المحتوى الرئيسى

بين محاكمة سقراط ومحاكمة (جوزيف كاف)

12/18 18:45

الرقابة تكاد تكون أمراً ميتافيزيقياً، نحن دائماً تحت العين الخفية التي تحصي أفعالنا، الخوف يشلّنا فكيف نتحدث عن الرقابة حين تغدو الجريمة نفسها مباحة وطليقة.

يعيش الكاتب في عالمنا هذا الهاجس الدائم، هاجس الملاحقة أو أن يكون ضحية أية تهمة تتهدده، هذا الخوف القديم المتوارث لا يتوارى للحظات من حالات اليقظة حتى يظهر في النوم كابوساً أو شبحاً مقيماً داخل الإنسان في عالمنا العربي، حيث الكاتب ضحية ملاحقة ما مؤجلة أو منتظرة، قد يدق بابه في أي وقت يشاء زائر ليل أو زائر فجر، وهو يعتقد أنه لم يفعل شيئاً في حياته، لكن سرعان ما يُثبت له أنه كائن خطير وخبيث، وأنه يحمل أوزاراً شتى مهما توهّم من براءة أو ادّعى العفوية، تماماً مثل شخصيات كافكا، ويُخيّل لي أن روايات كافكا أكثر روايات العالم تمثيلاً لواقعنا نحن الشرقيين وأن الجملة الأولى من رواية المحاكمة: «لا بد أن أحدهم قد افترى الأكاذيب على ك»، هذه الجملة هي مفتاح اللغز لعالمنا الغامض الذي تتجلى فيه الحقيقة الأكبر بأن الإنسان ملاحق ومتهم ولا يقدر على أن يثبت براءته حتى يزول عن الوجود.هذه الحقيقة تستحوذ على كل الحقائق، وأينما مضى حتى لو خرج خارج حدود المكان فسيكون ملاحقاً وتحت وطأة عقاب محتمل ولسان حاله يقول ما قاله النابغة الذبياني مخاطباً سلطان ذاك الزمان: «فإنك كالليل الذي هو مدركي/ وإن خلت أن المنتأى عنك واسعُ» لكن لماذا خُلقنا على هذا الحال المقيم والقديم؟! وهل هو قدر لا مفر منه؟ لا أزعم أنني أستطيع الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، ولكن، لعل في هذا القلق أو اللا استقرار بعض الإيجابية، وليكن عزاء لكتاب العرب ألا يعيشوا من دون قلق.

أعترف أنني، على المستوى الشخصي، على الرغم من أن ذاكرتي تحفظ العديد من الشذرات عن محاكمات الأدباء والفلاسفة في تاريخ العالم، لم يحصل معي قضايا تستحق الذكر في هذا الباب من أبواب (الجنون) الذي كان أحياناً يبلغ ذروته ويضرب بالناس خبط عشواء، ولكنني أعيش هذا الخوف منذ زمن طويل، وفي مرحلة ما كنت أواجه هذا الخوف بالتحدي أحياناً إلى درجة التهور ثم بالمواربة في ما بعد، ودائماً يوجد عندي هذا الشعور الكافكوي أنني قد أُستدعى لأمر ما، وهذه آلية هيّأتُ نفسي لتفهمها لا لتبريرها، ثم حدث أن استُدعيتُ لسبب أو لآخر، وقلت لنفسي من المحال أن يعيش المرء في هذا العالم كل هذه السنوات من دون أن يُستدعى، فهذا يعني أن خللاً قد حدث في هذا العالم وجعله يخرج عن المألوف! إذاً صار الأمر مألوفاً في حياتنا، فإنه في الحالات العادية يشبه المزاح الخشن بين طرفين غير متعادلين، أحدهما يملك المقدرة على أن ينغّص على الطرف الآخر حياته ويزيد من نسبة القلق عنده وما على الطرف الأضعف (الفرد) سوى أن يكون الضحية أو المتلقي، ولكن في كثير من الأحيان يزيد الأمر عن حدِّ المزاح الخشن، وهنا يدخل الضحية في الجحيم أو اللعنة أو العذاب الأبدي.

توجد مرويات عديدة عن مثل هذا العذاب المخزي، عايشها البعض أو سمع بها، ونتج عنها مآس من الصعب أن توصف حتى في الروايات الأشد واقعية والتي لامست مثل هذه القضايا بشكل أو بآخر. من جهتي ككاتب قصة، في معظم قصصي يوجد تعبيرات متعددة عن هذا القلق بشكل تهكمي أو موارب، وربما هو الغالب على كتاباتي، ولا يوجد هنا متسع لعرض كل ما كتبت عن الإنسان الخائف إلى حد الذعر أحياناً، إلا أنني أرغب أن أشير إلى قصتين كانتا أكثر تعبيراً عن هذه الحالة: القصة الأولى بعنوان «ملف بورخيس» كتبت مطلع التسعينيات ونشرت في مجلة (الطريق اللبنانية) ثم في مجموعتي الأولى «حراس العالم» الطبعة الأولى نشرت عام 1996 وتتحدث القصة عن كاتب شاب يقوم بجمع ملف من قصاصات الصحف والمجلات عن الشاعر اليوناني ريتسوس والمكسيكي أوكتافيو باث ثم يتوسع بالأمر ويفتح ملفاً خاصاً ببورخس؛ وما إن يبدأ بجمع هذا الملف حتى يدق باب غرفته شخص يقول بلهجة التهديد بأنه جاء من أجل الملف الناقص وغير المدقق مع معلومات جهاز الأرشفة، ويُبلّغ رسمياً بالاستدعاء ومراجعة الجهاز المختص، وتبدأ رحلة كابوسية في حياة الكاتب الشاب نتركها لخيال القراء..

القصة الثانية بعنوان: «البئر والصدى» تتحدث عن معتقل سابق خرج بعد سنوات طويلة، وكان قبل الاعتقال مرحاً محبوباً من أهل قريته لكنه بعد الخروج حاول أن يتكيف مع محيطه؛ إلا أنه لم ينجح، وهو يتوق إلى التعاطف إلا أن الناس ينظرون إليه على أنه منتهك معتدى عليه ليس أمامه سوى الانكفاء في الخرائب خارج القرية. هذه بعض تعبيراتي المتواضعة عن محكمة الفرد الأعزل في عالمنا الذي يشبه إلى حد التطابق شخصية «جوزيف ك» في رواية «المحاكمة» ويا لبلاغة هذا العنوان الذي يختزل كل هذه (الميتاواقعية) في وجودنا في هذا الوضع البشري.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل