المحتوى الرئيسى

د. أشرف الصباغ يكتب: اللي عايز المَلِك يروح له واللي عايز الفقر خليه يغرق في مجاريه

12/07 10:35

طبعا ظريف ولطيف قوي إن الناس تحط صور القصور الملكية وصالونات الأثرياء وبيوتهم وشكل ملابس أولادهم، وتنشر صور شوارع وسط القاهرة والإسكندرية والنوافير والحدائق اللي كانت في بعض أحياء المدينتين الراقية.. ولطيف برضه إنهم يتكلموا عن الليبرالية والتعددية، والرقي والرومانسية اللي مرتبطة تحديدا بالحاجات دي..

أنا مدرك إن الناس اللي بتطرح الحاجات دي قصدها نبيل بشكل عام، وبتسأل: ليه مصر كلها دلوقت ما تبقاش كده، وخصوصا إن الزمن اتقدم والدنيا اتغيرت للأفضل من حيث التكنولوجيا والفهم والإدراك وضرورات الحياة الجيدة.

لكن فيه ناس لقطت الخيط، وبدأت تتكلم عن المَلَكية وعظمة الملك وجمال زمن الباشاوات.. والبعض عمل صفحة الملك فاروق. والبعض الآخر بدأ ينشر صور الباشوات والبكوات وصور صالوناتهم. وفي النص بدأوا يستعيدوا ويسترجعوا زمن الليبرالية العظيمة وينشروا صور النخبة وإزاي هم كانوا عايشين عيشة رائعة.

في الحقيقة، إحنا لو بعدنا شوية عن قصور جلالة الملك المعظم، وشوارع وسط البلد في القاهرة والإسكندرية، وعن صالونات النخبة وملابسهم الحلوة العصرية النضيفة.. لو بعدنا شوية صغيرين وخدنا بعضنا واتجولنا في أنحاء مصر الواسعة، هنلاقي صورة تانية خالص.

أنا ابن الصورة دي وابن الواقع ده.. كوني لبست نضيف شوية أو اتعلمت أو بقيت عايش كويس نسبيا، فده مش ممكن يحدفني بعيد قوي لأقصى مساحة ضيقة من مصر الملكية – العثمانية – الإنجليزية – الفرنساوية، ويخليني اقول، يا محلاها مصر أيام جلالة الملك المعظم والنحاس “باشا” والإنجليز، وإن الموضة كانت بتنزل القاهرة قبل باريس ولندن، وشوف الستات لابسة إيه، وماشية إزاي، وشوف حتى الانجليز والفرنساويين والألمان عايشين حلو إزاي في مصر.

في الحقيقة أنا لسه فاكر جداتي وأجدادي وأخوالي وأعمامي وأولادهم في القرية.. وفاكر الفلاحين والعمدة وشيخ الغفر ونقاوة الدودة وجني القطن وحش البرسيم والغلة والدرة والجرن والترعة والطمبور والنورج وعلف البهايم والجِلَّة وزبل الحمام وعشش البط والفراخ.. وفاكر كل الأحياء الشعبية اللي سكننا فيها في إسكندرية، في ستينيات القرن العشرين، وفاكر ناسها من إسكندرانية وصعايدة وفلاحين غلابة، والغلب واكل منهم ٣٠ راق.. وفاكر القاهرة في أوائل السبعينيات كمان بأحيائها الشعبية وحواريها وشوارعها، وفاكر أحياءها التانية برضه.. كل الذكريات دي بعد الملكية والإنجليز.. وهي ذكريات مختلطة فيها الحلو وفيها الوحش.. وفيها الأماكن بتختلف حسب الطبقة والشريحة… لكن أنا باتكلم عن الامتدادات، مش عن إنك فجأة اتعلِّمت واتنجَّرت وبقيت تلبس حلو، فبقيت تبص بأثر رجعي على وضعك الطبقي، وتشوف إن الملكية كانت زي الفل، ومصر أيام الملك كانت جنة والموضة كانت سابقة باريس ولندن.

عن أي موضة إنت بتتكلم بالظبط؟ إنت فاكر ستك وست ستك، وسيدك وأعمامك وأخوالك؟ كانوا عايشين إزاي؟ إنت جايب منين الثقة المطلقة دي بإنك أكيد لو كنت عايش في الزمن ده، كنت أكيد هاتبقى قاعد جنب الباشا أو البيه دول في مطعم أو في عربية أو في نادي؟ وليه إنت متأكد كده إنك كنت هاتبقى من أركان الليبرالية العتيدة، وسليل الأسر البرلمانية، وابن أحد الأمراء وعندك قصرك ويختك وفيلتك؟ طب بس قبل ما الجلالة تاخدك، وتعوم على عوم التانيين، افتكر جدك وجدتك وأجدادهم وشوف كانوا عايشين إزاي، ومستفيدين من الليبرالية والبرلمان قد إيه! هم لما يقولوا لك إن البطالة في مصر أيام الملكية كانت ٢٪، تقوم على طول تقارن نفسك بأمريكا وبريطانيا وفرنسا؟ هو إنت نسيت الفلاحين كانوا عايشين إزاي؟ آي نعم ماكانتش فيه قوانين واضحة للرق والعبودية، لكن الرق والعبودية كانوا بيتطبقوا على الفلاح وأسرته، وبيتباعوا مع الأرض.. إنت عارف عمال التراحيل كانوا عايشين إزاي؟ وتفتكر إن فعلا كان سكان مصر كلهم (ما عدا ٢٪ بس) بيشتغلوا وبيكسبوا وعايشين زي الفل؟! إنت متأكد؟ طب افتكر جدك وجد جدك من الفلاحين وعمال التراحيل والغلابة المأجورين بلقمتهم وبهدمتهم!

في الحقيقة، إنت بترتكب جريمة أكثر انحطاطا من جرائم التسلق الطبقي.. إنت بتزّور التاريخ بأثر رجعي، وبتشارك الأفاقين والانتهازيين والمجرمين الطبقيين جرائمهم في كتابة تاريخ المجتمع المصري.. وكمان بتجبر روحك وذاكرتك على الانفصال عن الواقع وتكريس الرجعية والنظرة السطحية، وبتعمم نماذج كاذبة بتخدم كل المغامرين الطبقيين وبتخليهم يركبوا على التاريخ والمجتمع ويواصلوا التزوير والتضليل.

مصر بتاعتي أنا وقرايبي وأهلي، مش هي قصور الملك والنوافير والجناين حوالين صالونات الأكابر وولاد النخبة ووسط البلد والشوارع اللي بتطلع في الصور والموضة اللي كانت بتيجي، يا حبة عين أمك، للقاهرة قبل باريس ولندن.. مصر بتاعتي هي الفلاحين وعمال التراحيل وجني القطن وتنقية الدودة في القرية، والورش الضلمة المحشورة في الأحياء الشعبية والحواري اللي العيال بتجري فيها وهي قالعة زلطة، سواء في القاهرة أو في الإسكندرية… ومصر دي هي اللي كانت ومازالت موجودة لغاية دلوقت… عارف ليه هي ما زالت موجودة لغاية دلوقت؟ عشان المغامرين الطبقيين والانتهازيين والمتسلقين ما زالوا بيشاركوا أسيادهم اللي بيضربوهم يوميا بالجزمة، بيشاركوهم نظرتهم لمصر بتاعة الملك والموضة، ونسيوا مصر التانية الكبيرة الواسعة اللي مليانة ناس طلعان عينها وعين أهلها وطافحة الكوتة.

عرفت بقى هم عازينك دايما تعرف مصر بتاعتهم هم ليه؟ وعرفت لما بتيجي تتكلم عن مصر الكبيرة الواسعة بناسها وبالبلاوي اللي فيها، تلاقيهم على طول بيقولوا لك إنت بتشوه صورة مصر ليه، يا خاين يا عميل يا عديم الوطنية؟ وعرفت هم بيقصدوا بمصر إيه، وأنهي مصر فيهم؟ دول حتى مش عايزينك تشوف مصر بتاعتك، عايزينك تنساها وتنكرها وكأنها مش موجودة، وتفضل تغني على إيقاعهم، تخدم فيهم وتطبل لهم وتغني لمصر بتاعتهم هم.. وبرضه هايضربوك بالجزمة وهاتفضل طول عمرك خدَّام.

إنت ممكن تقعد تشتم في عبد الناصر للصبح، وتقول إن هو السبب عشان بوَّظ كل حاجة، وخلا ولاد الكلب الفقرا يتعلموا، والمدارس والجامعات لمِّت الزبالة، وأولاد الفقرا المعفنين بقوا يقعدوا في مكان واحد مع ولاد الأصول وولاد الناس الطيبين اللي متربيين على الغالي. ما هو إنت جدك وجد جدك كان سليل الباب العالي، وكان شيخ منصر التجار اللي جاي من أصفهان واسطنبول، وكانت جدتك أكيد سليلة أبناء اليونان والرومان، وأجدادها كانوا مناسبين الفرنسويين والإنجليز.. وأكيد إنت متأكد إنك لو كنت عايش في العهد الملكي – التركي – الإنجليزي – الفرنساوي العظيم، كنت هاتبقى من سلالات أكثر نقاء!

ممكن تقعد للصبح تشتم وتلعن وتلطم وتعدد، وتدور في حلقة مفرغة عمرك ما هاتطلع منها، عشان مش إنت اللي بتفكر، وإنما بتتفرج، وفاتح دماغك زي صفيحة الزبالة لأصحاب اللعبة اللي هم بيعرفوا كويس يحطوك في الدايرة المفرغة دي، ويزقوك عشان تقعد تلطم وتعدد وتشتم، وبعدين لما يحققوا اللي هم عايزينه، برضه يدوك بالجزمة، ويشغَّلوك زي الكلب وياكلوا عرق جبينك. هم عارفين بيعملوا إيه، وإزاي يستخدموك كويس زي البغبغان. وبعدين تلاقي نفسك على الرصيف تاني وتالت ورابع.. وعلى فكرة، ده مش دفاع عن عبد الناصر، عشان عبد الناصر راح بقى له ييجي ٥٠ سنة.. ممكن تقعد تولول وتلطم وتقول، هو السبب.. خلاص، إنت حر.. لو إنت مستريَّح كده، قول، وقوم كمِّل نوم، أو استمر في خدمة الغُز.

وعلشان الحق، والمستحق، الكلام ده مش معناه برضه إن مصر بتاعتنا هي الأحلى والأجمل، لكن المقصود من الكلام ده سؤال بسيط: ليه مصر بتاعتنا هي الأسوأ وهي المذلولة والمضروبة بالجزمة، وليه ناسها هم دايما اللي على الرصيف، وهم دايما اللي مش عارفين يعيشوا؟! وليه مصر بتاعتنا مش زي مصر بتاعتهم رغم إن إحنا اللي طافحين الكوتة وبنشتغل وبنعرق وبنمرض، وبرضه مش عارفين نعيش، لا إحنا ولا عيالنا؟ الكلام ده مش معناه إنك تحافظ على مصر بتاعتنا زي ما هي، ولا دعوة لإنك تمشي تتغني بفقرها وبحلاوة الفقرا بتوعها وروحهم الطيبة ونفسهم المتسامحة، أو تمجِّد ظلمها وخيبتها، وتقعد تقول إن مصر بتاعتنا جميلة وحلوة حتى وهي فقيرة ومعدومة العافية.. لأ، مصر بتاعتنا مش جميلة ومش حلوة، عشان الفقر مش حلو، والذل مش حلو وقلة القيمة عمرها ما كانت حلوة.. إوعى تقول إن الفقر حلو أو تمجد الذل والظلم، أو ترفض التقدم والتطور والجمال والحياة الحلوة. لازم تعرف إن الفقر لعنة، ومافيهوش حاجة حلوة أبدا، مافيهوش إلا الكراهية والحقد والنقمة والجهل والمرض. الفقر بيشوه الناس، وبيقتل روحهم وضميرهم وأخلاقهم، وبيدمر إحساسهم بالجمال والتطور والفن والأدب، بيخليهم زي الحيوانات المفترسة، بيخليهم يقتلوا ولادهم، وياكلوا بعضهم، وفي أحسن الأحوال بيخليهم زي البهايم.

بالعكس، يا صاحبي، مصر الكبيرة والواسعة واللي مليانة مصريين، لازم تقوم وتنتفض وتقول إنها لازم تعيش كويس غصبن عن التخين.. لا إخوان ولا سلفيين ولا استبداد باسم الوطن أو الدين.. ما هو إنت أكيد عارف إن مصر، مصرية ونقطة. وكل اللي فيها مصريين وبس، من غير تصنيف وقلة أدب.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل