المحتوى الرئيسى

ليه يا بنفسج

11/19 22:15

شىء ما يظل مفقوداً كلما تابعت «حسنين» فى فيلم «بداية ونهاية»، عن رواية نجيب محفوظ ومن إخراج صلاح أبوسيف، أتحسس رأسى فيما هو يتنكر لأسرته التى يأبى الفقر أن يفارقها، خصوصاً بعد أن فارقها الأب، ويتنكر أيضاً لخطيبته ووسطه الاجتماعى كله لأنه أراد بعد أن صار ضابطاً نقلة نوعية أخرى تبعده عن شوك الفقر وتحمله على كتفها إلى حرير الثراء، لا أدرك هذا الشىء المفقود ولا يُساعدنى رأسى الموجوع أن أعثر عليه فى هذا الفراغ الآدمى الذى يتمترس فيه شخص مثل «حسنين» كأنه يتحدى الوحشة ومصيره المجهول لآخر مدى ويجعله لا يكون ولداً طيباً وباراً بأهله، فيأخذ من نكرانه متراساً لا يعينه ولا يغطى عورته حين يكتشف أن «نفيسة» شقيقته الحنون وقعت فى شرك الرذيلة، ضحية للفقر ولخدعة «ثور» آدمى تنصل منها بعد أن فرغ منها، دوائر تتصل ببعضها ولا تدلنى على الشىء المفقود، الجزء الناقص الذى جعل «حسنين» ينتحر ويرمى نفسه فى النيل بعد انتحار «نفيسة» مباشرة، وبصرف النظر عن التفسيرات النفسية المتباينة؛ فإن هذه النهاية الهشة لرجل كان يركض فى نفسه خوفاً على إطار الصورة البراق الذى سيّجه حول نفسه، ما هى إلا دائرة تُغلق لتسلم نفسها إلى أخرى، ما جعلنى أتوقف يوماً ما حين أخبرنى شاب صغير ابن ناس طيبين «على قد الحال» أن أسوأ ما فعلته ثورة يوليو هى مجانية التعليم وأن مصر تفتقد زمن الباشوات الطيبين الذين كانوا يمدون أياديهم فى جيوبهم ويعطون «الحسنة» للمصرى الفقير.

تتراص الجماهير حتى يبلغ الزحام مداه أمام بوابات دار الأوبرا وقاعاتها فى انتظار الدخول لمشاهدة أفلام مهرجان القاهرة السينمائى، بل يقال إن البعض حصل على تذاكر المهرجان من السوق السوداء ليشاهدوا أفلاماً لن تفسد لهم واقعهم لأنها فى الغالب تشبههم إلى حد الطباق والدوران فى فلك الفقر والجهل والعنف، سينما لن تصنع لهم خلوة ولكنها تأخذهم إلى مواضع الاشتباك بين الواقع والخيال وبدلاً من الجلوس على المقاهى، كما كنا نرى فى الأفلام القديمة، حيث يدير «المعلم» مؤشر راديو المقهى ليستمع الجالسون إلى بيان: بيان الثورة أو بيانات الحرب، أو كما فى الأفلام الحديثة يشاهدون تلاوة البيانات السياسية على شاشة التليفزيون، فالجمهور من «شوية ناس قاعدين على القهوة» إلى «ناس كتيرة واقفين على بوابة السينما»، وفى كل الأحوال فإن دخول السينما ليس كالخروج منها؛ فهناك مصائر تتغير على قدر التماهى مع الخيال والإيمان به، وللصور حين تتحرك على الشاشة مهابة الدهشة والمصادفات السعيدة، ولها أيضاً نفس التأثير كما تستجيب لميلاد يوم جديد وتقوم على مهل، تصغى لما فى الروح من عبث أو نزعة جدية، تكف عن الكلام وتتابع تكوين الأشكال أمامك وتطويعها لتزج بك فى عالم يغويك إيقاعه ويُخضعك جسدك الساكن مثل المسحور لما تراه عيناك.

البطولة فى السينما لها عمقها وحين يمر مشهد وراء مشهد نحاول أن نستعير هذه البطولة وأن نتخلص من فكرة البطل المهزوم، فنعتبره مجرد صورة للفرجة لا نريدها أن تضاف إلى هزائمنا الواقعية، وهذه المحاولة قد تكون رحيمة ومفيدة أحياناً لجعل بطل السينما المهزوم مجرد حكاية مسلية، فيكفى البطل المهزوم فى الواقع أنه محاصر براً وبحراً وفوقه وتحته، فهو «غريق» يبحث عن أشلاء وجوديته ولا تنقذه «قشة» ولا ظله المكسور على قارعة الطريق أو فى جلسته البائسة على المقهى وهو يواصل فتوحاته فى التنظير كما يليق بالبؤساء.

ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل