المحتوى الرئيسى

كيف أعيدت الحياة إلى نهر "التايمز" البريطاني - BBC Arabic

12/04 23:13

قبل ستين عاماً، لم يكن أيّ كائن حيّ قادراً على البقاء على قيد الحياة في نهر التايمز، أما اليوم، فقد أصبح النهر موطنا لحيوانات مثل الفقمة، وخنازير البحر. حتى أنه يمكن، في أوقات متباعدة، مشاهدة حوت ضلّ سبيله في ذلك النهر.

في صباح يوم خريفي مشمس في الحي المالي من مدينة لندن، كان "رود غوزمان" يبحث عن فقمته المفضّلة. في الجوار المباشر للمركز المصرفي في "كناري وارف"، وبين أحواض السفن القذرة التي كانت تشكل يوماً ما ميناءً عالمياً للشحن، توجد بقعة مخفية تجتمع فيها طيور من أنواع البلشونيات والغاقيات، ودجاج الماء، بالإضافة إلى حيوان الفقمة.

يعمل "غوزمان" في سوق "بيلينزغيت" لبيع الأسماك الواقع في الجوار. "عندما أقوم بهذا، فعادةً ما تأتي"، قالها الرجل وهو يركل قضيباً معدنياً بحذائه الثقيل، محدِثاً رنيناً يصمّ الآذان، في إشارة إلى إحدى الفقمات. "أعتقد أنها تحس بالاهتزازات المتولدة في الماء. إنها ضخمة. البعض أطلق عليها بعض الأسماء، مثل 'ألفريد'. أما أنا فأسمّيها فقط الفقمة."

تم رصد أكثر من 2000 فقمة في نهر "التِيمز" خلال العقد الماضي. ذلك ما جاء في مسح قامت به "جمعية علوم الحيوان في لندن"، والذي استمر من عام 2004 إلى 2014، ونُشرت نتائجه في شهر أغسطس/آب 2015. وإضافة إلى تلك الفقمات، شوهدت المئات من خنازير البحر، والدلافين، وحتى في أحيان عَرَضية، حيتان ضالّة.

هناك مشاكل أخرى تهدد عافية النهر وحيواناته ـ وبالتحديد، كثرة المواد البلاستيكية فيه. وعلى الرغم من هذه المشاكل، فالتغيير الحاصل هو كبير بالنسبة لنهر كان ملوثاً في زمن ما. فحتى الأسماك لم تكن لتظل على قيد الحياة فيه.

في عام 1957، أعلن "متحف التاريخ الطبيعي" نهر التِيمز نهرا ميتاً بسبب عدم استطاعة الكائنات الحية العيش فيه. وقد وصفته تقارير إخبارية من تلك الحقبة بأنه مجرد مجرى واسع لتصريف المياه العفنة.

جاء في تقرير لصحيفة "الغارديان" عام 1959، وكانت تسمى وقتها "ذا مانتشستر غارديان": "يشكل المد والجزر في نهر التِيمز مجاري مفتوحة ذات إدارة سيئة. لن تجد فيها أي أوكسجين، ولمسافة تمتد عدة أميال قبل وبعد ’جسر لندن‘".

دمر القصف خلال الحرب العالمية الثانية قسماً من المجاري القديمة من العهد الفكتوري، والتي ساعدت في السابق على إبقاء النهر نظيفاً. لم يكن لدى بريطانيا ما بعد الحرب العالمية أية موارد ـ أو، على ما يبدو، الطاقة الكافية لكي تعالج تلك المشكلة بسرعة.

في مقال آخر نُشر في "الغارديان" عام 1959، ذُكر أن أحد أعضاء مجلس اللوردات قال بعدم وجود ضرورة لتنقية النهر: فالأنهار هي عبارة عن "قنوات طبيعية لتصريف النفايات"، وإن تركها لكي تقوم بتفتيت النفايات العضوية يجعلها "تؤدي غرضاً ما."

ومع أن البكتيريا تساعد الأنهار في تحلل فضلات مياه الصرف، فإنها تستهلك الأوكسجين أثناء تلك العملية ـ مع ما يسببه من نفاذ الأوكسجين اللازم للأحياء الأخرى.

بدأ الأمر فقط منذ أواخر ستينيات القرن الماضي وما بعدها، عندما تحسن تدريجياً نظام التصريف الصحي لمدينة لندن. حصل ذلك جنباً إلى جنب مع الانتعاش الذي شهدته البلاد في فترة ما بعد الحرب. وبدأ النهر بعدها يسترد عافيته من جديد.

وقد لعبت عوامل أخرى دورها في تنظيف النهر أيضاً. في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وكجزء من التعاظم الشامل للوعي البيئي، ازدادت المخاوف الناتجة عن استعمال مبيدات الحشرات والأسمدة الكيمياوية، والتي كانت تجد طريقها إلى الأنهر البريطانية كلما هطلت الأمطار.

وقد تلى ذلك تشديد اللوائح والأنظمة المتبعة، كما يقول "كريس كوود"، نائب الرئيس التنفيذي لجمعية "تِيمز21" الخيرية التي تكرس نشاطاتها لتحسين الممرات المائية في لندن.

إن توجّه نشاطات المنظمات الأخرى هو أكثر تعقيداً. على سبيل المثال، انخفض التلوث بسبب المعادن السامة في النهر منذ بدايات الألفية الثانية، حسبما يقول "ديفيد موريت"، الخبير في البيئة المائية من "كلية رويال هولواي" (جامعة لندن) في منطقة "إيغهام" بمقاطعة "سَري" في المملكة المتحدة.

يعزى ذلك جزئياً إلى قواعد وأنظمة أكثر صرامة في قطاعات الصناعة. لا يشمل ذلك ما يخص معدن الفضة ـ وهو من المواد الملوِّثة الشائعة المستعملة في قطاع صناعة التصويرـ حيث يعود السبب في انخفاض التلوث به، ببساطة، إلى أن الكثير من الناس قد تحولوا إلى التصوير الرقمي.

ومهما تكن الأسباب، فالنتيجة كانت واضحة: عادت الأسماك لتعيش في النهر مجددا. ويوجد منها الآن في نهر ’التِيمز‘ 125 نوعاً، بينما لم يكن يعيش فيه أي نوع تقريباً في خمسينيات القرن الماضي.

يقول "كوود": "المياه النظيفة وتدفقها الملائم، تجعل النهر أقرب ما يكون إلى حالته الطبيعية. ثم سترى عودة الكائنات الحية. لم يتعلق الأمر بأناس يربّون أنواعاً من الأسماك وغيرها ثم يطلقونها في البرية. لقد عادت الأسماك بشكل طبيعي."

تصبح الأسماك بدورها غذاءً للثدييات البحرية، بما فيها حيوانات الفقمة. وبينما يتحول انتباه عامة الناس نحو الفقمات وخنازير البحر التي تلعب بمرح ـ ما يطلق عليه مناصرو المحافظة على البيئة تعبير "الحيوانات الضخمة الجذابة"ـ فإن "كوود" أكثر حماسة لعودة نوع آخر من الحيوانات المائية جاذبية.

يقول: "إنها حيوانات قديمة، بدون فكين، تشبه ثعبان البحر وتلتصق بجوانب أسماك أكبر لتمتص سوائل أجسامها." قالها "كوود" بتحمس حقيقي، وأضاف: "إنها حساسة جداً للتلوث."

ولكن، بينما تراجعت بعض التهديدات، ظهرت أخرى غيرها. يقول "موريت": "من المؤكد أن نهر التِيمز أصبح أنظف مما كان عليه، لكن ظهرت مادة أخرى على مسرح الأحداث جعلتنا على بيّنة من أمرها. إنها المواد البلاستيكية."

فقد كشف دراسة أجرتها "كلية رويال هولواي" هذا العام وجود أجزاء من مواد بلاستيكية في أمعاء الكثير من الأسماك من النوع الملفطح، وذلك لدى 70 في المئة من هذه الأسماك.

يمكن للمواد البلاستيكية أن تؤثر على الحيوانات الكبيرة. المثال على ذلك هو فراخ طائر القطرس التي كان أبواها يطعمانها مواداً بلاستيكية. لقد كُتب الكثير عن هذا الحدث. لكن هذا المواد تؤثر أيضاً على المخلوقات الأصغر التي تقع فرائس للأكبر منها.

فعندما تصاب تلك المخلوقات بعلة ما، كذلك يكون حال مفترسيها. لم يتم بعد نشر نتائج هذا البحث، وهي لا زالت تحت الدراسة والتمحيص من قبل إحدى النشرات الدورية، حسبما يقول "موريت".

وهناك حملة بإسم "تاميز أنظف"، أطلقت في سبتمبر/أيلول هذا العام لمكافحة النفايات البلاستيكية. والصراع شاق في هذا الأمر، لأن مصادر تلك المواد البلاستيكية متعددة.

إن "الميكروبيدات" التي تدخل في صناعة فرشاة الأوجه ومعاجين الأسنان وقطع البلاستيك الصغيرة، مثل أعواد البلاستيك المستعملة في تنظيف الأذنين، غالباً ما ترمى في المراحيض، أو المرافق الصحية المختلفة. وبسبب صغرها، فإنها تمر عبر مرشحات محطات معالجة مياه الصرف الصحي. إن تحلل هذه المواد يستغرق عقوداً من الزمن.

حتى لو تم رمي الأكياس البلاستيكية أو الأغلفة البلاستيكية الرقيقة المستعملة لتدخين السجائر بشكل صحيح، فيمكنها أن تدخل مجاري الصرف الصحي إذا ما عصفت بها الرياح أو إذا ما وقعت من صناديق جمع القمامة الموضوعة في الأماكن العامة، عندما تمتلئ عن آخرها.

وقد صرحت شركة "تِيمز ووتر" لخدمات المياه، والمسؤولة عن تزويد لندن بالمياه وتصريف مياه الصرف الصحي بها، بأنها تزيل سنوياً أكثر من 25 ألف طن من النفايات من منظومة مياه الصرف.

وهناك حدودا أخرى يصعب تجاوزها أمام انتعاش الحياة البرية في نهر التِيمز مرة أخرى. فعلى سبيل المثال، تطوق نهر التِيمز في الجزء الأوسط من لندن جدران عالية، تعج بزوارق الركاب. ويعني هذا أنها تحدث صخبا شديدا، وتشهد زحاما كبيرا، ويكون جريان الماء فيها سريعاً.

كل هذه الأمور لا تلائم خنازير البحر أو الدلافين لكي تسبح ضد التيار بأعداد كبيرة، حسبما يقول "كوود". لكن الفقمات أكثر حظا، لأنها لا تعتمد على الصوت لكي تصطاد فرائسها، مما يجعلها ذات مقاومة أكثر للضجيج.

وحتى مشكلة الصرف الصحي للمياه فلم تُحل بعد بشكل كلي. وعادة ما تصبح الأمطار الغزيرة حِملاً فوق طاقة قنوات المجاري المتهالكة في لندن. أما الزائد منها ـ مياه الأمطار المختلطة بمياه الصرف الصحي ـ فيتم تفريغها في النهر لتلافي الفيضانات في المدينة.

وُضعت خطط لبناء "قناة التِيمز"، وهو مشروع ضخم لتحويل مجرى مياه الصرف الصحي. ويأمل "كوود" أن تخفف هذه القناة من الضغط الذي تتعرض له قنوات المياة الحالية. ومن المتوقع أن يبدأ العمل في بناء هذه القناة أوائل عام 2016.

بغضّ النظر عن المشاكل، فإن جمال النهر يفوق ما يشوبه، بالنسبة لـ"غوزمان"، الذي يأخذ هو وزملاؤه قسطهم من الراحة، بعد مناوبة الصباح الباكر، على ضفاف النهر لإطعام حيوان الفقمة. إنهم يرمون له رؤوس سمك السلمون، وغيرها من الفضلات الأخرى من سوق الأسماك.

أهم أخبار تكنولوجيا

Comments

عاجل