المحتوى الرئيسى

عن حلوةٍ تغزل بمغزالها

11/21 03:27

«لم يكن وصلك إلا حلماً في الكَرى، أو خِلسة المختلِسِ(&)»

وجدتُ في مكانٍ ما على الانترنت صورة بالأسود والأبيض لإمرأة بوزرة مطبخ وغرّة مرخاة على الجبين. كانت تقف على غاز صغير بثلاث عيون، عليه علبة ثقاب وركاوي قهوة، تغلي ركوتها وتتذوقها بملعقة معدنية. يد تمسك بالملعقة ويد تمسك بيد الركوة. الصورة ملتقطة من زاوية عالية. نكاد لا نرى وجه المرأة. هويّتها في الصورة يداها. المرأة يعرفها الجميع باسم «فيروز». سمّيتُ صورتها «الحياة الخاصّة لليدين» أو «فيروز تصنع القهوة». أن تُصنَع القهوة فعل عادي جداً، لا يستدعي التوقّف عنده. لكن أن تصنع فيروز القهوة، في صورة ملتقطة من زاوية مرتفعة، غالباً بدون علمها، في مطبخ عادي جداً، أمر يشعرنا بأننا متلصصون، شهود على لحظة عادية خاصة. ونحن نحب التلصص على من نحبّ.

كبّرت الصورة، قصصت الإطار الذي يضمّ اليدين. الجودة سيئة، لا بأس. أردت فقط أن أتذكر الحياة الخاصة لليدين، النسخة المنسية من الفتاة التي نحبّ.

في فيديو تمارين حفلة بيت الدين كانت الصبية التي نحب تضحك كثيراً. تلبس إلى التمارين سترات واسعة، أكبر من حجمها، وأنا أحب أن أراها كذلك لأنها تبدو دافئة ومرتاحة وصغيرة. يعلّق أحدهم: «اعتقدت أنها لا تلبس سوى الفساتين. ثمّ ما حاجتها بالكنزة الواسعة؟» أقول ربما تخبئ داخلها أطيافاً صغيرة لناس غادروا ولم يغادروها. ثمّ أنها تحْضُر التمارين بقبعة بيسبول، ووشاح أبيض. زياد يقول شيئاً، تدير وجهها، تغمض عينيها، وتضحك. أيّ نوع من السحر هذا؟ ربما تقول في سرّها: «أوكي، سألبس قبّعة البيسبول وأضحك بغنج وجمال، ثمّ أغنّي كما أفعل دائماً، وأربك قلوبكم بمشاعر لم تكونوا على علم بأنّها ممكنة أصلاً.» وتفعل كلّ ذلك فيما تخبّئ أطياف الأشخاص الذين لم يغادروها داخل سترة دافئة واسعة، وتخبّئ عينيها بظلّ القبعة كي لا تفضحاها، وتمشي على مسرح رُكّب لأجل أن تطأه هي بالذات، في قصر بيت الدين، وتحت سماء مفتوحة عليها.

كل هذا جيد. كل هذا جميل. لكن الأجمل منه هو حقيقة أنها لم تفكّر بكل ذلك. لم تفكّر بأي من ذلك، لم تُرَكِّب أي سيناريو حينما قامت بأي فعل أو حركة. كانت مجرد سيدة أمامها يوم عمل طويل في مهنة تسخّر لها صوتها وكلّها، وتحبّها.

مرّة واحدة رأيتكِ. في حفلة «بلاتيا» ليلة 23 كانون الأوّل 2011. كانت تلك الحفلة الإضافية، من خارج البرنامج المقرّر. اعتبرت الإعلان عن حفلة إضافية «إشارة» من السماء. اشتريت بطاقتين فوراً لي ولأمي في المنطقة (د) الأرخص في المسرح. ليلتها غنّيتِ للقمر وعن القمر. حملتِ الدفّ أيضاً كما في الحفلات السابقة، وكان للأمر الأثر نفسه في النفوس. رجلٌ في الصفوف الأمامية رفع يده وصرخ «الله أكبر!» لم أكن مرتاحة في مقعدي، أردت أن أقف أو أتقدّم إلى المسرح، لكنني بالطبع لم أفعل. النساء اللاتي أمامي أتين من دمشق، كنّ يضحكن بعيون رطبة عندما قلتِ: «إن ما سهرنا ببيروت، منسهر بالشام». كنا واقعين تحت السحر، وكنتِ تعلمين، وكنتِ تحضّرين مفاجأة النهاية. بعد أن اعتقدنا أننا ودّعناكِ نهاية الحفل، عدتِ مع موسيقى «تلج تلج»، وغنيتِ أغاني عيد الميلاد. لم يبقَ إنسان واحد على كرسيه. كان الناس يصفّقون ويطرقون أرض المسرح الخشبية بأقدامهم ويحدثون احتجاجاً رهيباً على اقتراب لحظة الوداع. كانت تلك ليلة العيد الأجمل.

مرّة واحدة رأيتكِ، وعُدْتُ بعدها إلى البيت ممتلئة بشيء يشبه يقين السذّج بقدوم يوم يحلّ فيه السلام العالمي والحب السرمدي. كتبت في دفتري: «لا حزن/ لا ألم/ لا تعب/ لا بؤس/ لا جوع ولا عطش/ لا حرب / لا خوف / لا برد في الخارج / ولا وحدة / لا وحدة.»

ليلتها بقيت ساهرة حتى أذان الفجر، هكذا يفعل الامتلاء بالصوت. فجر 24 كانون الأوّل 2011، تخيلت شيئاً. تمنّيت لو أستطيع التقاط صورة لكِ، لِحلوة «تغزل بمغزالها» فجراً، مرهقة بعد ليلة طويلة، تدندن لحناً حُلواً بكلام غير مفهوم.

هذه الصورة سأسمّيها «فيروز عَم تِرقي الكوكب».

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل