المحتوى الرئيسى

جوزيف عيساوي عقلانيّ الكتابة.. مناكف اللاهوت بناسوت الجسد وذاكرته

11/24 12:44

منذ أن التقينا، أنا وجوزيف عيساوي، أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، في غرفة سليمة من منزل متهدّم، لنتداول في مجلة «الأخير أولا» التي اهتمّ بإصدارها وساهمتُ بدوري في أعدادها، لم يحدث أن كتبتُ عن شعره، أو قدّمتُ الزمالة الثقافية، وسطَ رماديّة الثمانينيات وما بدا لنا شللا في الحياة الثقافية، على المساهمة الشعرية أو الترجمة، أو الإضاءة على الجديد في النقد الذي يغني النظرة الى الشعر. الآن أتحدّث عن مجموعته الأخيرة «ميت سكران يطلب المزيد»، بعد أربع مجموعات شعرية له. قصائد المنزل، على سرير ينكسر، شاي لوقاحة الشاعر، والقديس× هي على التوالي:

في كتابه الأخير، «ميت سكران يطلب المزيد» يبدو الشاعر أقلّ عدمية مما كان عليه في كتابه الأخير «القديس ×»، وأكثر انتباها لكائنات العالم وأشخاص الذاكرة القريبة، التي لا تزال تحمل أثرا من ذاته، هذه الواقفة المتهيّئة دومًا للردّ على ما يهدد نرجسيّته غير العدوانية. فيما كان شاعرنا، في كتابه السابق، الصادر قبل ثماني سنوات، ينشد نشيد «العدم» واليأس، ناقما على الإله الذي ابتعد عنه، تاركا إياه لصمت الموتى:

إذاً، في المجموعة الأخيرة، ينظُمُ الشاعر عالمه، أشخاصه الأثيرين الذين استودعهم، على ما أشرنا، بعضا من طفولته، فتوّته، صباه، شبابه (خالتي ماري، أمّ، طباختي جورجيت، عبده لبكي، يوسف حبشي الأشقر..)، ليعود ويكوكبه حول النقطة الغنائية المضيئة، بل المشعّة بالحبّ، في قصيدة «أمي يا ملاكي»، رغم الالتفات الدلالي الذي يجريه الشاعر متمنّيا لو كانت «أمهاتنا/ وقد دُرّبن / فاستسلمن لأعضاء النبات التناسلية..» (ص:21-22) وهو حين يصف ثديي أمّه المرضعين، يبقيهما، في الشعر، وفي «مخيّلة /الطفل / وخياله الشاعر «، ثديين مصابين بدمّل الترمّل، و «تأبيان التحليق.. جناحي ملاك». ويأبى الشاعر، على ما يقول، رفع صورة الأمّ المادية الى مقامٍ غير مادّي، ماورائي، ربما لأنّ في ذلك الرفع إعلانا لانقطاع العلاقة بين الكائن الحيّ، أو الشاعر - الابن، وبين الكائن الميت، أو الأم.

أما الاستعراضية الجنسانية التي تَسم قسما من قصائد المجموعة (الحكايا الزانية، منيّ أرعن، النهد المتّسخ، صفعات الردفين، أجسادنا تتذكّر، حشرات العانة، جدّان عاريان) فإن دلّت فعلى نِظرة ثقافية الى علاقة الشاعر بالجسد، جسده، واعتباره موضوعا للتأمل الشعري بامتياز، بما يتجاوز المحظور والمعيب والمحجوب، وبما يكشف عن مطاوي الرغبة وحدوثها الحقيقي وحكاية تدوينها، صوَرًا ومشاهد مقتطفة، إيروتيكية نعم، والشعر فيها يبقيها أرقى من أن تسِفّ فتُقرأ بصوَرها واقتضابها وإيحاءاتها لما وراء الجسد.

وههنا يمكن الحديث عن فنّية العري لدى عيساوي، متناسقة مع فنّية القصيدة القائمة على الاقتضاب، والانتقائية المعجمية، والسطور الشعرية المتدافعة، الحاملة صوَرَ الفتنة المتهالكة، والجنس المضمّخ بالموت («بطنُكِ .../تشدّني / حتّى أشمّها / رائحة موت / ترعشني») (ص: 50-51). بيد أنّ لفنّية العري هذه وظيفة أخرى، تتمثّل برأينا في تكوين زاوية النظر العيساوية، الصّادمة على سمت السوريالية ودعوتها الى إعلاء الفضيحة واستثمار اللاوعي ورفع النقاب عن الجنس بلا وجل، والعمل على مقارعة القوى الغيبية وتعييرها بسبب مصائر البشر ومصائبهم. كما لو أنّ راية للنضال في سبيل هذه القضايا والأفكار لا تزال خفّاقة الجوانب، تتقدّم الشاعر ـ المناضل والسوريالي في معاركه اليومية، عنيتُ قصائده اليومية أو ذات الهموم المعيشة مطعّمة بتصاوير منتقاة ولغة مؤسلبة.

أما معارك جوزيف عيساوي مع الله وملائكته فلها طَعمٌ ومعنى آخران؛ أولهما شعورٌ بخذلان السماء وآلهتها إياه بموت الأمّ، بالموت، ويتجلّى ذلك في قصائد (قهوة للميت، بساط الروح، ابن السادسة مارّا بمأتم، يوسف حبشي الأشقر، آلهة شكّاكة، قطنٌ في سرّتي) تنضح بالأسى الشديد من هلامية المقدّس وهشاشته أحيانا. وثانيهما سعيٌ واضح لنزع ذلك المقدّس وإلباسه الجسم البشريّ «المائت»، مع إيثار خفر لآلهة غير مقدّسة، لا لشيء إلا للتنكيد على الإله الأول وتحميله وزر الأسى الوجودي الذي ضاق الشاعر به.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل