المحتوى الرئيسى

«رأس بيروت» لزياد كاج.. نوستالجيا الزمان والمكان

11/24 12:44

«المباني الشاهقة والمبنية حديثًا في ڤردان وقريطم ومنطقة «الداون تاون» تشبه إلى حدّ بعيد قاطنيها. ناس يفكرون «إلى فوق»، نحو السماء. هم مثل بناياتهم، تفكيرُهم عمودي، على عكس أبنية وبيوت رأس بيروت القديمة والمتوسطة العمر، فهي أفقية تنظر إلى ما حولها ولا تتشاوف، فأهل رأس بيروت الأصليون، كانوا أناسًا أفقيين، وليسوا فوقيين».

بهذا الإخلاص اللافت أراد الكاتب المقارنة بين بيروت الحقيقية التي كانت «أم الفقير»، بيروت العمال والمنتمين الى الطبقة الوسطى، وبين بيروت المصطنعة التي فقدت روحها وألقها، لتتحول الى غابة من الإسمنت، ومن الناس المختلفين الغرباء، ومن العقول التي ترفض الآخر لمجرد كونه مختلفًا طائفيًا أو طبقيًا.

يلملم زياد كاج ذاكرة العاصمة وأهلها في كتابه الجديد «رأس بيروت، صندوق في بحر، نار على تلة»(]) ويرصد أكثر الأحياء شهرة في العاصمة اللبنانية، هو رأس بيروت الحي العريق الذي كان حضنًا دافئًا، متكئًا على مدار دلالي قوامه جمالية المكان، الذي كتب عنه غاستون باشلار، ولا سيّما كمكان أليف تحنّ إليه الشخصيات، ويُدخِل المتلقي إلى تفاصيله، وعادات ساكنيه وأيامهم ولياليهم.

يخترق كاج بعض التابوهات، ولا سيما المسكوت عنه في الخطاب الطائفي المقيت، وفي السرديات التي تمجّد التعايش اللبناني الطائفي، وعند أبسط منعطف يشحذ اللبناني مديته لذبح جاره وابن منطقته وأهله، متناسيًا كل ما كان بينهما. هو يحسب أن رأس بيروت في زمن محدد لم تنجر إلى هذه الهاوية، فكانت تحصّن نفسها بثقافة إنسانية وطنية «لماذا كنا نحن أبناء رأس بيروت، على اختلاف طوائفنا ومذاهبنا ومشارب أهلنا السياسية، حالةً استثنائية، مقارنة بمجايلينا من أبناء المناطق الأخرى، سواءً في بيروت أو في البلد كله؟ لأنه برغم اندلاع الحرب، أمسكت رأس بيروت بأُذننا حتى الاحمرار، وقالت: هذه الكتب والجرائد لكم.. هذه المكتبات والمراكز الثقافية لكم، وهذه الرموز المتنورة لكم. ولكم دور السينما، لكم المقاهي. ولكم المسارح ودور العبادة. لكم الإيمان دون التعصب، ولكم الحرية دون العهر. لكم ثقافة الشرق والغرب.»

يظهر زمن الحكي، زمن الفتنة الكبرى التي نعيشها «تلفتني شجرة الفتنة أمام بيت أبو بشير! فتنة كانت تهرهر ورودًا عطرة على الرصيف. أما فتنة اليوم تهرهر أجسادًا مقطعة» ومن منظور زمني، هي أزمة الإنسان المعاصر الذي وصل في توحشه المادي والسلوكي إلى مستويات خطيرة.

إذًا، هي حكاية النسيج المجتمعي اللبناني والعربي الذي كانت أحلامه بسيطة، وطائفيته أقل، وتدينه ألطف وأرقى.

الرواية ليست نوستالجيا الى المكان فقط، بل الى الزمان الذي صنع الناس الطيبين الذين كانت تجمعهم مساحة صغيرة على شرفة منزل يتكدسون فيها للسهر، في حالتي الحرب والسلم. قاربها الكاتب عبر لغة غير متكلفة، بمفردات بسيطة متداولة، أفسدت جماليتَها الأخطاءُ النحوية الكثيرة التي تُسْأَل عنها دارُ النشر أيضًا.

يتقاسم الوالد «أبو رياض» وابنه دور الراوي، ليحكي معه حكاية أمكنة حفرت في الوجدان الجمعي لكل من سكنها وعرفها وعاش زمنها. حكاية الأصحاب ومغامراتهم بمحاذاة صخرة الروشة التي يسرِّحُ شعرَها الهواءُ كل صباح ومساء، الصخرة الصامتة، ولكنها الشاهدة على أجيال مرت عليها، وتسلقتها، وقفزت عنها، وهي لا تزال شامخة على الرغم من كل ما مرّ على بيروت من مآسٍ وحروب وويلات. حكاية الآمال التي عاشها، عامر، وأبو رياض وخالد الأبرص، والخواجة ماركار، الجوهرجي المعروف في برج حمود، وشقيقه أوهانس. ويوسف العيتاني. عندما شاهد «عامر» المغامر الشجاع الذي لا يخاف البحر، صندوقًا في قعر البحر، تخيلوا فيه كنزًا، وحلم كلٌّ منهم بتحسين وضعه المادي، وتعاون الجميع على استخراجه، ومن ثم خيبتهم مما وجدوا فيه. عن جيل حوّل الخيبة إلى فرصة للفرح.

يقدّم الراوي نفسه دليلًا سياحيًا اجتماعيًا وتاريخيًا لبيروت في أزمنة متفاوتة، بفائضٍ من الحنين. يروي تاريــخ الجامــعة الأميركية، وكيفية بنائها، وتميز البيئة المتنوعة الذي أسهم في نجاحها وشهرتها».

فعندما شاهد المرسلون الأوائل تلال رأس بيروت الخضراء من على متن سفينتهم، بهَرَهم المشهد الرائع، وقرروا بناء «كلية على التلة» يقال إن رأس بيروت بالنسبة إلى دانيال بلس الرئيس الأول والمؤسس وصحبه من مؤسسي الجامعة، تمثّل تلك الحالة الاستثنائية التي مثلتها أميركا بالنسبة إلى المهاجرين الأوائل. راحوا يجمعون التبرعات ويشترون الأراضي ويبنون الجامعة حجرً حجرًا حتى ارتفع برج الساعة الوحيد في المنطقة سنة 1874».

في نهاية الرواية، يفاجئنا الكاتب بنهاية غير نمطية، حيث يموت الراوي، ولكنه لا يعلم أنه انتقل إلى عالم آخر، فيسرد لحظات تجهيزه للانتقال إلى المكان الأخير، يصف جنازته، ومشاعر أهله ورفاقه، وجيرانه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل