المحتوى الرئيسى

فيروز في مهرجانات بعلبك صوتها وحده خالق الوهم المنتصر على السياسة والجمهور

11/21 03:27

دراما ملحمية أم أوبريت. أم لحظة وجودية مكثفة لم يحسن التأليف صياغتها لأن التأليف استبدل بالتوليف. وان لم يقلل هذا من قيمة اللقاء بفيروز.

بقي الرحابنة مددا طويلة يبحثون عن منصة تجمع بين الواقع والسحر. اقاموا مثلها، حين حولوا الاوهام الى سحر مزغول بالايديولوجيا. وهي طوباوية، لا تنحاز الى أية جماعة لبنانية. حيازتها أبقتها نقطة لقاء بين جميع اللبنانيين، حتى في اقسى لحظات احترابهم. البعض هاله ذلك، معتبرا ان مثل هذا اللقاء حول كلام غير موثق عن المحبة، سوف تدور عجلاته على إعادة التأسيس لحرب أهلية أخرى. باعتبار أن المطلوب اعادة قراءة مرحلة الحرب بعيون نقدية، لأن قراءتها وحدها كفيلة بعدم تجددها وليس البرطمة السريعة حولها، تلك التي لا تفضي إلا الى استعادة الاشياء بهياكلها المحترقة.

بعلبك احتضنت فيروز بعد اكثر من عشرين عاما من الانقطاع. لقد أعاد حضور السيدة المذخرة بالصوت أسئلة قديمة متجددة حول معنى المسرح الرحباني أولا، وحول حضور هذا المسرح ثانيا. مسرح حقيقي او غير حقيقي يقوم على نثار ذكريات ماضية مشغولة بدأب اقامة اللغة في طروحات سلطة لم تفعل سوى مركزة حضورها في نقاط ضيقة وعلى حساب كل الافرقاء. الحشد في بعلبك ليس لبنان، ثم انه ليس عينة تمثيلية للشعب اللبناني، اختيرت من ضروب وجذور واصناف مختلفة، لكي يمارس عليها الصوت اختبارات استعادة الحياة بالمادة القديمة.

الصوت مادة قديمة تتجدد، الطلة ايقونية لا شك بذلك. غير أن الاهمية الاستثنائية للصوت تسمح مرة أخرى بطرح أولوية الحضور فوق المنصة الرحبانية. فيروز أولا أم المسرح. الاغنية أولا ام قصص وحكايات والحان عاصي الرحباني.

الاجابة السريعة عن مثل هذه الأسئلة تفتت عناصر الحلم الرحباني الى مطرح عريض تلعب فوقه كافة ادوات العرض المسرحية وأي اغنية. الأخيرة احتلت صدارة الترتيب دائما. لقد قام كلام مضاد حاول ان يخفف من قيمة الاغنية فوق المسرح، من دون التقليل من معياريتها الفنية. إلا ان ذلك لم ينجح بتاتا، حتى غادرت الفرق الراقصة (كركلا مثلا).. المسرح الرحباني واكتفي من جراء ذلك ببعض الراقصين والراقصات. وبقي الممثلون يحتجون من دون جدوى على حدود ادوارهم الهامشية. الموسيقى والاغنية هما الاساسيان بهذا المعنى. بقيا دائما هكذا. اما الكلام على أوبريت لا تشبه الأوبريت العربية، فقد بقي كلاما يحتاج الى ادلة حقيقية. ثم ان المقارنة لم تمثل لصالح التجربة الرحبانية لدى مقارنتها ب»العشرة الطيبة« او »قنصل الوز« لسيد درويش. هذا على الصعيد التشكيلي. اما على الصعيد الغنائي، فبين المرحلة الرحبانية والمرحلة الذهبية في الموسيقى العربية، التي استلهمها الرحابنة بذكاء كما استلهموا الى جانبها اطرافا من الموسيقى الاجنبية، ولطالما حدث تطور في الموسيقى العالمية، حدث تطور في الموسيقى الرحبانية التي بنت حضورها على جدول أولويات في مقدمه العمل على المازورة الطويلة في الاغنية العربية بحيث جرى تقصيرها وارسال الاغنية في نوع من النثر الموسيقي الذي لا يخشى الخروج على الايقاعية الكلاسيكية وان بقي في إطار الضبط المشدود الى داخلياته الموقعة، بشراكة مع شعر مسدول غالبا ما ترك فراغات حقيقية لاقتراحات الموسيقى وارتجالاتها. شكل الرحابنة إنجازا، على صعيد بناء مسرح لا شكل مرجعيا له في المسرح العربي والعالمي.

لست بصدد العودة الى تأثر المسرح العربي (المصري تحديدا) بكلاسيكيات فرنسية (الكوميدي فرانسيز) وبعض الأوبراتيتات (كارزو) وببعض المسرحيات الايطالية، وبناء الأوبريت العربية على فسيفساء استخدمت الابنية هذه والقليل من الفودفيل مع عزيز عيد. ولست بصدد الكلام على مناخ حاضن حامل، من الحركة الوطنية المصرية، لكافة النتاجات المسرحية والغنائية (طلب سعد زغلول مثلا الكتابة بالعامية وليس بالفصحى...). جل ما احاوله هنا، التأكيد على دور الاغنية كرأس حربة في مسرح الرحابنة الذي يرصفه منصور في خانة الأوبريت الانغلوساكسونية. الوحدة الواقعية الوحيدة في مسرح الرحابنة هي الاغنية، بوصفها مدماكا رافعا في منصة حولت الخيال الى واقع والواقع الى خيال، حتى قيل ان الوطن اللبناني موجود في مسرحيات الرحابنة أكثر.

اغنية فيروز وجدت وضوحها فوق، في مساحة المهرجانات. بدت وحيدة وقادرة على رفع بيرق الوحدة والقوة، حين كان الياس الرحباني يقود اوركسترا صغيرة بطريقة وهمية وفي انشغال منصور الرحباني ب»آخر ايام سقراط« وبحضور مخرج اجنبي هو دانييالي ابادو، الذي محض الاغنية حضورها عبر المطربة بفروق فهم اللغة، ما شكل انزياحا عن مفهوم بناء يحضن المقاطع التذكارية بجديد، وبفهم حدود اللعبة في مثل هذه الالعاب غير البلاغية. لفيروز الطلة الاولى، الصوت الاول، الحضور الاول، الغلبة على كل من عداها من دون صوت او مجهود طالما ان الاغنيات هي اغنيات مسجلة لم تؤد واحدة منها بطريقة حية، حتى الاغنيات الجديدة. مجد الاغنية أعطي لها.

بدا حضور فيروز واغنيتها دفاعا عن ذاكرة عريضة قديمة وتلمسا لموقع جديد في حدود جديدة. فالصوت في الهواء الطلق، ليس هو نفسه في الاستديوهات، حيث تلعب التقنية المتطورة دورا هائلا في اعادة تربيته في فضائه الجديد وفي تسوية حضورها ونفخ قواه الذاتية الى ما هو ابعد من هذه القوى نفسها. آبادو الاضعف، مئة في المئة، وسط نظام العرض والاستعراض الجديدين. صوته بقي قاصرا ومغلقا على الطلب من الصوت ان يذهب أبعد وان يحيي حضوره بحياته الخاصة الجديدة وليس بذاكرته وتسجيلاته. ترك المخرج سحر الصوت المخبوء في القلب الثمين يثمن نفسه بنفسه، تركه سيدا حرا مستقلا، في وضعيات متدرجة بتجل حاجته وتبجله في آن. ذلك ان فيروز في طلتها الاولى في ثوبها الأبيض، استبقت عيد انتقال السيدة العذراء، بالتمهيد للعيد. طلة عذراء عند نهايات القرن العشرين. هكذا بدا الافلات من حضورها لصالح المجموعات او النجوم الآخرين مهمة مستحيلة. فحيثما تحل، يحل الضوء الدائري عليها (سبوت). عملية تبقيع ضوئية مستمرة لحقت فيروز فوق احجار القلعة المتدرجة كصوتها. ليس هذا فقط، بل ان وقوفها في الامكنة التي استقرت فوقها لأوقات، بدا محسوبا على مزاج السيدة وموقعها في الحياة وليس في المسرحية. انها اكبر من مسرحية واكبر من اغنية لم تبذل لأجلها طاقات هي بأمس الحاجة إليها. مع ذلك احتفظت الاغنية بتأثيراتها القديمة على الناس وانطوى على المسرح نفسه في مثل هذه الموضوعة. فالمسرح ثانوي في »الليالي اللبنانية«، حجة، لذلك كان المسرح الرحباني لصوت فيروز في ما مضى ولأغنيتها اليوم. المسرح مساحة انتقال وتناقل في مناخات المقاطع المختارة من مسرحيات »جسر القمر« و»جبال الصوان« و»ناطورة المفاتيح«. ثلاثة مقاطع عليها ان تضع الاجيال الجديدة في انجازات الرحابنة في المسرح. حدث ذلك اكثر مع الكبار الذين اهترأت ايديهم وهم يصفقون للكلام المرصع بالموسيقى القديمة. كل كلمة لها معناها لدى الحشود، وخصوصا السلام. هؤلاء الذين لم يتنبهوا كثيرا الى تلميحات وايحاءات رحبانية موجودة في الاختيارات الغنائية وفي الحوارات: موقف من السلطة وموقف من معارضة الخارج (الاصل في الداخل، تقول فيروز). وحين تنحرف فيروز بصوتها الى معارضة السلطة والمعارضة، فإن هذا لا يحسب عرضا. بفضل قدرتها على تحويل معارضتها الجديدة الى حدث جديد، ساحر ولكنه وهمي كما هو وهمي الذي بناه الرحابنة وزينوه بالاقوال والمآثر والرقصات الشعبية.

وقع ابادو في المباشرة والترجمة، مع حضور هذه الاشارات الكبرى. فالضوء الانعكاسي على الشاشات البيضاء لم يهدأ وهو يرسم نقاط ماء كلما غنت فيروز لوفاق او هدنة بين متنازعين كما في »جسر القمر«. ولم يهدأ وهو يرسم نارا متأججة وهي تشير الى اقتراب موعد استحقاق او حرب. بعض الذين حضروا الحفل البعلبكي الاخير ظنوا ان السيدة تنذر بحرب مقبلة من النزعة الايمائية غير الراكدة بصوتها. واحسب بأن البعض ذهب الى توضيب حقائب السفر من جديد، من قوة الصوت في الاغنيات القديمة واختلافه قليلا في الجديدة وعن كبر حجم صوت الآلات الموسيقية عن حجم اصواتها الحقيقية ولا عن الدور الايمائي اللاهث الذي لعبته الاوركسترا الرخامية.

كل عناصر المسرح لصالح السيدة فيروز. وهذا حق من حقوقها. الا انه يؤكد ما نفاه نفر دائما من ان المسرح الرحباني اقيم على حجة الصوت وقدرة الصوت على آذان العاشقين والعاشقات وعلى آذان المعارضين.

هنا بالذات انتصر المنطق الرحباني مرة جديدة علينا، نحن الذين اعتبرناه جزءا من اسباب اندلاع الحرب في إخفاء المعاضل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لصالح الفرجة والهرجة والطرب. قوضت الاغنية القديمة احلاما جديدة لمرة اخرى. اغنية فيروز هي الأقوى. وهي لا تزال الأقوى. وما طرحه الرحابنة في ازمنة بعيدة، لا يزال صالحا حتى اليوم لليوم. ما عنى ان لا شيء تغير، وان الامور سائرة تحت سطوة الطبيعة اللبنانية، من دون اي تبدل او تغير. وان سنوات الحرب لم تكن الا استراحة بلدية، لم تلبث البلاد ان تخطتها عبر صوت فيروز الى تسجيلات الصوت. سقط منطق يساري متقدم وآخر يميني اصلاحي في حفل بعلبك. الهزيمة هزيمتان هنا. هزيمة للشهداء والشهادة. وهزيمة للمقياس الفني الذي أتاح للاغنيات القديمة ان تنتصر على ازمنة الكبر والادلجة والسياسة اليومية. كل ذلك حدث ذات يوم، بالصدفة المحضة. هذا هو عنوان عودة اغنية فيروز الى بعلبك. لذلك لم يعد مهما ان نتحدث عن ركاكة الأعمدة النحاسية المرفوعة فوق الادراج ولا عن السينوغرافيا والرقص او القيمة الفعلية لنقاوة الصوت في التسجيلات... القديمة. ولم يعد مهما ان نرصد تأثرنا في الفيلم الصغير (التحية) لعاصي ومنصور ونصري شمس الدين وفيلمون وهبي. وان نعلن اختلاف طلة انطوان كرباج عن طلاته الاخيرة الضعيفة مذكرا بواحد من أفضل أدواره في »الملك يموت«. ولا عن حميمية ايلي شويري ولا عن كافة الادوات المسرحية الاخرى.

سقطت السياسة كلها في بعلبك، بصوت اسطوري. وأكاد اتخيل كيف لو ان الامر جرى مع صوت اسطوري في أداء حي. واذ سقطت السياسة فقد سبقها المسرح، الذي أخضع لحظاته لألوان عارية وألوان الراقصين الكثر والممثلين. عدد كبير لم يعن سوى انتظار فيروز وهي تخترقه دائما بوضعياتها المعروفة. لم يعن العدد سوى فيروز. ولم تعن الاوركسترا سوى انتظار صوت فيروز. ولم تعن التشكيلات السميترية سوى مرور فيروز في مسالكها بانتظار ان تنطق او تشدو. سقطت حجة المسرحية تماما، بعيدا عن اغنية فيروز البطلة وطلة فيروز الايقونية الاسطورة.

لو جئنا بمخرج لبناني لكان غير ولم يقلب. فكلما شاهدناه جهز للعرض قبل العرض: من المسرحيات القديمة ومن ما تطرحه الاغنيات. انتصر الموقف الرحباني القديم في التوليفة الجديدة: دعاوى الطوباوية مستمرة (يقتتل فريقان فتدعو فيروز الى عودتهما الى المحبة والوئام فيفعلان). وانتصر الميتافيزيق. ولم يبق من وقائع الحقيقة سوى صوت منصور في »جبال الصوان«: »روحوا حليتكم مني«. مات مدلج عند بوابة الانتصار. انتظر عشرات السنوات لكي يعود بعودة زاد الخير. مسح ذلك ازماننا بالتبسيط وأسقط تفاصيل وحقائق ووقائع حول السلطة والدولة والبنى والدمج الاجتماعي. كل ما هنا يختزل ما هناك. السلطة هي كذا، والشعب هو كذا. شريحتان تغيب وسطيات ووسائط ولبنات وتجديدات ونكسات وحروبا وهزائم. طموح متحقق برغم الكثير من المآخذ التي يتوجب ذكرها من قبل اصحاب العرض انفسهم وخصوصا منصور الذي يريد بناء البلد »متل ما بدي« والذي أخفى مانيفسته هذا بعد لحظات بأغنية عشق وهيام.

من حسنات العرض الكولاجي انه تعليمي. عرض يعبر ثقافيا عن مرحلة بأسرها هي مرحلة ما قبل الحرب الاهلية اللبنانية وتوجهها الى اصطراع القوى والطبقات تحت سطح لبنان الزاهي المزدهر في ذلك الحين وبيارقه الرأسمالية. حدث انقلاب غير معروف هناك (قد يكون مؤجلا لمرحلة اخرى؟). القطبية الرحبانية، لا تزال مؤثرة وقادرة ومهيمنة على ناس التعب والشقاء في جمهورية غاب عددها عنا. فلا هي الأولى ولا هي الرابعة. فماذا تكون؟

الحدث المسرحي في بعلبك، على الرغم من المسافة النقدية منه، جسد هذا كله. لم يقلل هذا من قيمة العرض، لأن صوت فيروز هو العرض. الفلكلور: حتى القرى البعيدة تأنف منه. الصوت القديم والتقنية الجديدة، يبدو هذا حلا مرضيا لجميع مَن صفق في الليلة البعلبكية، قافزا فوق اعتبار مجنون: التواطؤ بين الصوت في آلة التسجيل والجمهور، هو تواطؤ على ايديولوجيا ميتة. لا جديد في الراهن. فالصوت الرحباني في أقصاه، عند لحظات الانتاج في يومياته الحارقة، استمر إصلاحيا. لن يغادر الاصلاح بعد. المطلب أقل تجاهه في هذه الآونة، ليكن التقليدي حيا لكي نصفق بالشرايين بدل الأكف.

(دراما ملحمية أم أوبريت؟ بل لحظة وجودية مكثفة. عشرون سنة الى الوراء. بهذا يمكن اختصار الليالي اللبناني الجديدة. او محاولة اقتراب من منظور حكمي قديم.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل