المحتوى الرئيسى

سعدون يخلف يكتب: العنف العالمي.. أزمة حضارة | ساسة بوست

12/13 23:56

منذ 1 دقيقة، 14 ديسمبر,2015

يعيش العالم اليوم أزمة عميقة، تتمظهر في العنف المستشري في ربوعه، والمشتعل في أنحائه، وإن كان العنف يختزل في جماعات بعينها، تتدثّر بلباس الإسلام، وتمارس القتل باسم الله، فإنّ العنف هو العنف، والقتل هو القتل، لا فرق بين أن تقصف الآمنين بقنابل وصواريخ، من طائرات سوخوي أو طائرات إف 16، بمبرر أنّك تُمثّل الشّرعية الدوليّة وضمير العالم الحر، وبين الآخر الذي يزرع الموت، بالسّيارات المفخخة، والعبوات النّاسفة، لأنّه يحلم، فقط، بإقامة مملكة الله في الأرض.

هذا العنف هو أحد تجليات الأزمة العميقة، التي يعيشها الغرب وحضارته، وهي ليست وليدة اليوم، بل نتيجة تراكمات أعوام كثيرة، وفي كل مرّة، يحاول الغرب أن يغطي أزمته بصراعات هنا وبأزمات هناك، تارة تحت مسمى الصّراع الأيديولوجي، عندما كان العالم منشطرًا إلى عالمين؛ الشّرق الشُّيوعي بزعامة الاتحاد السّوفيتي، والغرب الرأسمالي الديمقراطي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، ولما انتهى هذا الصّراع الذي أدى إلى انتصار النّظام الرأسمالي، طفت على السّطح خطابات متفائلة، وأخرى متشائمة.

كانت النّظرة المتفائلة ترى في هذا الانتصار الذي حققه الغرب عمومًا، وأمريكا على وجه الخصوص؛ نهاية للتاريخ، وأن الديمقراطية الليبرالية قد اكتسبت شرعية كنظام للحكم، وأنّ الديمقراطية “قد تُشكل نقطة النِّهاية في النّظام الأيديولوجي للإنسان”، وعلى البشرية جمعاء أن تختار هذا النّموذج إذا أرادت أن تستمر في العيش في الزمن البشري.

إلا أن هذا التفاؤل لم يستمر طويلا، لأنّ هناك نظرة جديدة موغلة في التشاؤم تعتقد أن الصّراع، وإن انتهى أيديولوجيًّا؛ فإنّه قد يرتدي لباسًا آخر، ويتخذ من الاختلاف الثّقافي والحضاري سببًا للصراع، لأنّ الثّقافات لا تتعايش ولا تقوم باحتواء بعضها بعضًا، فالكلُّ يريد أن يثبت وجوده، ويفرض قيمه ومعاييره، والنّتيجة في التحليل الأخير، الصدام بينها، لذلك، لا بد أن يحذر الغرب من هذا، ويستعدّ للمواجهة، وخاصة مع الإسلام والحضارة الكونفوشوسية.

كلتا النظرتين؛ المتفائلة والمتشائمة، تسعيان إلى تثبيت أركان الغرب حتى يبقى حاكمًا، وقيمه حتى تبقى مسيطرةً، ومعاييره حتى تبقى سائدةً، وكلتاهما، أيضًا، تسعيان إلى تغطية أزمة الغرب الحقيقية التي تُؤرق السّاسة، وتُشغل بال المفكرين والمثقفين، وإلا كيف تفسر هذه الهجمة الغربية على الإسلام؟ وهذا الخوف اللامبرر من قيمه وتعاليمه؟ هل هذه الهجمة نتيجة أنّ الإسلام يجيب عن الأسئلة الكبرى التي يقوم بطرحها الإنسان الغربي بينه وبين نفسه؟ هل هذه الهجمة لأنّ الإسلام يقوّض سلطة قيم الغرب العلمانية؟ أليست هذه الهجمة دليلا على هشاشة قيم الغرب؟ وهل أصبح العنف إستراتيجية غربية، ليس من أجل محو الآخر فقط، بل من أجل استمرار حضارته في السيطرة والهيمنة، بعدما عجز عن إقناع الآخرين وفشل في تأليف قلوبهم؟

قد يعتقد البعض بأنّ هذه الهجمة لا علاقة لها بكل ذلك، وأنّ القوي لا يخاف من الضعيف، وأنّ الغرب يقوم بمسؤوليته تُجاه العالم حتى يبقى آمنًا، وهو الذي أخذ على عاتقه بأن يحارب الإرهاب والتّطرف، ويحافظ على السِّلم في العالم، فهذا عقد عالمي، والتزام إنساني، وهذا العنف لم يكن بسبب سيطرة القيم الغربية الليبرالية التي تدعو إلى التعايش والتسامح، ولكن بسبب “عودة الدين إلى المسرح، عودته المرعبة، في تمزيق المجتمعات العربية، وتفتيت البلدان والطائفة، وتلك هي حصيلة غلبة الذاكرة والغريزة أو الطائفة والعضلة، على لغة الفهم وإرادة التعقل وسياسة التدبر والبناء في صنع المصائر المشتركة”، فالدين عند المفكر علي حرب هو سبب أزمات العرب والعالم، فهو الذي ينتج العنف، وهو الذي يبني شخصية تلغي الآخر، نتاج ثنائية المؤمن/ الكافر، ولأن نصوصه “معرض للمنتجات الرّمزية والسّلع الفكرية، تنطوي على ما التبس واشتبه أو ما تناقض وتعارض من المعاني والدلالات أو من الآراء والأحكام” ويكمن الحل، عند مفكرنا وغيره؛ في ترك الدين وتعاليمه، والتعامل معه كتراث إنساني لا أكثر، واعتناق الفكر الليبرالي وتعاليمه العلمانية.

هنا، تلتقى نظرةُ المفكر علي حرب، نظرةَ فرانسيس فوكاياما المتفائلة، بضرورة اعتناق النّظام الليبرالي، ولن يتحقق ذلك إلا بتهميش الدين وقيمه، وبذلك، أيضًا، تلتقي نظرةَ صموئيل هنتنغتون المتشائمة.

ومن ثمةَ، لا تتعجب عندما تكلّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بكل صراحة، وفضح الغرب المنافق، حيث استعمل لغة في غاية الوضوح، ولم يتخفَّ وراء المصطلحات الفضفاضة، ولم يتلاعب بالألفاظ، لما صرّح بعد إسقاط تركيا لطائرة روسية انتهكت المجال الجوّي التّركي، صرّح قائلا: “إن رجب طيب أردوغان يريد أسلمة تركيا”. وأردف قوله “بأن عمله هذا هو مساعدة للمتطرفين والإرهابيين”، فبوتين من خلال تصريحه يقرن الإسلام بالإرهاب والتّطرف، وهذه نظرة العقل السّياسي الغربي، الذي يرى في كل ما يهدد طموحه ويقوّض سلطته عدوًا يجب القضاء عليه.

فمشكلة الغرب إذن ليست مع الإرهابيين والمتطرفين، الذين ينشرون الرّعب، ويروّعون الآمنين، كما يحاول الغرب إيهامنا في كل مرّة، ولكن مع الإسلام دينًا ومنهاجًا، قيمًا وتعاليمَ، وعلى المسلم إذا أراد أن يثبت ولاءه وحسن سيرته، أن يتنازل عن دينه، كما صرح بذلك السيد بوتين، وأراد علي حرب.

من هذه المقاربة نستطيع أن نفسر ظاهرة العنف المستشرية في العالم؛ فالعنف صناعة غربية، فهو الذي يقوم بالفعل، ويصنع الذي يقوم برد الفعل، أي العنف والعنف المضاد، ويرجع ذلك للأسباب التّالية:

– نهاية التّاريخ، على طريقة فوكاياما، هي عولمة النّموذج الغربي قسرًا، وبالتّالي، القضاء على كل خصوصية، وهدم لكل الحصون الذاتية الموجودة، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى ظهور مقاومات لهذا النّظام، النّظام الذي يحاول أن يفرض نفسه على الآخرين بالعنف، ولا يترك لهم مجالًا للاختيار، ومن هنا يفسّر المفكر الفرنسي جان بودريار هذا العنف العالمي بكونه: “عنف نظام يلاحق كل أشكال السلبية والخصوصية، بما في ذلك هذا الشكل الأقصى من الخصوصية، الذي هو الموت نفسه، عنف مجتمعٍ نُحْرَمُ فيه فرضيًا من الصراع،  ونحرم من الموت، عنف يضع نهاية بمعنى ما للعنف نفسه، ويعمل لإقامة عالم متحرر من كل نظام طبيعي…” والمحصلة الأخيرة من هذا العنف الجرثومي، كما يقول بودريار: “إنّه يعمل بالعدوى، برد فعل متسلسل، وهو يهدم بالتدريج كل حصاناتنا وقدرتنا على المقاومة”.

– يُعَبِّرُ العنف عن فشل النّظام العالمي الجديد، الذي طالما بشّرت به أمريكا، في احتواء الآخر، والقضاء على الأزمات، وتوقيف آلة الحرب، وإعطاء البشرية نظامًا إنسانيًا يحافظ على كرامة الإنسان وقدسيته.

– لن يقضي الغرب على الأزمات، لأن له، أي الغرب، فائضَ قوةٍ، وهذا الفائض لا بد من استغلاله، وأفضل وسيلة لتحقيق هذه الغاية هي إشعال الحروب، وإشاعة الفوضى، وصناعة أعداء وهميين يقومون بالدور الوظيفي الموكل إليهم، حيث يقوم الإعلام بتضخيمهم، فينتشر الخوف والرعب لدى الرأي العام، عندئذٍ يُذعن، أي الرأي العام، لأي قرار تتخذه القوى العالمية، حيث يقبل بالمغامرات الحربية، واحتلال البلدان، وتدمير الأوطان، للقضاء على هذه الوحوش الضّارية التي تهدد السّلم العالمي.

– لن يعطي الغربُ البشريةَ نظامًا إنسانيًا، ما دامت حضارته “شيئية”، تنظر إلى الإنسان على أنّه “شيء”، وهذا راجع في الأساس إلى عامل مهم، يتمثل في غياب البعد الروحي لهذه الحضارة التي طلّقت سلطة السّماء، عندما صاح نيتشه صيحته المدوية “اللهُ قد مات” وأعلن ديكارت مقولته المشهورة “أنا أفكر إذن أنا موجود”، فحضارة تكتفي في حياتها وفتوحاتها بالعقل فقط، دون أن تعير أدنى اهتمام إلى البعد الروحي ستسقط، ولكن، قبل سقوطها ستؤدي بالإنسان إلى التّهلكة، والعالم إلى الانتحار.

– لن يقوم الغرب بمواجهة ذاته ونقد تعاليمه، لأن أي مراجعة ذاتية نقدية تعني هدم ما بناه، وبالتّالي التضّحية بالمكاسب التي حققها، لذلك، فهو يريد أن يتخلّص ممن يُذَكِّرَهُ بأزمته، ويُؤرِّقُ سكونه، ويُشْعِرَهُ بأنّه في خطر، وأنّ مصيره إلى زوال، إلا إذا أعاد الروح وتصالح مع السّماء، ومن يا ترى غير الإسلام يقوم بهذه المهمة؟

هذا هو السِّر في الهجمة الشّرسة على الإسلام، وعلى كل ما يرمز إليه، وهذا هو السِّر في ظهور حركات تدّعي الإسلام، على غرار القاعدة، وداعش… تمارس العنف باسمه وهي بعيدة عنه، تقتل المسلمين وتروِّع غيرهم، فالغرب عن طريق عنف هذه الحركات يحقق هدفه في زيادة سيطرته وهيمنته، ويوفّر الطّاقة لنظامه والوقود لحضارته، ويُصفّي حسابه مع عدوه اللدود، ويحاول أن يُشكّك المسلمين في دينهم وعقيدتهم، وهنا، أيضًا، تكتشف سبب دعوات إصلاح الدين ومراجعة نصوصه، حتى يتماشى مع قيم الغرب المادية ويقبلها، وبالتّالي تتنافى مسببات الصراع ودواعي الصدام، وهنا، مرّة أخرى، تكتشف السبب الحقيقي في العنف المستشري في العالم.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل