة حال دون ذلك.

حاولت روسيا بعد هجمات 11 سبتمبر توظيف حرب الغرب على الإرهاب للقضاء على الانفصاليين المسلمين في القوقاز في جمهوريات الشيشان وأنغوشيا وداغستان، كما حاولت إعادة تفعيل منظمة الدول المستقلة في آسيا الوسطى، لاسيما مع تمركز القوات الأمريكية  في المنطقة الغنية بالنفط بكل من أوزبكستان وقيرغزستان، كما أن المحاولات الأمريكية المستمرة للسيطرة على دول طوق روسيا أي الجمهوريات المستقلة في أوروبا، دفع بواشنطن لإعادة تفعيل العلاقات مع تركيا التي فترت بعد رفض هذه الأخيرة دعم الغزو الأمريكي للعراق، الذي شكل فرصة لتقارب أنقرة مع موسكو، لكن متغيرات المنطقة مع اشتعال ثورات الربيع العربي، وطموح تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية للعب دور أكبر في محاورها الاستراتيجية الإقليمية في القوقاز والبلقان بالإضافة للشرق الأوسط يؤدي لالتقاء مصالحها، وواشنطن التي لم تعد ترى فيها حاميًا من طموحات الكرملين التاريخية، بقدر ما ترى فيها شريكًا لاستعادة دور إقليمي ودولي غاب منذ انهيار الدولة العثمانية.

صحيح أن المصالح التركية قد لا تلتقي بالضرورة مع رؤى الكرملين ومصالحه، إلا أن ما يخيف بوتين ليس إرهاب العناصر القوقازية المقاتلة في صفوف داعش، كما زعم الرئيس الروسي عقب تدخله المباشر في الأزمة السورية،  وإن كان انتصار الشعب السوري وداعميه الأتراك قد يوقظ مشاعر الاستقلال ليس فقط في جمهوريات القوقاز بل حتى في آسيا الوسطى، التي ما تزال خاضعة  للهيمنة الروسية بقدر ما يخيفه يقظة الشعب الروسي نفسه الذي يرى الطغاة يتساقطون حوله فيما يصر قيصر الكي جي بيه على الاستمرار في قيادة الدولة لمدة تقارب العشرين سنة (إذا احتسبنا الفترة التي أدار فيها بوتين من خلف صنيعته ميدفيدف دواليب الحكم في الكرملين) مع ما ميز حكمه من استبداد وكتم لأصوات المعارضين وتضييق على الحريات، فضلاً عن فساد مالي واقتصاد مافيوزي يواريه خلف الشعارات الانغلاقية السلافو-أرثوذكسية والوطنية الفاشية التي يجد فيها الطغاة ملاذًا لهم حينما تكون شرعيتهم على المحك.

الحروب التي حدثت بين روسيا وتركيا (الإمبراطورية العثمانية):

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل