المحتوى الرئيسى

طارق البرغوثي يكتب: تصيُّد الصواب بدل العثرات | ساسة بوست

12/14 10:28

منذ 1 دقيقة، 14 ديسمبر,2015

أخذ يعنّفُه على إساءةٍ أساءها إليه، فقال له:

حنانيك، فأنا لم يأمُرني اللّه بالسجود لآدم فعصيت وتكبرت!

ولم يأمرني نوحٌ بالركوب، فقلت له: سآوي إلى جبلٍ يعصمني من الماء.

 ولم آمُر ببناء صرحٍ لأطّلع إلى إلهِ موسى!

 ولم أشرب من النهر الذي ابتلى الله به جيش طالوت!

 ولم أكن أبو لهب ولا امرأته حمالة الحطب!

فإن يكُن الفعل الذي ساء واحدًا            فأفعالي اللائي سَررن أٌلوفـًا

فإن أكن بريئًا فأين عفوك أو مسيئًا فأين فضلك؟

كل بني آدم خطّاء، ومن يعمل يُخطئ، والله – برحمته – تجاوز عن أمّته الخطأ والنسيان، ذلك الخطأ الناجم عن الجهل، أو اختلاف الأفهام، ذلك الاختلاف الناشئ عن قراءة الرسالة بشكل خاطئ أو توصيلها بشكل غير مفهوم.

يبدأ الإنسان بالخطأ منذ الطفولة، ويبدأ الوالدان بالتربية السلبية أو الإيجابية، فلولا الخطأ لما تعلم الطفل الصواب، كذلك الطالب في مدرسته، ثم يمتد التعلم في العمل والحياة الى آخر العمر.

وأذا ما ازددت علمًا     زادني علمًا بجهلي

إن من يتصدر الناس لا بد أن يكون عرضة للنقد، فالنقد يمشي جنبًا إلى جنب مع البناء، والأذكياء منهم يرحبون بالنقد على قاعدة: إذا كانت أفكارنا صحيحة فإن نقدها تمام الكمال فهل كان يُعرف شرف النهار لولا سواد الليل؟! وإذا كانت خطأ تم تصويبها، فالنقد هو التغذية الراجعة لتصويب أية عملية اتخاذ قرار (مدخلات – معالجة – مخرجات – تغذية راجعة).

وما دام الحق قديمًا كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والحق هو المصلحة الكلّية، فإن عدم قبول النقد البنّاء يعني أن المسؤول هنا يفضل مصلحته الشخصية على المصلحة العليا باعتبار انتقاص ذاته العليا، فكيف بهذه الذات العليا أن تتعرض للنقد والمراجعة؟!

يرى كثير من القادة والدعاة والعلماء أن الرجوع عن قرار منقصة، فينفذ الرأي رغم عدم صوابه وما أجمل قول القائل: لأن أكون ذنبًا في الحق خيرٌ من أن أكون رأسًا في الباطل.

إن تتبّع الأخطاء وتصيّدها وتراكمها لاستغلاها للانقضاض على الشخص إذا لاحت الفرصة، طل ذلك من شأنه خلق العداوة والتثبيط الذي معه يكون ضعف الأداء والإنجاز، إن من الجميل بدلاً من ذلك أن نتصيّد الحسنات ونضبط الإنسان وهو يقوم باحسن العمل ونكافأه ونتجاوز عن العثرات.

الحديث، حفظ معاوية عن رسول الله قوله: “لا تتبع عورات المسلمين، فإنك أن فعلت أفسدتهم  من الجميل أن تضع الأخطاء في سياق صورة شاملة للفرد والمنظومة ككل، فكثير من الأخطاء تذوب في بحر الصواب

فلو أن أحدهم أراد أن يتتبع المتنبي وعوراته لقال لنا: إنه كان يقول شعره تكسُبًا، وكان يقف على أبواب الأمراء يمدحهم حينما يعطونه، فإذا منعوه هجاهم كان لم يمدحهم بالأمس!

وكما قال عن نفسه: إذا قلتُ شعرًا أصبح الدهر منشدًا، على أن جميع عوراته لا تحجب شمس شعره الذي لا يغيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن موقف خالد في بني جذيمة: “اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد”، تبرّأ من موقف له، ولم يتبرأ من خالد، فخالد قاهر الشرك، سيف الله المسلول يشفع له خطأ اجتهد فيه فأخطأ، على أني لم أسمع بحكمة أروع من قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث”.

لي صديق كانت شركته تتكئ على براعته، فقد أوتِي علمًا وأمانة، لعشرين سنة خلت كان هو المؤسس، اتخذ قرارًا خطأً نتيجة تغير الأسعار والتي لم يُتنبأ بها فلم تشفع له كل مآثره، انتهى به المطاف خارج الشركة!

اللين في التعامل هو الشريان الذي يمد حركة المنظمة والمجتمع، يتدفق من القيادة إلى المرؤوسين وبين المرؤوسين أنفسهم،  كان فرعون طاغية مستبدًا، وكان الخطاب القرآني واضحًا في طريقة التعامل معه (فقولا له قولاً لينًا لعلّه يتذكر أو يخشى) بهذا الخلق كثير من المعتدين برأيهم أو المستخفين بالآخرين يرجعون إلى الحق.

كثيرٌ من الناس تحاول التغيير بالعنف بعدما فشلوا في سياسة اللين (وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا)، الانتصار على الآخرين في موقف أو حدث إن لم يكن برضا الأطراف جميعها هو في الحقيقة خسارة، لأن خسارة التفرق وعدم اجتماع الكلمة أكبر من فوز أحد الأطراف.

“وأنت حين تغلط ضمن مسيرة قاصدة في الإصلاح والخير والبر، فترى من يأتي ليصادر كل حركتك، وخطواتك في الصراط المستقيم، ويلاحق الأخطاء كما يلاحق الخطى فيرى في كل عثرة آية وإشارة ثم يحشرك في معركة يكون هو فيها (الحق) وأنت (الباطل)، فهنا؛ أية نفس بشرية تدعي أنها تقدر على التمالك، والانضباط؟ فضلاً عن القبول (شكرًا أيّها الأعداء، سلمان العودة)

الكل يعتقد أنه يملك الصواب، لحظة حوار المسؤول مع مَن هُم دونَه يكون حاله معهم قول الشاعر:

لقد أنلتك أذنًا غير واعيةٍ وربّ مستمعٍ والقلبُ في صممِ.

هذا هو العلو الذي لا ينفع معه فهم، لأن من أهم أدوات الفهم الإنصات واحترام رأي الآخرين على مبدأ:

فقُل لمن يدّعي في العلم فلسفةً              حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء

ألّف طه حسين كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” ضمنه آراءه فيما يجب أن تتّجه إليه الثقافة في مصر، وكان يحمل الدعوة للتغريب ونقل ثقافة الغرب إلى الشرق بحلوها ومرّها، وقد طلب بعض الغيورين من الشهيد حسن البنا أن ينقد هذا الكتاب، وتحت إلحاحهم جاء الحسن في الموعد المحدد والقاعة تغصّ برجالات الأدب والسياسة على أعلى المستويات، وقد طلب د.طه من منسق المحاضرة أن يعد له مكانًا يسمع نقد حسن البنا دون أن يراه وقد تم له ذلك، فقام الإمام بنقد الكتاب بعضه ببعضه، فقد كان يأخذ العبارة من الكتاب ويعارضها بعبارة أخرى من الكتاب نفسه، وانتهت المحاضرة، ثم قام د.طه بطلب اللقاء مع الإمام، وعندما التقاه قال له بالحرف الواحد: “ليس لي رد على شيء منها، وهذا نوع من النقد لا يستطيعه غيرك، وهذا ما عناني مشقة الاستماع إليك، ولقد كنت أستمع إلى نقدك لي وأطرب، وأقسم يا أستاذ حسن لو كان أعدائي شرفاء مثلك لطأطأت رأسي لهم.

الاختلاف سنّة، فلقد اختلف الأنبياء الموحى إليهم من ربهم، فقد كان خلافـًا مبدؤه المصلحة العليا، فبعد أن ترك موسى عليه السلام أخاه هارون أوصاه: (أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)، فعبد بنو إسرائيل العجل، فنهاهم هارون وقال لهم (إنما فُتِنُتم به) وأمرهم باتباع موسى وبقي معهم ولم يفارقهم لشركهم، فلما جاء موسى ورأى شركهم غضب (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه)، (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا، إلا تتبعن أفعصيت أمري)، قال له هارون: (يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا براسي اني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقُب قولي)، كان يحرص هارون على اللُّحمه وعدم تفرّق القوم، مع نصحه لهم، وانتظار موسى حتى يحكم فيهم أمره.

هذا خلاف مبني على المصلحة العليا، حيث إن التوحيد ليس محل خلاف ولا رفض الشرك وأهله محل خلاف وإنما الاختلاف جرى في طريقة تحصيل أعلى المصلحتين أو دفع أعلى المفسدتين (د.سلمان العودة).

اختلف موسى والخضر في (أخرقتها لتغرق أهلها)، (أقتلت نفسًا زكية بغير نفس)، (لو شئت لتخذت عليه أجرًا)، وفي الأخير قال موسى: (إن سألتُك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا)، قال الخضر أخيرًا: (هذا فراق بيني وبينك)، فهو لم يُرِد القطيعة والهجر، وإنما يريد إكمال رحلته، ثم إنه شرح له سبب الفعل ثم عزاه إلى العلم اللدنّي (وما فعلته عن أمري)

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل