المحتوى الرئيسى

ننشر الفصل الأول من رواية “أغسطس – أسفار العبث” لـ أسامة الشاذلي

12/09 10:28

ليلة قاهرية ضل فجرها الطريق، والدِّيَكة على قمم البنايات الشعبية تحاول الصياح دون جدوى بعدما اختفت حناجرها.

تَوَجَّس الليل خيفة من البقاء إلى الأبد في تلك الدنيا، ارتعشت غانيةٌ كانت تحلم بانتهاء عملها والعودة إلى طفلها الوحيد بالمنزل، ذلك الطفل الذي استبدل دموع غياب أمه بقطرات حليب فاضت بها عيناه ولم يعرف مصدرها.

كان حليب تلك الليلة حالك السواد، لكن رجلا في أقصى المدينة كان يبدو وكأنه يدرك ما حدث، وعلى مقهى- يشبه صناديق البريد الخشبية المهجورة في مداخل العمارات القديمة- قرر أن يعترف، لكنه لم يجد بشرًا من حوله، فقرر أن يركب المترو إلى جهة ما لغرض ما .

كان المترو خاليًا إلا من قلة، شبح يشبه المسيح على الصليب، تعجب الرجل من آخر يحمل صليبه مرتحلًا في المترو، وعجوز أخرى ترتل في صمت أغنية حزينة بلا كلمات، ومجموعة شباب صبغت وجوههم قطرات عرق صيفي بصبغة بلا لون، تعجب الرجل من إدراك معناهاولأن يهوذا مات مظلومًا، ولأن لا مسيح على تلك الأرض، اصطف البشر والليل خلف يزيد، وارتفعت ضحكاتهم حتى تخيلها المؤمنون صياح الدِيَكَة، فلا ناموا ولا صلوا.فقط ارتعد الخوف في القلوب للحظة، أدرك ضعفه المتناهي أمام سواد القلوب المصبوغة بالخيانة، قرر الفرار فلم يجد مكانا.يقول البعض بعد عشرات السنين- وتحديدًا في شهر أغسطس- إنهم وجدوا القمر قتيلا على ناصية شارع جامعة الدول العربية، وأن الشمس انضمت لرحلة الرياح، وأن السماء سقطت من علٍ فلم تجد سوى قلب الطفل الباكي لتستقر فيه.الأكيد أن من بقوا ليحكوا لنا هذه القصة ليس فيهم إنسان بالمعنى المعروف.

حين يسخر الضوء من وجوهٍ حَفَرَتْهَا التجاعيد، وجَمَّدَ ملامحها الملل.

نظر طبيب الأطفال نظرة طويلة إلى استشاري التوليد في أحد مستشفيات القاهرة الخاصة في ضاحية مصر الجديدة منتصف نهار 1 أغسطس، لم يلتفت له الاستشاري المشغول بمريضته التي تلد تحت المخدر الموضعي، اقترب طبيب الأطفال من الاستشاري، وهمس في أذنه:

– الطفل عنده 4 خصيات!

صوت بكاء الوليد الضعيف يتسرب إلى “كشك التوليد” الصامت، التفت الاستشاري متعجبًا، وحاول إلقاء نظرة متفحصة عن بُعد، إلا أن نداء الأم مطالبةً بولدها أعاده لها مرة أخرى، بينما كانت الممرضة تتلقى الرضيع بسرعة كي تلفه في ملابسه التي أعدتها الأم خصيصًا لتلك اللحظة.

ينتشر الضوء رويدًا رويدًا ليكشف عن وجوه حفرتها التجاعيد، وجمد ملامحها الملل أمام شباك مكتب البريد، يتلوى طابور المعاشات مضاهيًا ثعبانًا عملاقًا من زمن الأساطير، يفقد انتظامه كل متر تقريبا بسبب عجوز غير قادر على الوقوف، وقرر أن يتنحى جانبًا مع الحفاظ على مكانه ودوره.

تبدو أشجار الشارع- القليلة- هي الأمل والحلم في شروق الأول من أغسطس هذا اليوم الصيفي الحار، بينما يقف مكتب البريد بألوانه الخضراء والصفراء المعتادة، وشعار الهيئة الذي يمثله صقر ينطلق إلى الأعلي وخلفه دائرة غير مكتملة تلتف كلما مضى الوقت حول أعناق هؤلاء الواقفين في الصف، ينتظرون معاشهم الشهري الذي يبلغ متوسطه 1000 جنيه.

غمغمات وتسبيحات تقطع الصمت الذي سرعان ما يستسلم هو الآخر مع غياب الظلام لروايات النساء الواقفات في طابورهن يتسلين بالكلام عن كل شيء، وأي شيء، يبدو طابور الرجال أكثر التزامًا بالصمت مع القليل من ساندوتشات الفول والطعمية وأكواب الشاي التي ينتقل بها حمادة الشاب المراهق الذي يعمل والده بوابًا لنفس العمارة التي يقع فيها مكتب البريد.

مع دقات الثامنة يخرج عبدالغفار البواب، ليقف أعلى سلم الواجهة ناظرًا إلى الطوابير بعينيه وعلى وجهه ابتسامة غير مبررة، كملك يتابع رعيته قبل أن يصرخ بصوته الجهوري:

– هانت.. فؤاد بيه مكاوي زمانه على وصول.

يتمتم الواقفون في الطابور استبشارًا بوصول مدير المكتب حسب بشارة البواب الذين اعتادوا على رؤيته وشرب الشاي من يديِّ ولده في مطلع كل شهر.

تقترب سيارة لا دا 1600 حمراء على مهل لتأخذ مكانًا نادرًا للوقوف في الشارع، يبدو أنه أعِدَّ لها خصيصًا بعدما تراكمت السيارات وقوفًا صفًا ثانيًا وثالثًا، يسرع عبدالغفار صائحًا:

– أهلا أهلا يا فؤاد بيه، كل شهر وأنت طيب.

ينتفض الجميع وعيونهم كلها موجهة إلى السيارة الحمراء التي توقف محركها وبدأ راكبها يستعد لمغادراتها، وتنتشر كلمة “كل شهر وأنت طيب” بنفس سرعة انتشار شائعة عن وجود قنبلة في إحدى عربات مترو الأنفاق.

يغادر فؤاد مكاوي ذو الـ57 عاما سيارته، يبدو- بطوله الفارع ووجه البيضاوي الطويل وبشرته البيضاء وشعره البني الناعم الذي انحسر عن مقدمة رأسه لتبدو جبهته الناصعة مع عينيه البُنيتين وأنفه الطويل والــ”دوجلاس” المميز حول فمه، مع عوينات دائرية- شبيها بالمستكشفين البريطانيين الأوائل.

تسرع مدام سعاد لتسبق مديرها فؤاد بك بخطوات، يتأملها في تأنٍ قبل أن يشير برأسه علامة على عدم الرضا، وهي الأربعينية السمراء عادية الملامح التي يبدو تمييز ملامحها أصعب من تمييز قرص طعمية ما بين طاسة التحمير وطبق التعبئة، تبدو خلف الشباك وكأنها خُلقت لهذا المكان، طابع تمغة لا يثير في المتعامل معه أي اهتمام بتفاصيله.

بينما يجري شريف غنيم الموظف الآخر في نفس المكتب ليحمل حقيبة مديره، وكأن الشارع انشق عنه، يتأمله البواب عبدالغفار بعد أن احتلت وجهه نصف ابتسامة، شاب ثلاثيني، أكرت الشعر، يلبس بدلة سوداء صيفًا وشتاء، يغير البدلة ولا يغير اللون، ويرتدي قمصانًا مزركشة تتراوح ألوانها ما بين الأخضر الفوسفوري والبنفسجي، ينبئ لونه الخمري المصطنع عن زوال بشرة بيضا بفعل الموتوسكيل الذي يقدسه ويبقى حريصا على ركنه أمام الباب الخلفي لمكتب البريد.

يسرع الجميع في دخول مكتب البريد الذي استعد جيدًا لا ول الشهر بحوالة المركز الرئيسي التي دخلت خزائنه ظهر الأمس.

في غرفة داخل مستشفي آخر في ضاحية مصر الجديدة، كانت جدة طفل تعيد تعديل وضع ملابسه انتظارًا لخروج والدته وبنتها من غرفة الإفاقة، ألقت نظرة راضية على نصف الطفل الأسفل، وقالت لزوج ابنتها الجالس في نفس الغرفة:

– ولد يا هشام، مبروك عليك خالد.

ابتسم هشام وغادر مقعده مقتربًا من طفله:

– الله يبارك فيكي وفيه يا حماتي.

غابت ابتسامة المرأة وانشغلت لدرجة أنها لم تسمع رد زوج ابنتها، وأشارت بإصبعها دون أن تتكلم.

ألقى الأب نظرة على طفله الوليد قبل أن يجري في المستشفي، طالبًا طبيب أطفال لرؤية طفله.

وأمام الطبيب كان الطفل يرقد نائمًا بعد أن أتم كشفه وهو يقول:

– ابنك عنده 4 خصيات يا افندم، ودي حالة غريبة قوي ومش عارف تأثيرها ح يكون إيه.

امرأة في مستشفي الولادة في شارع الهرم تمسك بخناق طبيب التوليد، وتطالب بابن أختها الحقيقي، وتتهمه بتبديل الولد بآخر مشوه، ينزع الطبيب نفسه بصعوبة من بين يديها بينما يمسك به زوجها وأخو الزوج الغائب في عمله ليفتحا رأسه بمقبض باب غرفة الأم.

وآخر في مستشفي صغير في إمبابة يطعن طبيبا في قلبه من شدة الغضب، يتفرق المواليد وأهاليهم بين المستشفيات وأقسام الشرطة.

وخلال ساعات قليلة كانت المواقع الإخبارية الإلكترونية تتحدث عن ظاهرة الخصيات الأربعة لمواليد الأول من أغسطس، بعد أكثر من 800 بلاغ في القاهرة نفسها، ما دعا وزارة الصحة إلى إصدار بيان- خلال أولى ساعات الليل- تنفي كونها ظاهرة وتتهم المواقع بنشر الشائعات.

بينما كان وزير الصحة على مكتبه يلتقي بأحد مديري مستشفيات الأطفال الحكومية، ليتناقش معه حول تلك الظاهرة، التي طلب الرئيس منه شخصياً دراستها.

قدم مدير مستشفي الأطفال تقريرًا إلى الوزير وجلس يشرب القهوة التي أحضرها الساعي دون أن يتحدث بكلمة، التقط الوزير نظارته، وجرت عيناه على التقرير الذي سبق وطلبه من مرءوسِهِ حين تحدث معه في الهاتف قبل 3 ساعات، انتفض الوزير عند قراءة آخر سطر في التقرير، وألقى نظارته على المكتب، وصرخ:

– يعني إيه كل عيل عنده 4 بيضان ومرارتين؟! يعني إيه يا فوزي؟!

اعتدل الدكتور فوزي في مقعده، وضع فنجان القهوة في طبقه، ورد بصوت مرتبك حاول أن يكون واضحًا:

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل