المحتوى الرئيسى

مسامرات لوقيانوس الملتهبة

12/18 18:45

أحس لوقيانوس بربة الفلسفة تهمس له: «إن هذه المهنة مجلبة للحقد والبغضاء.. قسماً بهرقل»، فما كان من بدٍ عنده إلا أن يجيب مخاطباً «ولذا أنتِ ترين كم ألّبت عليَّ من أعداء ولأي أخطار عرّضتني».

إنه «الاستقلال الفكري» الجميل والثري والعميق، الذي ميز فكر وطروحات لوقيانوس السميساطي، بحيث أنه كتب النص الذي استلهمه كل من ابي العلاء المعري والايطالي دانتي، إنه كتابه الشهير «مسامرات الأموات». لوقيانوس هو فيلسوف «سوري» ـ لم يُذكر في مقدمة الكتاب بأنه «سوري»؟! علماً أنه عُرف دائما كفيلسوف سوري ساخر وهجّاء. لوقيانوس المولود في بلدة سميساط، على الفرات الأعلى، في زمن سادت فيه اللغة السريانية، إبان عهد العاهل الروماني أدريان نحو عام 125م. رغم أن لوقيانوس كان ابناً لنحات إلا أنه لم يتعاط النحت، فضل الدراسة في أيونيا، التي كانت تزخر بالعلم والعلماء، وتشهد انبعاث نهضة كبرى في الأدب والفلسفة والتاريخ والبلاغة.

من خلال قراءة «مسامرات الأموات»، الصادر حديثا عن المنظمة العربية للترجمة، ترجمة الياس سعد غالي، نلمس بوضوح تأثر لوقيانوس بالأدباء المدرسيين «الكلاسيك»، لاستشهاداته التي لا تحصى بأقوالهم في مؤلفاته المختلفة. كان يحفظ هوميروس عن ظهر قلبه وعرف معرفة عميقة هسيود وتيوغنيس وبيندار له وسيمونيد وشعراء المسرح ولاسيما أوريبيدس واريستوفان وكذلك الفلاسفة، أفلاطون، وأرسطو، وأبيقور، وقرأ مؤلفات المؤرخين كهيرودوتس وتيوسديد وكسينوفون والخطباء ولاسيما ديموستين الذي كان يكنّ له تقديرا كبيرا وأولع بقراءة خطبه ولعا بالغاً.

حالما أنهى لوقيانوس دروسه، رافع في بعض القضايا مدة من الزمن في انطاكية، لكنه ما لبث أن ملّ المحاماة فغادر انطاكية إلى أثينا، وعدل عن المحاماة إلى السفسطة، في وقت كان فيه السفسطائيون خطباء يتنقلون من مدينة إلى أخرى ليلقوا في أوساطها المثقفة خطباً أشبه شيء بالمحاضرات التي تلقى في أيامنا هذه.

وبذلك كانوا يكسبون مالاً وفيراً وشهرة واسعة. ولوقيانوس الذي كان يشعر بأنه يملك مقاليد البلاغة قد ألقى هو أيضاً محاضرات عامة مثلهم. وقد اضطره مرض في عينيه إلى السفر إلى روما لمراجعة طبيب عيون شهير فيها، فصادف هناك الفيلسوف نيكرينوس الذي سبق أن عرفه في أثينا، وقد أثرت فيه خطب نيكرينوس حتى كاد يتفرغ للفلسفة. غير أن حب المجد فيه كان أقوى فعاد إلى مهنة السفسطة لمّا عاد إلى بلاد الاغريق، ثم شرع في رحلاته إلى ايطاليا وبلاد الغال. ويظن بعض المؤرخين أنه علّم الخطابة اليونانية في إحدى مدن وادي الرون وأنه كان يقبض لقاء ذلك مبالغ طائلة. وبعد أن جمع ثروة كافية عاد إلى سميساط ليظهر لمواطنيه ما نال من مال وجاه. ثم عاد إلى حياة التنقل إلى أن استقر في أثينا عشرين عاما.

كان قد بلغ الأربعين من عمره تقريباً وقد أنضجه التفكير والسن فتخلى علناً ورسمياً عن السفسطة وتلفيقاتها السخيفة، ورجع إلى الفلسفة أو بالحري إلى الاهتمام بالأخلاق العملية، لا ليعالجها من الناحية النظرية بل ليكشف القناع عن الرذائل ويجعل أصحابها أضحوكة للناس.

لوقيانوس كتب «مذاهب تباع بالمزاد»، وخلق لنفسه أعداء كثيرين ولاسيما الكلبيين، وأثار ضده طلاب مختلف المذاهب الفلسفية.

تفوق لوقيانوس يظهر جلياً في محاورات الآلهة، والآلهة البحرية، ومسامرات الأموات وفي الدراما القصيرة مثل تيمون وبروميثيوس واستفتاء ميت وخارون ومذاهب بالمزاد والصياد والديك. إن الحديث فيها تمليه دائماً فكرة هجائية أو نيّة أخلاقية أو فلسفية. لقد كان يتخيّر ألفاظه ونكته ليجعل النتيجة دائماً حاضرة في ذهنه. فعندما رب الأرباب زفس يشكو إلى هيروس همه لعدم محبة سراريه له، وعندما يتخاصم مع زوجته هيرا بسبب خياناته العديدة، وعندما يذكر لكانيميد ماذا ينتظر منه، فإننا لانرى فيه إلها بل رجلا عادياً راكضاً خلف الإناث مغتصباً سافلاً شرساً. لقد كان كافيا بالنسبة للوقيانوس أن يتكلم مظهراً حماقة الأسطورة جلياً بسؤاله سؤالاً بسيطاً بريئاً في الظاهر كأن لا خبث فيه ويضطر الإله نفسه أحياناً بعد أن يقنعه أحد الناس في حديث أو جدل إلى الاعتراف بعجزه تجاه القدر وعدم جدوى الصلوات التي يبتهل بها إليه. ومما يدل على ضعف عقيدة لوقيانوس الدينية أو عدمها من خلال سخريته من الذين حكموا على سقراط بالموت محافظة منهم على معتقداتهم في الدين حيث يقول أحد أبطال محاوراته مخاطباً جوبيتر: «يا جوبيتر يا مرسل البروق وجامع الغيوم ومطلق الرعد القاصف، يا من يدعوك الشعراء في تحمسهم بأسماء أخرى لا سيما عندما تضايقهم الأوزان فتسمى عندئذ حسب هواهم بأسماء مختلفة فتحول دون اختلال وزن البيت من الشعر، أين الآن ضجيج بروقك وزمزمة رعودك الرهيبة وصاعقتك الملتهبة المشعشعة الراعبة؟ ما هنّ منذ زمن بعيد سوى حماقات اختلقتها أدمغة الشعراء ولم يبق منهنّ سوى صلصلة الألفاظ. إنك لا ترسل سوى جذوة قديمة فلا يخشون نارها ولا دخانها ولا تستطيع أن تلحق بهم أي أذى». إن لوقيانوس هدام مروع كفولتير الذي كثيراً ما شُبّه به مع ما بينهما من فارق. إذ إن فولتير يهاجم العقيدة خصوصاً باسم التساهل والتسامح لزحزحة نير دين يضغط، في اعتقاده، على الفكر، أما لوقيانوس فإنه يهاجم العقيدة باسم العقل لأن الضلال صدم وإهانة.

لوقيانوس في مؤلفه المدمر «مسامرات الأموات» أراد أن يجمل انتقاداته لمعاصريه في كتيب واحد فوضع محاورات الأموات هذا المؤلف الطريف الفريد من نوعه حتى ذلك العهد. لقد ضمن كتابه هذا فكرة بارعة خصبة وطريقة طريفة مبتكرة في نقد أخلاق البشر وعاداتهم بأسلوبه الشائق الدال على خفة روحه وسعة خياله وفيض قريحته وعظيم اقتداره على التهكم والسخرية مما كان شائعاً في عصره من خرافات وسخافات ومن أوهام وأباطيل.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل