المحتوى الرئيسى

«كلاب الراعي» .. قطيع لا يعرف أوله مصير آخره!

11/22 13:02

الثورة لا تنجح حين تأتي بحاكم قوي فحسب .. بل عادل

محمد علي انقلب على معاونيه وتصرف كالمماليك

“آن للبلد أن يستقر” شعار برّاق يرفعه الطامعون في الحكم

أخطاء الماضي تتكرر بحذافيرها ولا أحد يعي التاريخ

“يا ولدى انتم تثورون على ظالم لتأتوا بأشد منه ظلماً، لا تراهنوا على القوى فقط، وإنما اختاروا العادل الذي يراهن علينا نحن المستضعفين’‘

هكذا كان يتحدث محمد علي إلى أحد مساعديه عن مصر، محمد علي الذي تمنع في البداية عن الحكم، وما أن اعتلى العرش حتى قام بتثبيت حكمه ، بشتى الوسائل التي لا تختلف كثيرا عن وسائل المماليك وكأن المعارضة تتصرف نفس تصرفات الحاكم حين تعتلي سدة الحكم، ولنتبين بعد ذلك أنه لم يكن ذلك العادل الذي أنقذ المستضعفين.

عن أحوال الرعية وعلاقتها بالحاكم، تدور أحداث رواية “كلاب الراعي” الصادرة مؤخراً عن الدار المصرية اللبنانية للكاتب أشرف العشماوي، لتحكي عن فترة مظلمة ومنسية من تاريخ مصر الحديث ما بين جلاء الحملة الفرنسية عام 1801 وحتى تولى محمد على حكم المحروسة عام 1805، حيث كان المماليك يترنحون تحت وطأة ثورة القاهرة الأولى وضعف الدولة العثمانية وظهور نجم محمد على بقوة، ما دار خلال تلك الفترة العصيبة من مؤامرات داخل أروقة القلعة وقصور حكام المماليك ودواوين الحكم في أجواء متصارعة وسريعة.

اﻷحداث ساخنة بطلاها الأخوين غير الشقيقين كمال سيف الدولة نائب محتسب القاهرة والمسئول عن حفظ الأمن والنظام، والمهادن والموالى لكل سلطة من حكام المماليك وسلاطين الأتراك للحفاظ على منصبه، والأخ الأكبر الحسن جمال الدين الرومى كاتب الديوان، المغامر، والفارس الشجاع الموالى لمحمد على والذي أنهك جيوش المماليك وعساكرهم من جراء متابعته وملاحقته بالقاهرة والجيزة والمنيا وصحراء أسيوط.

تتحدث الرواية عن أجواء ذلك العصر وثيابه وعاداته وتقاليده وصور الحياة اليومية، والحروب التي كانت تدور في شوارع القاهرة وحواريها بين المماليك والمصريين، ودور الأقباط في الحفاظ على الهوية المصرية ومقاتلتهم العدو جنبًا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين، كما تبرز الرواية الدور السياسي الذي لعبه القناصل الأجانب طوال سنوات الفوضى الثلاث السابقة على تولى محمد على عرش مصر، وكيف كانوا يتدخلون في الحكم من وراء الستار أحيانًا ومن أمامه في أغلب الأحيان.

“ضغط الإنجليز والفرنسيس سوياً على الباب العالي لتعيين وال جديد من بكوات المماليك، فصدر فرمان تركي بتولي عثمان بك البرديسي مؤقتاً منصب قائمقام مصر، على أن يكون نائبه محمد اﻷلفي بك، الذي كان قد وصل إلى الإسكندرية على متن بارجة إنجليزية في حماية أربعة آلاف جندي وُضعوا تحت إمرته مع بقية رجاله من فرسان المماليك الذين راحوا يهنئون بعضهم”.

ويجد القارئ كيف أن التاريخ يعيد نفسه لدرجة التطابق بصورة مذهلة مع حاضرنا الذي نحياه، لنكتشف أننا جميعًا نكرر أخطاء الماضي، ولا نتعلم أبدًا من دروس التاريخ.

الدائرة تدور وتشمل، كل من الألفى باشا وخسرو باشا والبرديسى بك والباب العالى ومحمد على باشا والقنصل الإنجليزى والفرنسي وقنصل النمسا، حيث تتوالى المؤامرات.

يصفه العشماوي قائلاً في الرواية: “عمره اﻵن يقترب من الثلاثين ولم يتزوج بعد، ترك وظيفته ككاتب أول في ديوان القلعة بوشاية من أحد بكوات المماليك ليحل محله قريب هذا البك، وخذله وقتها أخوه كمال كعادته فصار عاطلاً ولكنه يدون  تاريخ المحروسة في مخطوطة ضخمة يوماً بيوم، تعرّف بعد ذلك على المُعلم جرجس الجوهري، واقترب منه عندما كلفه بنسخ بعض المخطوطات، فأحسن عمله حتى اكتسب ثقته، فضمه إلى صفوف رجاله وراح يقاوم الحملة الفرنسية في الخفاء، بينما كان جرجس يودهم في العلن ويلتقي بعلمائهم ويستقي خبراتهم وفقاً لتخطيط مُحكم من محمد علي”.

جعل العشماوي بطل روايته يبدو كبطل شعبي، ليظهر لنا “الشاطر حسن” وهو الحسن بن جمال الدين الرومى، الذي قاتل جنباً إلى جنب مع محمد علي وحارب المماليك، ومهد لحكم محمد علي لكن ينتهي به الحال بعد تولي محمد علي الحكم فى سجن العرقانة، فى مكان مظلم دون محاكمة ولأجل غير مسمى، دون أن يتزوج من المرأة الوحيدة التى أحبها ‘’نورسين ‘’.

يتذكر حسن كيف التصق به المعلم جرجس ومساعده يعقوب وتابعوهم من اﻷقباط، فقد وجدوا ضالتهم فيه بعدما كرههم المسلمون وصاروا يبتربصون بهم ويتصيدون أخطائهم، ووجدها المماليك فرصة مواتية لعقابهم فنتفوا حواجبهم وألزموهم بعمامة سوداء تميزهم فزادوهم اضطهاداً.

“كمال والحسن” هما ضدين، لكن العلاقة بينهما متصلة وكأن كل منهما يحافظ على حياة اﻵخر،  فلولا تواجد المماليك بسطوتهم التى يمثلها كمال، لما تواجد الحسن لمواجهتها، ومحاولة كشف الحقيقة، ولولا وجود الحسن ‘’الثورى الذى يخرج عن القطيع’’ لما تواجد كمال الذى يحاول دوما أن يعزز أركان سطوته، ويضرب بيد من حديد، ورغم أن كلاهما كان يمثل تهديدا للآخر، إلا أن كلاهما كان يحرص على بقاء اﻵخر، ربما لشعورهم بارتباط حياتهما معاً. و”ناجي” ابن كمال يرتبط بعمه “الحسن” كثيراً حتى أنه يصحبه في نشاطه الثوري.

هناك لزمات أو تفاصيل شغلنا بها العشماوي طوال الرواية، مثل ما قالته العرافة “حليمة” أن الذي يوشك على الموت تختفي خطوط كفه اليسرى، وﻷن كمال المتجبر كان يشعر دوماً أن هناك مؤامرات تُحاك ضده، وأن القتل والوشايات هما سمة عصر المماليك، دائماً ما كان يتفحص خطوط كفه اليسرى للإطمئنان على حياته.

يذكر الحسن لقاؤه اﻷول مع محمد علي في ذات العام الذي رحل فيه الفرنسيس، وكيف أعجب به وقتها لحد الانبهار، وشعر أنه أمام داهية حقيقي في السياسة والحرب، كان محمد علي يقاتل الفرنسيس في العلن، ويُغير على ثكنات المماليك خفية في آن واحد قائلاً جملته الشهيرة: “بلد لديه خير كثير كامن في أرضه ولكن ينقصه اﻷخيار من أهله ليحكموه”. أعجبت  العبارة “الشاطر حسن” فدونها في مخطوطته ليذكر بها محمد علي إذا ما حرر المحروسة من المماليك.

سأل الحسن محمد علي ذات يوم وصارحه بهواجسه قائلاً: “لم أرَ شخصاً يحب مصر ويحرص على مصالحها أكثر من أهلها مثلك، لكنني لا أفهم تحالفك مع بعض البكوات من المماليك ضد غيرهم؟! مع أن جميعهم لا أمان لهم؟!.

يرد محمد علي قائلاً: “صراعات المماليك على الحكم واعتقادهم بأن المصريين مجرد حفاة عراة سيستجيبون ﻷي حاكم ما دام يطعمهم ويكسوهم، فيقدسونه ويخافون منه، هو ما سيعجّل بنهايتهم، فأنتم مثل بركان خامل، ولكن عند ثورته يحرق كل شئ، وهم لم يدركوا بعد طبيعتكم المتقلبة”.

ويتذكر كيف كان يرى محمد علي أهرام الجيزة مجرد كومة من الحجارة، وتمنى هدمها لاستغلالها في بناء جسور على النيل..وقتها صُدم من رأيه ولم يعجبه فعارضه بشدة قائلاً: “أتريد أن تهدم هرماً لتبني سدوداً؟!” فأجابه محمد علي ببرود: أنت ترى أن هذه اﻷهرام أعظم إنجازاتكم، ومع ذلك هل تعلم أنها بُنيت خوفاً وقسراً، وفي النهاية لم تكن إلا مقبرة كبيرة لتخليد الفرعون؟!، فلا فائدة عادت عليكم على الإطلاق، ولا نهضة تحققت لكم.

ورغم ما كان يقوله محمد علي كاشفاً شخصيته إلا أن المصريين لم يفهموا، فمثلاً حين تحدث عموم المصريين عن خوفهم من عثمان بك البرديسي وأمراء المماليك اﻵخرين التابعين لغريمه اﻷلفي بك، وأنهم قوم خربو الذمم لا عهد لهم، ولا يهمهم إلا مصالحهم الخاصة، يرد محمد علي بنبرة أسد في عنفوانه: “أنتم شعب طيب، يصبر كثيراً على حكامه، ولكنه عندما يثور يقتلع اليابس قبل اﻷخضر، سنتظاهر بمناصرة البرديسي بك ومماليكه ونقاتل اﻷلفي بك ورجاله لنتخلص منه في طريقنا ﻷنه اﻷخطر، ثم بعدها نعيد خسرو باشا لحكم مصر مرة أخرى!.

وسنعلن يومها للمصريين من البسطاء أن خسرو باشا هو الحاكم الشرعي وأن أي محاولة لخلعه بالقوة ستكون ضد إرادة الله، وبعدها نترك الحبل على غاربه لغيرنا لخلعه ﻷنه خالف شريعتكم وسفك الدماء ولم يرفع الظلم، ولن نتدخل لصالحه، وسنتركهم ينشغلون بفشله، بينما نختار نحن من يصلح راعياً ليحل محله. مضيفاً:  لو كان صف القطيع اﻷول يُدرك مصيره، لما توالت عليه باقي الصفوف حتى استحال على بصرك إدراك آخرها، لا تنس أن المصريين يضعون عقولهم بين ضلوعهم”.

التفصيلة الأخرى التي تكررت عبر الرواية ‘’آن لهذا البلد أن يستقر’‘والتي باتت مفتاحا لكل المؤامرات السياسية، بزعم الاستقرار، يقول محمد علي: “عرش المحروسة اﻵن صار هشاً، ولن تقوم له قائمة إلا بجيش قوي يحميه، ومصريين مخلصين ينهضون به من عثرته..آن اﻷوان لهذا البلد أن يستقر”.

تختتم الرواية بمذبحة المماليك، وبعد أن كانت العلاقة بين محمد علي والشاطر سن علاقة حب وود، أصبح “حسن” يخشى محمد علي وينتقد تصرفاته بعد اعتلاؤه سدة الحكم، فقد نفى عمر أفندي مكرم إلى دمياط، وصار المُعلم جرجس لا يُبارح داره بالصعيد إلا بإذنه.

كان الشاطر حسن يحاول أن يثني محمد علي عن إبادة المماليك قبل المذبحة، ليؤكد له محمد علي أنه لم يعد لديه بديل سوى الخلاص منهم،قائلاً: “لن أتفرغ سنوات لمحاربتهم أو محايلتهم، بينما اﻷمر لا يستغرق مني سوى يوم بليلة فقط”.

حينها يجيبه حسن بقوله: هذا ما تظنه يا مولانا، لكنها ليلة بألف ليلة سوداء من بعدها، سيأكل الناس بعضهم، سيسود منطق القوة الغاشمة ويتفشى الغدر بيننا، سيعلو صوت المنافقين والمتحذلقين وما أكثرهم، ولن يلتف حولك منصف أو عاقل، سيتركون مواقعهم للجهلاء، سيصيبهم السعار جميعاً ويتاجرون بالاستقرار المنشود وستُرتكب أكبر الجرائم باسمه، لا تشغل بالك بهذا القطيع الذي يسير وراءك متظاهراً بمناصرتك لكنه يهتف لمصالحه همساً فلا تسمعه، فكل دار بالمحروسة بها واحد أو أكثر منهم يعيشون معنا في سلام”.

لكن منطق محمد علي كان مخالفاً، فهؤلاء الذين تحسبهم زاهدين - يقصد المماليك وأمرائهم - يتحينون الفرصة للانقضاض على القلعة في أي وقت مثلهم مثل كلاب الراعي يسيل لعابها طمعاً في الشاة التي ذبحها أمامهم وكانوا قبلها بقليل يتظاهرون بحراستها بنباحهم المتواصل.

ويضيف ليقنع الحسن: هذا بلد يريد أهله الاستقرار يريدون الطعام والمأوى، كفانا ثورات فلن أسمح بها مرة ثالثة، وأعفى محمد علي الشاطر حسن أحد أخلص رجاله من منصبه في ديوان القلعة، وطلب من كبير البصاصين ألا يغادر داره من اليوم!.

هذا الواقع المجنون هو الذي دفع حسن أن يقول: واقعنا اﻵن بات أشبه بسفاح مجنون يقتل أرواحنا ببطء ويئد أفكارنا تباعاً، ليرقص بعدها طرباً على أشلائنا.

بعد المذبحة بليلة ونصف تحكي الرواية كيف نزل محمد علي وابناه طوسون وإبراهيم وبصحبتهم رجال من اﻷرناؤوط، لم يتركوا مملوكا إلا ودقوا عنقه، كما اقتحموا دار الحسن وأطاحوا برأس أخيه كمال أمام ابنه ناجي، لينتهي المطاف بالشاطر حسن في سجن العرقانة، بلا محاكمة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل