المحتوى الرئيسى

"صلاة لراحة نفسي" عبق النّهايات المُبكِرة

11/27 12:00

مسكون بهاجس الموت ليس الموت السريري فحسب، بل الموت الروحي والنفسي والثقافي، تبعه المرض وتوغّل موته في لغته وفي روحه

بهدوءٍ، ومن دون سابق قصيدة، أَلْفَيْتُني أفتتح سِفرًا مُختلِفًا في داخلي، وأحرث، أحرث عميقًا في أرض نفسي اليباب. كانت تلك هي اللّحظات الأولى الّتي عدلتُ فيها جدّيًّا عن توصيف الانفعالات نحو المساءلة النّفسيّة عن جدوى الحياة والكتابة، إذ ذاك فقط عرفتُ أنّ كلماتي الجديدة لن تغدو كونها صلاة لراحة نفسي.

والواقع، أنّ الموت الّذي طرق باب لغتي لم يكن أمارةً على موت جسديّ وشيك، أو خوفًا من طلائع القبور، بقدر ما كان أمارة على تحلّل مجموعة من المفاهيم رصدتها على امتداد عمر قصير، وتجربة أقصر. باختصار، إنّه الموت في الحياة، الموت لغة، والموت إبداعًا، والموت أمنية، والموت عائليًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا.

ومن هذا المنطلق، جاءت قصائد هذا الدّيوان (صلاة لراحة نفسي) في إطار سلسلة مُتّصلة من الانفعالات المُتعاقبة في ضربٍ جدّيّ من السّبر العميق لمندرجات اللّاوعي الموغل في ظلاميّته والمنطوي على سراديبه بكلّ ما في هذه المندرجات من حقائق عصيّة على القول، ومشاهد عصيّة على التّصوير. باختصار، كان لا بدّ لي أن أكابد.

وبالفعل، لقد وجدتني مُنساقًا وراء البحث والتّنقيب في عري الذّات القديمة مُتحرّرًا من وطأة الأصول ورغبة التّعبير الانفعاليّ وجماليّة التّصوير، لقد رِمتُ وللمرّة الأولى أن أشهدني مُجسّدًا كما ينبغي لي أن أُجسَّد.

وعليه، احتجت وقتًا طويلاً وجرأة عميقة لأقف على مندرجات نفسي الحُطام، لكّني عُدت بجملة وقائع لا تُردّ، وألفيتني للمرّة الأولى وجهًا لوجه أمام الحقيقة: إنّه الموت وقد لبس كلّ لبوس، وأصداء الموت وقد حلجت وجمزت في أودية الرّوح وفلاوات العمر.

واقعيًّا، بدأ الموت يتسرّب إليّ على شاكلة مرض يُنجَز وعيده كلّ يوم، الأمر الّذي أعادني القهقرى إلى سنوات الطّفولة لأسائلني: كيف كُنتُ صغيرًا أحبو على عتبات الوجود موفور الصّحّة والعافية وكيف أمسيت في منتصف عقدي الثّالث أسير أمراض مُستجدّة وطريح فراش مُرتقَب؟ كان الموت فرصتي المرتجاة للعبث بعبث الحياة، فرصتي المرتجاة للفوز بكلّ ما اكتنزته من عبق الطّفولة وعزيمة الشّباب علمًا وثقافة وصحّة ونساء كثيرات، كلّ ذلك في ضرب من التّحايل على جابي الحياة الّذي بدأ يرتسم قبالتي مُطالبًا بسداد ما تأخرّ من ضرائب الطّفولة والشّباب.

كان الموت الوسيلة الأنجع للتّهرب من دفع ضرائب العمر لجباة الحياة.

لكنّ الموت الّذي خلته طوق نجاة كان أقرب إليّ من حبل الوريد، وقد تسنّى لي أن أعرف كم كُنتُ ميتًا وكم كُنت مُغفّلاً حين أشحتُ ببصري عن موتي.

بلى، لقد تسّنى لي أن أعرف أنّني واهم حدّ التّعتعة، وأنّ كلّ ما خلته مجدًا لم يكن سوى قصر من تراب شيّدته فوق أعمدة الموج.

أنا ذاك الغارق في الأشياء ولست الغارق في قلب الأشياء، دمّرتني تفاصيل حياة يوميّة ولم يعد بمكنتي العودة إلى الوراء. أمارس وظيفة روتينيّة تستحوذ على وقتي ليل نهار، ولا شيء يقضّ مضجعي سوى جملة طلاّب على أهبة الرّسوب، لكن للأسف لم يقضّ مضجعي يومًا أنّي أنا نفسي على أهبة الرّسوب. علميًّا، نلت أعلى شهادة ممكنة لكن دون سبر لأغوار المعرفة كما ينبغي، ثقافيًّا نَبَتَ عشب القطيعة بيني وبين الكتاب حتّى صارت زياراتنا المتبادلة خجولة وعارضة، شعريًّا لا أغالي إذا قلت بأنّ لغتي ميتة سريريًّا، تنتظر الوداع الأخير، عائليًّا لا جديد سوى الانهماك بترتيب فضاء المنزل لأكون على قدر المسؤوليّة تجاه امرأتي وولدي وفشلت، رؤيويًّا جفّ حبر الخيال وتوقّف نبض الإيحاء لنقص حادّ في القراءات المُعمّقة.

من كلّ ما تقدّم، لم يكن الموت الّذي أنشده وأبحث عنه بعيدًا عن مرمى أيّامي وخطواتي وتفاصيل لغتي، لقد عرّشت عناكبه في مغارة روحي وجسدي وعملي وعائلتي، لكنّي وأنا المُبصِر كانت الرّؤيا تنقصني وبحقّ.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل