المحتوى الرئيسى

ذكرى الأربعين| روايات «الغيطانى» خرجت من سطور «ابن إياس»

11/26 14:45

أمنيته المستحيلة أن يُمنح فرصة أخرى للعيش، أن يجئ مزودًا بتلك المعارف التى اكتسبها من وجوده الأول الموشك على النفاد، يولد وهو يعلم أن النار تلسع، والماء يغرق فيه من لا يتقن العوم، كم من أوقات أنفقها لإدراك البديهيات وما زال يتهجى بعض مفردات الأبجدية.

قالها فى روايته "الزينى بركات" الراحل جمال الغيطانى، الذى مر 40 يومًا على وفاته، وخلال مسيرته الأدبية قدم عشرات الكتب، بين الرواية والقصة القصيرة، أبرزها "أوراق شاب عمره ألف عام، هاتف المغيب، كتاب التجليات، وقائع حارة الزعفرانى".

لم يتوقف قلم الغيطانى عن خوض المعارك، وظل إحدى علامات الكتابة الروائية فى العالم العربى خلال السنوات الخمسين الماضية، احتفى بالموروث المصرى، واشتهر باطلاعه الواسع على الثقافات المتعددة، إذ آمن باستحالة العشق دون معرفة، كما يعتبر من أكثر الكتاب العرب شهرة على شبكة الإنترنت، فأغلب رواياته ومجموعاته القصصية متوفرة فى نسخ رقمية يسهل تبادلها، ما أضاف بعدًا جديدًا لأعماله، التى تجمع بين الأصالة والموروث العربى والحداثة الواعية.

اعتاد الغيطانى أن يحشد تجربته اللغوية والتشكيلية فى البناء الفنى قبل الشروع فى الكتابة، فتبدو أقرب إلى لوحة أو مجسم فنى يشبه الفسيفساء فى عمارة القاهرة الإسلامية، التى ذاع اهتمام الغيطانى بها، وبتطورها ومعانيها المميزة، فظل حارسًا لقاهرة نجيب محفوظ، وتعد "الزينى بركات" من رواياته البارزة، إذ عالجت ظاهرة القمع والخوف، واتكأت على أسبابها وبينت مظاهرها المرعبة فى الحياة العربية.

ظل الغيطانى على علاقة جيدة مع أغلب الكتاب والمفكرين والنقاد، وظلت صداقته بالكاتب الكبير يوسف القعيد هى الأقوى، إذ استمرت حتى النفس الأخير لصاحب "التجليات"، ويقول عن ذلك "القعيد": عرفت الغيطانى فى ستينيات القرن الماضى، فى ندوة لنجيب محفوظ بمقهى ريش، وغالبًا كل جيلنا تعرف ببعضه حول نجيب محفوظ وفى رحابه، ونشرنا العملين الأولين لنا فى عمل مشترك، مجموعته القصصية الأولى "أوراق شاب عاش ألف عام" فى 1968، وروايتى الأولى "الحداد" فى 1969، وكان العملان فى مشروع أسسناه كان اسمه "كتاب الطليعة".

يوسف القعيد قال لـ"مبتدا": حتى الآن لست متأكدًا أنه رحل، لما كان من تداخل في حياتنا منذ منتصف الستينيات وحتى رحيله، بقينا فى خندق واحد، وكتابة متقاربة، وقراءة واحدة، عرفنا بعضنا البعض فى رحاب نجيب محفوظ، وكنا معه لآخر لحظة في حياته.

وأضاف: الغيطانى قدم للأدب المصرى والعربى تجربة مهمة للغاية، لكننا للأسف استهلكناها بالمعارك الصحفية اليومية، أتمنى أن يقرأ نصه الآن فى غياب شخصه، بعيدًا عن المعارك المفتعلة، وأن يرد له الاعتبار فى الفترة المقبلة، فأحيانًا غياب المؤلف يجعل من النص حر فى الوصول إلى القارئ.

وتابع: المؤرخ ابن إياس كان أستاذًا حقيقيًا للغيطانى، خاصة كتابه بدائع الزهور فى وقائع الدهور، إذ قرأه مع المقريزى والجبرتى وغيرهما، لكن ظل ابن إياس بالنسبة له مؤرخًا فريدًا، وتوقف عنده طويلًا، حتى أن أهم رواية فى حياة الغيطانى "الزينى بركات"، خرجت من سطر واحد من بين سطور ابن إياس.

"التجليات ثلاثية روائية مهمة، وبالنسبة للحائرين فى تصنيفه سواء رواية أو سيرة ذاتية، أقول لهم إننا نقيد النص بهذا السؤال، ومن المعروف أنه كلما اشتمل النص على أكثر من معنى يبقى نص شديد الثراء والأهمية، ومن المهم فى الفترة القادمة أن نعيد طباعة كتب الغيطانى كى تكون متاحة للجميع، وأن يعيد الجميع قراءتها بعيدًا عن أى مشاكل مع كاتبها، فضلًا عن تقديمها للأجيال الحالية والتى لم تعاصر الغيطاني".. قالها يوسف القعيد.

فى أيام الغيطانى الأخيرة ظل "القعيد" بجواره فى المستشفى، وقال: كنت يوميًا معه فى المستشفى، وعند وفاة نور الشريف أراد أن يحضر عزائه بشدة، لكن كانت الحركة خارج المستشفى ممنوعة عليه، وفى الفجر اتصل أخوه ليخبرنى بأن أزمة إصابته مختلفة عن كل الأزمات السابقة، دخل بعدها فى غيبوبة ظل فيها لفترة طويلة حتى وفاته.

وعن مشاريعه الأدبية التى كان يخطط "الغيطاني" للخوض فيها ولم يتمها، قال: لديه مشاريع كثيرة كان ينوى العمل عليها، منها أنه أراد أن يكتب القصة التى دفعته لكتابة كل رواية قدمها للأدب العربى، من خلال سرد كيف راودته فكرتها وأجواء كتابتها، أعجبت بفكرته وقلت له أنها ستكون جزء فى مذكرات الشخصية إذ قرر كتابتها فى يوم من الأيام.

الروائى إبراهيم عبد المجيد، قال إن "جمال الغيطانى واحد من أهم كتاب الستينات، ومن بداية مشواره اختار لنفسه طريقًا مختلفًا عن بقية جيله، من خلال إعادة النظر فى التراث العربى، بحثًا عن جذور القمع والديكتاتورية الموجود فى حياتنا".

"عبد المجيد" أضاف: الغيطانى حقق نفسه فى كل المجالات، وقدم رسالة جيدة عن الحضارة العربية، وتظل رواية الزينى بركات من أشهر وأهم أعماله، ولا ننسى مجموعته القصصية الأولى مذكرات شاب عاش منذ ألف عام، فضلًا عن الأعمال الأخرى، وصل خلالها إلى تجلى روحى، بحثًا فى التراث الصوفى فى الكتابة، فقدم كتابه التجليات، فضلًا عن اهتمامه بالتراث العربى بشكل عام.

رأى الغيطانى أنه مركز العالم، وعن ذلك قال صاحب رواية "لا أحد ينام فى الإسكندرية": الكاتب دائمًا يشعر أنه مركز العالم، على اعتبار أنه يحاول إعادة صياغة العالم صياغة مختلفة عن الشائع والمألوف، لذا ظل الغيطانى حاضرًا فى أعماله.

أما الدكتور سعيد توفيق، أستاذ الفلسفة المعاصرة وعلم الجمال بكلية الآداب جامعة القاهرة، والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، فقال: "من الخطأ أن تقتصر نظرتنا إلى الجانب الصوفى لكتاب التجليات، أرى أن هذه الآراء الصوفية موجودة بقوة فى كتابه "دفاتر التدوين"، وإن كانت غير معلنة بشكل صريح، لكنها موجودة فى بناء العمل كله، وحتى رؤية الغيطانى للعالم، وتصل تلك النظرة الصوفية إلى ذروتها فى الدفتر السادس "دفتر رن"، كذلك فى كتابه "حكايات هائمة"، فهنا نجد نظرة فلسفية صوفية للعالم".

واختلف "توفيق" مع آراء بعض النقاد التى لا تعتبر كتاب التجليات رواية، وقال: "بالطبع رواية، فيها الطابع والبناء الروائى، وإن كان على غير المعتاد، إذ كان مغايرًا للتقليدى، وتحرر من الطبع الروائى المعتاد، وتجلى ذلك فى "دفاتر التدوين" التجربة الأخيرة فى إنجاز الغيطانى، التى خرجت أكثر نضجًا، لكن عادة لا يلتفت لها أحد، رغم ثرائها، ورغم أنه يبلغ فيها مرحلة التحرر من أساليب السرد التقليدية بشكل تام".

وأكد أستاذ الفلسفة المعاصرة وعلم الجمال أن الغيطانى كان يشكو من عدم قدرة النقاد على تناول أعماله الأخيرة ووقوفهم بالنسبة لتجربته الصوفية عن التجليات، وقال: "كتابات النقاد لم تحظ بالالتفات إلى أعماله الأخيرة، باستثناء كتابى "عالم الغيطانى.. قراءات فى دفاتر التدوين"، إذ لا يصح أن نحصر إنتاجه الضخم فى كتاب التجليات ورواية الزينى بركات، فهذا خطأ فادح، نجح فيها بتكوين عالم سردى لا يخص أحد غيره".

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل