المحتوى الرئيسى

لمن يغني الشعب السعودي؟

11/25 16:05

لِنفكّرْ بفوّاز. فوّاز موظف على بند الأجور من ثلاث سنين، راتبه 4 آلاف ريال ونواقص، يقود مركبة بعمر عشر سنين ومشاكل، لديه عشرون أغنية محمّلة في هاتفه، ويستمع لها بشكل متكرّر، في لحظة متهوّرة ترنّم ب: "إذا صفا لك زمانك عل يا ضامي ..اشرب قبل لايحوس الطين صافيها". لنفترض أنه بعد ذلك تصرف ب 500 ريال مصيرية في شهره. قد يدعو صديقا، قد يأكل في مطعم باهظ، وقد يمسك خطًّا إلى البحرين. ويشرب فواز من كأس الزمان الصافي، قبل أن يحوسه الطين والهموم والقروض وتستيقظ المشكلة رقم 11 بالبواجي، في صباح اليوم التالي.

في نفس الليلة، كان مطربه في ضيافة فاخرة في قصر أحلام -فنّانة زائفة أخرى- كان يظهر ببدلة لامعة، وشعر مُصفف، لامع أيضا. مَن كتب الأغنية، الْ ينزف التعب من قافية هاء التنهد، ويزفر اليأس في ثناياها، لم يكن إنسانًا كادحًا يشبه فواز، شماغه على كتفه، يقوم بمهنة شاقة، يعود نهاية النهار متورم الظهر، ذا ونّة حقيقيّة من جدب الأيام. ذلك مخالف للخيال بشكل هائل. إن كاتبها أمير فنان شاعر رسام ناقد، وزير تعليم سابق، أمير منطقة ل37 عاما، أمير منطقة أخرى، ابن ملك سابق، حفيد ملك، ابن أخ لملوك. تشرفنا.

لقد غدروك يا فواز. الأغنية لم تغنّ لك وأنت عالق في زحام خريص. لمن يغنّي الشعب إذن؟ في الحقيقة، يغنّي للكثير، القريب والبعيد، الأعجمي والعربي، المشهور والمغمور. لكن من أجلِ دواعي التحيّز والكتابة، والحديث عن السائد، ستكون الإجابة مؤقتا: يغنّي لأشياء زائفة، لم تعكس روحه. يتحدث الفيلسوف ثيودور أدورنو عن صناعة الموسيقى في المجتمع الرأسمالي، عن تحول الفن لمنتج استهلاكي بحت، بين المنتجين والمستمعين، عن تغييب الوعي، عن استمالته، عن طريق ما يُختار له أن ينتشر.

هذه المشكلة، من يكتب أغاني الشعب، لا يمثّل الشعب، لا يعرفه. لم يلتقِ أبدا بأحلامه، ولا زفراته، ولا ما يشابه مستقبله المضيّع. لا ينزلون للشعب، لم يجِئ أيّ فنان لحارة فواز، ولا حارتنا. في النهاية، سيذهب محمد عبده إلى باريس ليغني "من بادي الوقت". باريس التي لا نستطيعها أنا وأنت يا فواز، سيحضرونها بحبور يملكه الذين لا يعرفون بحقّ "طبع الأزمان"، سيذهبون كلهم، وسنبقى في حراسة الهيئة وفعاليات دعس الأوتار، سنبقى حبساء في وطن ممل وكئيب.

فيروز في لبنان الحرية، غنّت كلّ/ لكلّ شيء، غنّت السيدة في المتجر تنظر للعابرين بتوجع. غنّتِ الصبية تنظر للجبل وتفكر بالحبيب المسافر. غنتْ للمهاجرين، غنتْ لأرز الوطن، لترابه، ومهج شعبه. غنّت مثلا، للخائفين أثناء المواعيد الغرامية، الْ يلتفتون في الساحة، لا يعرفون "من مين خايفين". هذا هو، الخوف الذي يهدد كل مولّه سعودي -لنترك السياسي جانبا الآن- يتلفت من أين ستطلع له الهيئة، وتهدّ عليه "البارتيشن"، في أي لحظة، لحظات الهاللوين هذه. حبّ الأغنية السعودية، لا يشبه أبطاله بالشارع.

"المسافة والسور والباب والحارس"، غير موجودة بدقة في قاموس العاشق السعودي، في أحياء الطبقة المتوسطة، هناك السور والساتر والأخوان الخمسة بالمرصاد. توحي هذه الأغنية بواجهة لقصر، وكما تقول القصة، عن الأمير الذي يعاود زيارة طليقته. أيّا يكن، هذا النوع من الخطاب: "أرفض"، غير متاح للمواطن السعودي، بشكل حاضر سياسيا وثقافيا واجتماعيا. بالمقابل، أقول إن "المعازيم" أغنية شعب. إن فائق عبدالجليل مبسوط برؤية الحبيية معزومة، نستيطع أن نتخيل منزلا طبيعيا، باستطاعته اختلاس النظر على مجالس النساء، لأنه كما المعتاد هناك فناء ببابين متقاربين للرجال وآخر للنساء. هذا لم يكن عبر مبانٍ أخرى ودهاليز، ومرور بصالات استقبال ومداخل، منزلا طبيعيا أعني، "في زحمة الناس"، لا استدعاء لعذال ولا أخوياء ولا خدم ولا حراس. لا تجد هذه الحركة في أغنية أميرية، مسروقة أو لا، لنتذكر اللحظات قبل الدفع لقصيدة: يقوم سموه وأعوانه بتدبرها، مناسبتها للذات السامية، مناسبتها للسياق. لابد أن الشاعر نفسه، يفكر بذلك حين يعيد صياغة قصيدته. مثلا، ليس أميرا من كتب "دنيا تقلّب مالها أول وتالي"، هذه ثورة، تؤلم بطن الأمير. من شرفاتِ جدة، كتب إبراهيم خفاجي أجمل أغنية غنت تنوع الوطن وجنوبه الجميل، يهلل لها المسرح، وينتشي لهم الفنان.

يقول الأمير: "أحلى من العقد لباسه.. ألماسةٍ تِلبس ألماسه"، لاحظ كمية مجوهرات داماس بالأغنية. "رمشه عدى، جند وحراسه، يبيد من وده يبيده"، انتبه لسياق الإبادة هنا واِستعذ. يكتب بدر بن عبد المحسن "حق العيون السود السمع والطاعة"، لم يجئ بجديد، كان يكرر كل ما يسمعه في حياته. هو نفسه من يقول "فوق هام السحب وإنت كنت ثرى" وكانت أعظم خدعة رقص عليها شعب، الأمير وحده فوق هام السحب، من لا يعرف حقا كيف يكون الثرى، والعيش في الثرى ودوامات الوطن والغبار، وتوفير الرزق والتأخر والتعثر والتخلف، لم يحلق الوطن فوق هام السحب بعد، يجب الإقرار بذلك. أشكال مباني الوطن ومدنه في الأرض لها محيا الثرى، كما يذكرك مستشفى حائل العام، كلية المعلمين بالمدينة، محطة في طريق سفر لتبوك، مدرسة مستأجرة في جيزان، كلّها تشبه التراب، لكن قالها الأمير الشاعري وهرب بجلده إلى منتجعه الأوروبي، لحظة كتابته القصيدة، كان يفكر بالثرى، كما يتراءى له في أيامه الفاخرة في رحلة صيد، الثرى "كيوت" بعينيه، شعريّ على كل. انتبه للاستدراك: "وإن كنت ثرى"، إن الوطن ثرى، إنه يعرف.

إلى الذي كتب "مابقي على عالي الهمة سفوح"، إلى أجمل صور التعب ونحول الأمل في الحياة، تحياتي ودعواتي، بأن يظهر. الأمير الذي ادعى كتابتها وهو بعمر 18 عاما، كانت ضحكة أخرى كبيرة، في هذا العمر، كانت الملعقة الذهبية تنبت من فمه، تغرف من كل شيء بالعالم، لا سفوح ولا قمم ولا تراب ولا همة ولا غربان، كان الأمير فقط في بداية المجد، كل المجد السعودي الذي يحف أميرا ينفق بغير حساب، من الولادة حتى الممات، يقرها له الشعب بالدنيا، ويضمنها له الشيوخ بالآخرة. هناك عدد من الأمراء، الذين قدموا أنفسهم كشعراء، لكن مات النابغة الذبياني داخلهم فجأة، قد تسألني "ليه وليه وليه وليه" أزعم هذا، اِهدأ، سأخبرك أنهم توجهوا إلى أشياء وأمجاد أشهَى. دكاكين الرياضة مثلا، للرشيقين خصوصا.

الموسيقى تثمر وتعكس الإحساس، على الأقل تدّعي أنها تفعل ذلك بصدق. أين صوت الشعب، أين إحساسه الحقيقي، من يغنّي له، من يملك الكلمة لأن يسطع نجم وأن يخفت آخر، من بين ملايينه في أصقاع الجنوب والشمال، الغربية والشرقية، لماذا كانت بضعة معدودة من تتحكم بفضاء الكلمة المغناة، بانتشار الأغاني والمغنين. دولة كاملة بلا مدارس موسيقى، بلا مسارح، بلا فرق فنية وجماعات، يقتصر الأمر على الموهبة، على صدفة اكتشافها، على مشاق مزاولتها في الملحق والمجالس الخاصة وسناب شات، ومحاربة المجتمع الذي تدار له فعاليات صيفية لتحطيم قطع الفن. المجتمع الذي يقال له بتشدد أن الفن معصية، وسماعه خطيئة تجب التوبة النصوح منها، ويقول بعضه لبعضه، لك إثم من يستمع لها بعدك، بلا نهاية، حتى تحترق في جهنم، الذي يدير أحاديث موضوعة، عن الأسياخ الحارقة في آذان سامعي الأغاني، لا يقتصر الأمر هنا، من يعتقد هذا حول المعازف، يحب قسر الآخرين على رأيه، يسعى جاهدا للتخريب عليهم.

باختصار، لا تنجو الأغنية بسهولة في المجتمع، تُقصر أحيانا على فئة معينة، يتم "تصييعها". امتلاك آلة موسيقية مهمة شاقة، تعلم الألحان والنوتات مهمة أشق، لا يوجد مكان معروف يعلمك أبسط نوتة بالسلم الموسيقي والمقامات، الذي كان بإمكانك تعلمهم بسهولة لو كنت تعيش بالمدينة وبغداد، في صحو القرون الهجرية الأولى. تعلّم الفن، كما لو فكرتَ بتعلم تقنية النانو، طريق صعب وشاق، لا تعرف من أين تبدأ، ولا لمَن تذهب.

كثير من الفنانين تفتح لهم أبواب الدنيا بعد التقرب والغناء في مجالس ومناسبات الأمراء والأثرياء، إنها علاقة لا تنتهي، يتطوّر الأمر ويصبح دبلوماسيا قديرا، ويتبنّى قصائد أبناء الأسر الحاكمة المجاورة. من النادر وجود الفنّان المستقل، الفنان الذي جاء من الشعب، والتزم بموقف الشعب، وغنّى للشعب -يفوز طلال مداح بجائزة البسيط الرقيق هنا في حكايات الشعب- لكن بالغالب، أن تنحت نفسك كفنان خارج هذه المنظومة هو من الصعب بمحلّ، لهذا؛ تجد الكثير من الأصوات الكنوز، تحيا وتموت في يوتيوب، لا توجد قنوات ومؤسسات بالمجتمع، لا توجد حفلات لريع خيري، لا يوجد مطعم مثلا، يعلن عن أن موسيقى الليلة من غناء الفنان الصاعد فلان الفلاني، لا يوجد هذا النوع من البزنس. لا تتحدث عن فلانة الفلاني الآن، يشبه الأمر توافر العنقاء والخل الوفي. المرأة مفعول به في معظم الأغاني، لا قائل ولا فاعل، في نطاق الفن كذلك يستمر مسلسل إخفاء المرأة شكليا ومعنويا، بحرص، باعتناء، باستدامة. مرحبا بك في العربية السعودية للعبايات الراقية: "عيونك لا توريها، لغيري لا توريها"

لقد توقفت مسارح الغناء، لقد مرّ زمن طويل على إقامة مواسم للفن، لا توجد فرق فنية تزور البلاد من شرقها إلى غربها، شمالها إلى جنوبها، لأن هناك فئة متشددة في رأيها حول الغناء، صار يجب على كل الشعب الانصياع، باستثناء شعب الأثرياء. لقد تم أخذ الفن إلى الخارج، إلى الحفلات والعلاقات الخاصة، يجيء المطرب بمبالغ هائلة الآن للغناء في الحفلات الخاصة فقط، صار الفن مخصوصا بالمترفين، صار لبناء الأرصدة، لا للتربيت على القلوب.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل