المحتوى الرئيسى

بومدين الساحلي: حلم الجردي

12/02 04:05

لم يعد ذلك الشاب اليافع من الشام كما ذهب إليها، عندما قرر بومدين الساحلي أن يدخل كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق، كانت الثقافة السائدة ورغبات الأهل في التعلّم ترتكز على الطب والهندسة، فامتثل بومدين، كما رغب والده بتسميته، أو محمد عارف كما سجله جده لأبيه تيمناً بعبد السلام محمد عارف الرئيس الأول للجمهورية العراقية.

هناك، في دمشق التي قصدها في 1982، عام الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وتزامناً مع مغادرة عدد من المثقفين العرب بيروت باتجاهها، لم يجد بومدين نفسه في الهندسة، فاعتكف عن حضور محاضرات اختصاصه وتفرّغ لسماع الموسيقى والقراءة والشعر في رأسها، وواظب على متابعة الأنشطة الثقافية التي زخرت بها العاصمة السورية.

الشام التي أحب كانت بوابته إلى نفسه، «هناك تعرفت الى خياراتي، وماذا أريد، هناك تبلورت شخصيتي الأساسية»، يقول فيما تلمع عيناه كالعادة، عندما يتحدث عن «شامِهِ الحبيبة»، وهناك تعرَّف إلى الحزب الشيوعي عبر أخبار جبهة المقاومة وتشرّب الأفكار اليسارية، بمعنى الانتماء لهموم الناس، ومن جارة قاسيون، كتب باكورة مقالاته الثقافية في «النداء» اللبنانية سنوات عدة، في تكريس تلقائي لاكتشاف نفسه.

العثور على تلك الشخصية، وعدم إيجاد ذاته في الهندسة، جعلاه يتوقف عن الدراسة في سنته الجامعية الرابعة. عاد أبو ناصر، والده، ليطلب منه أن ينهي ما بدأ ويحمل شهادته وليفعل بعدها ما يشاء. فكان له، لأبي ناصر، ما أراد.رجع «المهندس» بعد سبع سنوات من الشام شاعراً وكاتباً، وفي جيبه شهادة في الهندسة المدنية. عودته تزامنت مع وضع الحرب الأهلية أوزارها، وإعادة صياغة لبنان «الجمهورية الثانية» بطريقة لا مكان فيها للأفكار اليسارية والأحلام التغييرية، لا بل إن البلاد صارت أسوأ مما كانت عليه قبل الحرب التي رفضها ويرفضها بـ «المطلق».

حلم تغييري واحد من تلك الحقبة عرف طريقه إلى الحياة: رابطة شباب الهرمل.

أسّس بومدين مع صديقيه حسن شاهين وعبد السلام الطشم، «الرابطة» في بداية الثمانينيات لتكون ممراً لكثير من صبايا وشبان تلك البلدة النائية، ليس فقط إلى التجذر الثقافي والسياسي والاجتماعي والسلوكي، بل أيضاً إلى الأحلام والحياة. تصدرت مكاتب «الرابطة» التي كان بومدين بعضَ روحِها، شعار جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية لتتم محاربتها بطروحاتها وانشطتها الثقافية والرياضية التي تقدمت على كثير من الأحزاب الفاعلة في المنطقة بشتى الطرق وصولاً إلى استدعاء مؤسسيها للتحقيق معهم أكثر من مرّة، وما زالت تلك الأمسية التاريخية للشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم محطّ كلام عند العديد من الذين عايشوا تلك المرحلة.

هناك، في «الرابطة»، عرفت الهرمل، بالإضافة إلى فريقي الأشبال والرجال للكرة الطائرة، الفريق النسائي الرياضي الأول والوحيد في تلك اللعبة، والذي بقي لسنوات أبرز فريق في البقاع كلّه.

مع عودته إلى لبنان، توقف بومدين عن الكتابة لـ «يضيّع نفسه مرة أخرى»، كما يقول. كان الشعر هاجسه «الأول والأخير، أحاول الوصول إليه في شتى أحوال عيشي». ومع «خيبة» التغيير إثر الحرب الأهلية، و «إضاعة النفس»، وجد بومدين، ابن الهرمل، نفسه في جرودها. «اللزَّاب»، نسبة إلى ذلك الشجر المعمّر، مشروعه البيئي السياحي مع صديقه حسين دندش الذي سحب معظم رواد الحمرا وبيروت وسياح أجانب إلى سفح القرنة السوداء، وجعل من «الهرملي» الأصلي، جردياً بامتياز، متناغماً مع شخصيته الجديدة أكثر من أبناء الجرود أنفسهم، راسماً لمنطقته صورة مغايرة عن تلك التي صوّرها الإعلام لغاية في نفوس أركانه.

منحه الجرد «فرصة التعرف على ذاتي وفيه تعلّمت السكينة» وفي رحابه مارس شعره في صورٍ فوتوغرافية صارت شائعة عند العديد من المهتمين. يعيد الفضل في استئناف كتابة نصوصه لفيسبوك «مارك زوكربيرغ» قبل ثلاث سنوات، تلك «الأداة التواصلية التي سهّلت النشر والتبادل والتعرف على تجارب الآخرين وألغت مافيات الصفحات الثقافية».

بدأ كتاب «مئة يوم من الحب» في الفيسبوك، «بوستات» كتبها ثم قام، «وبتشجيع من أصدقاء، بإعادة صياغتها وترتيبها لتكون كتاباً في الحب والعرفان». اكتسب اسمه بعد ان كتب بومدين في أحد أيامه المئة: «ما بقِيَ على المخدّةِ من رائحتِكِ في تلكَ الليلةِ اليتيمة يكفيني لمئةِ عامٍ آخرَ منَ العزلة»، في إحالة لعنوان كتاب ماركيز «مئة عام من العزلة».

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل