المحتوى الرئيسى

يرجع الصوص

12/03 01:44

"سنلتقي.... تحت وابلٍ من مطر

ها قد عاد رؤوف من رحلته الحالمة إلى الساحل حيث سفعته الشمس بلون أسمر خضب بشرته البيضاء وجسده النحيل الذي اكتسبه من والده، عاد بعينين تعبتين من شقاوة دؤوبة وخيال لا يهدأ. كانت الرحلة فرصة للصغير للهرب من ضجيج الصراع بين أبناء الوطن في بلدته وغيرها من المناطق، حيث تغنى الناس يوماً بالوطن واختلفوا لاحقاً عليه فكرة ومضموناً، وأصبح لكل منهم وطن يفصل على مقاسه الذي يفضله كمقاس البدلة العسكرية أو بدلة العرس، وضجت الناس والفضائيات بوباء الأفكار، والصراع بين الحقيقة واللاحقيقة، ومشاهد الدمار والدماء وما فعله الإنسان باعتباره أشرس الحيوانات المفترسة على سطح البسيطة بأخيه في عصر الصورة والثورة البائس. أجبر الصراع رؤوفاً على ترك بيته وغرفته وتغيير وسادته وفراشه، ترك السيارة الصفراء التي طالما وجهها تحت الأثاث عبر جهاز التحكم وأخاف بحركتها العفوية قطط المنزل، ترك الخيمة الصيفية ذات النافذة التي تؤوي الكثير من الألعاب والدمى والتي ملأها يوماً بعد يوم بالضحك واللعب وبكومٍ من المكعبات والألعاب الغافية فوق تصوراته الطفولية، الكرسي الزرافة الذي جلس عليه لأول مرة وفككه وركبه مرات ومرات، المسبح المائي الصغير الذي مارس فيه حنينه للحياة المائية الجنينية حيث الدفء والحب ولا مكان لصراخ أو رصاص، السيارات العديدة التي زينت مدينته أحلامه المصنوعة من المكعبات الملونة كمدينة أليس في بلاد العجائب. لاحقاً عاش رؤوف والكثير من أبناء عمره من الأطفال مع ملايين من الناس مضطرين في بلاد عجائب من نوع آخر، حيث لا ألوان تلون الأفق سوى اللون الرمادي، ولا دخان أبيض يتصاعد من مداخن البيوت القرميدية بل أعمدة دخان أسود تنبع من البيوت الإسمنتية التي صرفوا عليها جنى أعمارهم، ومن رئاتهم الصدئة التي حرقها الحزن والأسى، مع أخبار تتعالى من الداخل والخارج أغرقتهم بالصمت القاتل حيناً، وبالقلق والحيرة واليأس في أحيانٍ أكثر.

تضمن برنامج الرحلة الذهاب لرحلة صيد حيث تسنى للطفل ملامسة صنارة الصيد للمرة الأولى، وتعلم الصبر الذي يحتاجه الصيد وهو ما كان تجربةً جديدةً على الطفل الجبلي المولد، كما تعرف على ملوحة البحر التي أغرقت عينيه بالحرقة، والمراكب واليخوت التي أدهشت نقاء خياله بطفوها وتناثرها في أفق البحر حيث لا نهاية، وما بين الضيعة والمدينة مارس الصغير طفولته بعيداً عن خلافات الكبار من دول وأشخاص وصراعاتهم الجنونية على المال والسلطة والمصالح.

قضى رؤوف أسبوعاً كاملاً من التحضير للرحلة، فمع أول فكرة حول الرحلة قام بملء حقيبته بالكثير من الملابس والألعاب واللوازم الشخصية والتي قضت أمه لاحقاً الكثير من الوقت لإقناعه بعدم ضرورتها وبالاستغناء عن جلها، كما أخذ بالتخطيط للرحلة في باله ويتساءل عن سير الأمور في المنزل بالنسبة لألعابه وكومبيوتره، كما أخذ سلحفاته الصغيرة (سريعة) إلى بيت جدته لتعتني بها من أجله خوفاً عليها من جوعٍ داهم، كما أراد أن يأخذ معه صوصه الصغير الذي وجده في حديقة المنزل لولا أنه اختفى قبل يومين بعد أن ترك باب الغرفة الخارجية للبيت مفتوحاً، وخوفاً على مشاعر الصغير الحساس الذي بكى يوماً عندما رأى بطريقاً يموت جوعاً في الطبيعة اللا مبالية على ناشيونال جيوغرافيك، وبكى بحرقة عندما قالت أمه أن الناس يربون الصيصان حتى تكبر كي يأكلوها، وللتخفيف من حزنه ولومه لنفسه وبكائه فقد قال له أبوه أنه قد رأى الصوص مع إخوته الصيصان وأمهم في البيت المجاور حيث يوجد قن للدجاج وأن الصوص ذهب إليهم عندما سمع أصواتهم، وأنه قد يعود ليزوره يوماً.

في اليوم الثالث للرحلة ذهب الصغير مع أمه إلى أحد البيوت الريفية لأصدقاء العائلة، حيث تعرفوا هناك على بئر الأمنيات، وهو بئر مغطى بلوح خشبي يفصله عن الحديقة سور معدني يوجد في الحديقة الخلفية للبيت وهو معروف في الضيعة بهذا الاسم، يزور البئر منذ القدم الكثير من الناس حيث يشتري كل واحدٍ قفلاً نحاسياً يقوم بإقفال حلقته في السور المعدني ورمي المفتاح في البئر وتمني أمنية رغبة بتحققها، وقد كان ذلك واضحاً من خلال الأقفال العديدة التي تزين السور المعدني ولربما المفاتيح الكثيرة التي غيبتها جدران البئر وظلمة مياهه. حاول رؤوف الحصول على استثنائه الخاص بالحصول على أمنيتين بدل واحدة لدى شرائه القفل من جوار المنزل، ولم يستطع القائم على بئر الأمنيات إلا القبول بهذا الطلب وسط رغبة الصغير والإلحاح الظاهر في وجهه الحائر. اشترى القفل وذهب خجلاً حيث ساعدته أمه على وضع القفل على السور وإغلاق حلقته ومن ثم ذهب إلى البئر وتمنى ورمى بفرح ونشوة المفتاح في البئر وراقبه يذوي ويختفي في غياهب الماء.

لربما لن يتساءل رؤوف عن عدد الرصاصات التي أطلقت بغيابه، أو القذائف التي دوت في سماء مدينته الحبلى بالحزن، أو عن عدد الجدران والمباني التي تهدمت وتخربت في مدينته، وكم وكم من العيون التي انضمت لقافلة العيون القلقة الواهنة التي أدمعها موت متربص وأعياها انتظار قريب أو صديق، ومازال فيها رغم العجاف الثلاث للأزمة بريق خافت لأمل ذاو. لربما سيتمنى يوماً أن تمطر السماء بغيابه سيلاً من الورود الحمراء على مدينته علها تغطي رمادية المشهد، وتمسح كل دمعة سالت وتسيل على الخدود المحترقة، وتتمازج مع كل قطرة دم أذرفت لتذكر كل من عليها بأن الوطن الأم أكبر من الجميع وأن ترابه هو الذي سيحتضن كل السوريين في الحياة وما بعد الموت مجردين من أفكار السياسة والانتماء والمال.

لم تفلح تساؤلات الأم والأصدقاء وحتى سؤال الأب له على الهاتف من بعيد في الوصول لمعرفة الأمنيتين اللتين تمناهما رؤوف، حيث تهرب على الدوام من السؤال وكان جوابه الوحيد: تمنيت خلص، وبقي السؤال قائماً لحين عودته.

استقبلت ابني عبد الرؤوف بعد أسبوع من اشتياقي له بالضمة والمعانقة التي أحبها ويتقنها، حيث أقول له دائماً شد عبودي، أكتر أكتر، وأحمله مؤرجحاً. وراح يسرد متأملاً تفاصيل رحلته الغنية، متذكراً بدهشة تلك الصور التي عانقت مخيلته عناق المحبين، وموقفه الذي أضحك الجميع عندما خرج من البحر لكي يذهب للحمام وعاتبه الكبار قبل الصغار بقولهم معقولة يا عبود، لماذا التعب، هون أقرب. كما أخرج الألعاب التي رافقته في رحلته والألعاب الجديدة التي اقتناها وعادت للسكن في خيمته الممتلئة.

استطعت بعد يومين الولوج لرضا الصغير وعقله وسألته ماذا تمنيت بابا، فهمت بداية أنه تمنى الأمنية الأولى لكل الناس أي أنها عامة بعض الشيء، بينما تمنى الثانية لفكره الصغير وحده، جاوبني بتردد في البداية حيث قال يعني، الزبداني، قلت له تمنيت نرجع على الزبداني فأومأ موافقاً دون كلام متهرباً بنظراته وحزنه مني وقد أظهر رضىً على توفيري عناء ذلك عليه، ولكنه كان أكثر ثقة وجرأة في قول الأمنية الثانية حين نظر إلي وقال: ويرجع الصوص.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل