المحتوى الرئيسى

حكايات من دفتر الموت البطىء

12/01 11:57

للمرض زوايا أخرى من الألم.. حكايات غير مرئية من العذاب الذى لا يكتفى بإصابة الجسد، لكن تأثيراته تصيب الروح أيضاً فى مقتل.. خصوصاً إذا كان هذا المرض من النوع القاتل.. «الإيدز».. فيروس نقص المناعة، الذى اجتاح العالم فى نهايات القرن العشرين، وفتك بأعداد ضخمة من البشر.. ولا تعنينا الآن عذاباته الجسدية، لكننا نرصد قصصاً لحياة أسر عانت المرض، فأدى إلى تفككها أو تماسكها، فهو أشبه بشبح ينتقل من جسد إلى جسد، خصوصاً الأقربين منهم، الذين يقاسمونك الحياة..

«الوطن» استمعت إلى أصحاب الحكايات فى إحدى الجمعيات التى ترعاهم..

وجه مربع.. يعلوه شعر أسود كثيف لرجل قمحى اللون ذى ابتسامة خفيفة، مهندم الشكل.. للوهلة الأولى تحسبه صحيحاً بلا سقم، لكن الإيدز يعيش بداخله منذ 5 أعوام، واكتشفه حين خضع خلالها «أمجد» لإجراء جراحة البواسير، وكان إلى جواره فى المستشفى والدته وزوجته، ومع إجراء التحاليل أخبره الأطباء أنه مصاب بالسرطان، وطالبوه بالحصول على علاج هذا المرض اللعين، وقبل الخضوع لجلسات الكيماوى، تم اكتشاف إصابته بفيروس «HIV»، المعروف باسم «الإيدز»، أو مرض نقص المناعة، عن طريق المصادفة، بعدما قام بإجراء تحليل آخر فى معامل وزارة الصحة المركزية، وكإجراء وقائى، فور سماع زوجته خبر إصابته بهذا المرض، سارعت إلى بيت والدها، وطالبت بالانفصال عن زوجها، وأجرت الزوجة تحاليل للاطمئنان على نفسها وعلى ولديهما، وكانت النتيجة أنهم بخير، ولم تلحق بهم أى عدوى من الزوج الأب.

«منال»: اكتشفت إصابتى أنا وابنى بالفيروس بعد وفاة زوجى فى 2014

يتنهّد «أمجد»، ثم يقول بحزن: «مراتى روحت على بيت أبوها من 5 سنين، وما رجعتش لحد دلوقتى، ومن اليوم ده ما شفتش أولادى، لأنها طبعاً منعتهم عنى ومنعتنى عنهم، واتحججت طبعاً بضرر نقل العدوى، وده قاتل أكتر من المرض نفسه، أولادى وحشونى جداً وماعرفش أنا أذنبت فى إيه عشان يجرى لى كده؟ مش كفاية المرض؟، أكيد نفسى أشوفهم حتى لو من بعيد، وعشان كده لجأت للقضاء عشان يمكننى من رؤيتهم، وكسبت القضية، لكن الزوجة لم تنفّذ الحكم، حتى القاضى لما عرف إنى مصاب بفيروس الإيدز عاملنى بصورة مهينة جداً، ولما كنت بآجى أدخل مكتبه كان بيقف بعيد جداً عنى، وحكم برفع النفقة علىّ من 200 جنيه إلى 450 جنيهاً كأنه بيعاقبنى، رغم إنى أصلاً لا أملك مصدر دخل يكفى هذه النفقة، أو يكفينى أنا شخصياً».

ويضيف «أمجد»: «أنا مش زعلان عشان ربنا ابتلانى وأصابنى بالفيروس، لكن زعلان عشان حياتى اتدمرت وبيتى اتخرب، وما باشوفش عيالى، ولما بافكر فى الموضوع ده بازعل وباقول ليه يا رب خليتنى كده».

«أحمد»: «مراتى فضلت أصيلة ورفضت الطلاق.. والناس بتحارب المريض مش المرض»

أما السيدة الأربعينية، قمحية اللون، صاحبة الجسد النحيل، التى تعيش فى القاهرة الكبرى بمنطقة شعبية، فقد اكتشفت إصابتها بالمرض منذ عام واحد فقط، رغم انتقاله إليها منذ ما يقرب من 10 سنوات.. تقول «منال. م»: «قبل سنة من دلوقتى اتصاب جوزى بالتهاب رئوى حاد، ودخل فى غيبوبة لمدة أسبوع واتوفى بعدها، وكان شغله فى الأعمال الحرة، ومش موظف فى الحكومة ولا القطاع الخاص، والدكاترة والممرضين فى المستشفى كانوا بيقولوا لنا وقت فترة العلاج إن جوزى بيعانى من نقص حاد فى المناعة، ومناعته صفر، ولما جينا نستخرج تصريح الدفن، قال لى موظف إن جوزك اتوفى وهو كان مصاب بالإيدز، وكتب على شهادة الوفاة أن سبب الوفاة مرض الإيدز، وطلب منى موظف الصحة إنى أعمل إجراءات وفحوصات طبية ليا ولأولادى، عشان نعرف إذا كنا مصابين بالمرض ولّا لا».

تأخذ «منال» نَفَسَاً عميقاً قبل أن تضيف بصوت مجهد، أنه بعد الانتهاء من مراسم عزاء زوجها، ذهبت إلى أحد المعامل الخاصة لإجراء التحاليل، وعندما ذهبت للحصول على نتيجة التحليل أبلغوها أنه تم تحويل النتيجة إلى المعامل المركزية بوزارة الصحة، ولم تفهم وقتها لماذا قاموا بهذا الإجراء، لكن عندما أخبرتها ممرضة فى المعمل بأنها قد تكون مصابة بفيروس «HIV»، فلم تفاجأ لأنها حسب قولها: «توقعت إصابتى، بس كنت خايفة يكون كمان الأولاد اتصابوا بالعدوى من أبوهم».

«بلال»: «طردونى من الشغل.. ولو أمى عرفت إنى مصاب بالإيدز هتروح فيها»

وتتابع: «لما وصلت وزارة الصحة تأكدت من إصابتى بالفيروس وتأكدت كمان من إصابة ابنى الأكبر، اللى عمره 9 سنين، بالفيروس، لكن بنتى الصغيرة، الحمد لله، ربنا نجاها عشان مارضعتش منى، مع إنى كنت زعلانة جداً من ده، لكن دلوقتى باقول الحمد لله إن ده ماحصلش، وتأكدت طبعاً من النتيجة دى اللى معناها إنى كنت شايلة المرض من 10 سنين، وماكنتش أعرف».

وتحكى «منال»: «كان فيه ناس جيرانى سمعوا الراجل بتاع تصريح الدفن، وهو بيقول لازم تروحى تحللى، تشوفى عندك الفيروس انتى والعيال ولّا لا، وطلبوا منى إنى أروح أحلل، كأنهم خايفين عليا، لكنهم كانوا خايفين على نفسهم وعلى عيالهم، لأن عيالنا بيلعبوا معاهم، ولما رجعت بنتيجة التحاليل، قلت لهم مفيش حاجة، وأنا لو كنت طايلة أزغرط، كنت عملت كده لكن ماينفعش عشان جوزى كان لسه متوفى، ومثّلت قدامهم أن مفيش حاجة، وصدقونى هم طبعاً، تخيل لو كانوا عرفوا الحقيقة كانوا عاملونى إزاى؟ أنا مش صعبان عليا نفسى، أنا صعبان على ابنى عشان هو حامل للمرض، ولسه طفل صغير، والمفترض ماياخدش أى علاج وخلاص، ولو صارحت الدكتور بأنه متعايش مع الإيدز مش هيكشف عليه».

«أمجد»: «اتحرمت من أولادى 5 سنين بعد انفصال زوجتى بسبب مرضى بنقص المناعة»

أما أحمد حسين، الرجل الأنيق الوسيم، الذى كان يعمل فى شركة سياحة خاصة حتى عام 2009، فعندما اكتشف إصابته بالفيروس فجأة وهو يجرى تحاليل طبية فى مستشفى «دار الفؤاد»، قال: «كنت بين الحياة والموت، وكل اللى حواليّا كانوا بيقولوا إنى هاموت فى أقرب وقت، وبعد تحسن حالتى وعرفت من الدكاترة إنى مصاب بفيروس الإيدز حاولت الانتحار لكن غلبتنى تربيتى الدينية، وابتعدت عن الفكرة تماماً، لكن المستشفى بعت نسخة من التحاليل وحالتى للشركة اللى باشتغل فيها، والشركة بدورها إدتنى إجازة مفتوحة، لكن الحمد لله مع الإبقاء على المرتب الثابت فقط، اللى هو مبلغ 500 جنيه، وده باعتبره كرم من ربنا وكويس طبعاً إنهم بصراحة وقفوا جنبى فى الظرف الصعب ده».

ويضيف «أحمد»: «طلبت من مراتى تنفصل عنى خوفاً عليها من انتقال المرض ليها، لكنها رفضت حتى بعد أن ثبت عدم إصابتها بالمرض هى وأبنائى، واختارت تعيش معايا، أنا قلت فى البداية إنها هتسيبنى بعد ما أعدى مرحلة الخطر فى المرض ده عشان ماحدش يلومها، لكنها ما عملتش كده وعايشة معايا لحد دلوقتى، لأنها ست أصيلة حقيقى وده كرم كبير قوى من ربنا إنه رزقنى بواحدة زيها، كمان باشكر ربنا جداً إن إخواتى كانوا واقفين جنبى فى بداية مرضى أثناء وجود والدى، لكن طبعاً بعد ما مات ولا سألوا فيَّا، وبالنسبة للعلاج اللى باخده فى حالتى دى فهو متوفر جداً، وبلاقيه شهرياً بسهولة، لكن أصعب شىء بيواجهنى حالياً إنى ماعرفش أعيش حياتى الطبيعية لأنى حامل للمرض، فالدكاترة والناس اللى حوالين المريض بيحاربوا المريض مش بيحاربوا المرض، وطبعاً لا عارف أشتغل فى مكان ولا أزوّد دخلى اللى بقى قليل جداً ومابيكفيش البيت اللى أنا فاتحه».

محمد على، صاحب ملامح مصرية أصيلة، تظهر عليها علامات العمل والشقاء، 34 سنة فقط، لكن ملامحه تعطى انطباعاَ أنه عجوز، كان يعمل فى نادٍ رياضى منذ 9 سنوات، حياته كانت هادئة ومستقرة وسط أسرة بسيطة، وكان أبناؤه يملأون عليه حياته، حاول «محمد» زيادة دخله وتكوين مستقبله فقام بالتجهيز للسفر للخارج، وعندما ذهب إلى المعامل المركزية بوزارة الصحة اكتشف إصابته بفيروس الإيدز، فاسودت الدنيا فى وجهه تماماً، لكنه لم يخبر أحداً بمصابه وأخفى الخبر عن الجميع وسط حالة من الهذيان و«السرحان»، وتجنب زوجته فترة، ولم يقترب منها، حتى ملت من هجره، لكنه أخيراً اعترف لها بأسباب ابتعاده عنها، ثم أخذها إلى معامل وزارة الصحة للكشف عليها هى وأولادهما.

يقول «محمد»: «التحاليل الطبية أثبتت أن زوجتى سليمة هى وولادى الثلاثة، لذلك تقبلت الأمر فى البداية واقتنعت بأن الإصابة قد تكون ناتجة عن عملى أو عن طريق إجراء 3 عمليات قبل ذلك، وذهبت إلى بيت أهلها للزيارة لكنها لم تعد حتى الآن، ورفعت قضية طلاق ونفقة، ووصل مجموع ما طلبته منى فى الاتفاق الودى إلى ضرورة دفع 2150 جنيهاً شهرياً، وهذا كان يفوق مقدرتى، لأن كل مرتبى كان 1300 جنيه شهرياً، وفى تلك الفترة كنت أدفع لها 800 جنيه لتنفق على الأولاد، لكنها كانت ترفع القضايا ضدى من هذه الأموال، القاضى تعاطف معها بعد معرفته بإصابتى بالفيروس، وحكم عليَّا بدفع 1300 جنيه شهرياً، وأنا رفعت قضية رؤية، لأننى منذ خروج أبنائى الثلاثة معها من سنة وشهرين لم أرهم حتى الآن، هاموت وأشوف عيالى، روحى فيهم، هو حد يقدر يعيش من غير ما يشوف دمه ولحمه وهما على بعد مسافة قصيرة منه».

يكمل منفعلاً: «عندما عرف النادى اللى باشتغل فيه بإصابتى بالإيدز طبعاً نتيجة متوقعة إنهم قالوا لى انت فى إجازة مفتوحة، قلت لهم أنا أقدر أشتغل عادى وإن المرض لا ينتقل إلا عن طريق أمور معينة معقدة، قالوا لحد ما تثبت الكلام ده انت فى إجازة، روحت طبعاً وأنا زعلان ومهموم وفى تانى يوم قلت أروح لهم تانى أشرح لهم الموقف، لقيتهم منعونى من دخول النادى، وتعرضت لمعاملة مهينة جداً، وشعرت بأنى منبوذ ليس فقط من العاملين فى النادى لكن من أصدقائى المقربين، ولم أتمكن حتى من الحصول على ملابسى الخاصة فى الدولاب الخاص بى داخل النادى، ثم حررت محضراً بالواقعة ورفعت قضية ضدهم للحصول على مستحقاتى لأننى أعمل فى النادى منذ 9 سنوات، وكانوا بيستقطعوا من راتبى فلوس كل شهر وبالتالى لى مستحقات وحقوق لديهم».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل