المحتوى الرئيسى

«أعمال الكتابة» لمحمّد العبدالله... الإقامة في الفائق والممتع

11/18 02:18

«أعمال الكتابة» للشاعر اللبنانيّ محمد العبدلله (مواليد 1946) يحيل القارئ بطريقة بديهية إلى سؤال التجربة الكتابيّة عموما، وإشكاليات إعادة طرح المتن الكتابيّ مجموعا أو منجَّما على هذا القارئ في حقبة لاحقة أو ظرف مغاير. حقبة قد لا تكون مزاجاتها الشعرية أو النثريّة مهجوسة بهذه النبرة الكتابيّة أو تلك. يبقى أنّ هذا النمط من الانطولوجيا المقدّمة هو، في مكان ما، ضرورة تحفّزها أهمية التجربة عموما لناحية مفاصلها التي ترتبط بملاحظة قدرة الشاعر على الخروج من قوالب كتابية محددة شعرا او نثرا نحو مزاجات ومناخات أخرى مع الحفاظ على جودة المتن المقدّم.

قد لا يكون مصطلح «انطولوجيا» مصطلحا دقيقا في حالة «أعمال الكتابة»، على أن متن نصوص الاعمال محيّرٌ بالضرورة لناحية كونها مختارة ربّما ليس فقط لجودتها ولشهرة بعضها مما قد صار أغنيات يشيع فيها اسم المغني أو الملحن بدرجة تطمس الكاتب (مرسيل خليفة، اميمة الخليل..)، إنّما هي تنجزُ باختيارها، على هذا النحو، سؤال الكتابة بطبقاته التحتية، نعني صلة هكذا نصوص بالقارئ، بتماساته الشعورية المتفاوتة بين الراهن والماضي؟

إنه، أيضا، سؤال أيّ قارئ؟ أو أي متلق؟ وكذلك سؤالُ خروج صاحب رسائل الوحشة (1976) ربّما من صيت أعماله الفارقة المفتتحة بشذراتها الفائقة واللامعة ببلاغتها وخفة مجازاتها (إني مستوحد كقمر الصيف يا مريم كشرفة بساهر وحيد) إلى فضاء التجربة التي لا يقل فيها القص والسرد الواقعي البالغ الترميز، عن المستوى الادبيّ لتلك الاعمال الاولى.

قصائد المحكيّة والفصيح الواردة في جزء العمل الاوّل «من كتاب الشعر»، لا سيما أغلبها، تلك المغنّاة، تبدو، الآنَ، محايدة وحيّة ودوّامة، بمعنى قدرتها على خلق ذلك المناخ الذي يدفع القارئ إلى التخفف من بعض سياقاتها أو أثقالها المتعالية السابقة. يعود ذلك بدرجة كبيرة إلى منسوبها الشعري العالي ومجازاتها المحكمة. إنها قراءة قد تدفع المتلقي في بعضها إلى طرح سؤال مركزي عن إمكانية كونها، تسلب القارئ متعة الاستغراق بتلك المجازات، إذ هي أغنية ملحنّة مقطّعة ظلّت ربما ولم يزل بعضها محصور الاحالة لسنين. نأخذ مثالا لا حصرا من الفصيح قصيدة «لأصلي له» (لحنها وغناها مرسيل خليفة): «ولو استيقظ الآن/ ينتعل القلب قبل حذائه»، « ويشخص نحوي بعينين أرى الله يضحك مغتبطا فيهما» (ص77). ومن الفصيح أيضا قصيدة «هذا الرأس» (لحنها هاني سبليني وغنتها أميمة الخليل): «لكن في الصبح الباكر يستيقظ/ يشعل سيجارته/ يسكب قهوته قبلي/ ثم يعيد حكايات الامس وأفكار الامسْ/ أغسله وهو يفكر/ أمشطه وهو يفكر/ أرسله عند الحلاق وهو يفكر/ لكن حين أريد التفكير بمشكلة تضنيني/ أو أمر يعنيني/ يتأوه من ألم وكأني أضربه بالفأس/ سيقتلني هذا الرأس» (ص82). ومن المحكية قصيدة مسافة (لحنها وغناها أحمد قعبور): «شو بعاد/ متل تنين/ متل كفين عامفرق/ بيلوحو ومتل السفينة قبل ما تغرق/ شو بعاد/ متل عينين ما بيلتقة الا بالمرايه» (ص18).

«من كتاب القصص»، جزءُ الكتاب الثاني مقاطع سرديّة متأخرة نسبيا عن حقبة الكتابة الاولى لدى صاحب (لحم السعادة، نصوص، 2000). إنها قصص تشبه انتباها أو إقامة مبتكرة في تجربة السرد. وليس ذلك السرد الذي يكون موصولا ومستثمرا في المزاج الشعري، بل إنها مقاطع سرديّة بمعجم متخفف. ثمّة منسوب عال من الذاتية والتذكرّ. في الخلاصة، لا يخرج هذا السرد عن كونه من ذلك القصّ الواقعي الحاد البالغ الترميز، يبدو ذلك بالغ الوضوح خصوصا في مقطع السنكريّ (ص194).

قد تحيل «أعمال الكتابة» لصاحب «بلاهواة، شعر» (2010)، أساسا، لفكرة توق أي شاعر لا سيما شاعر بحجم محمد العبدالله في عدم البقاء داخل حصرية التصنيف الكتابي. محمد العبدالله الكاتب المتواري والمشعّ. إنه الشاعر والناثر القاص، والمقيم في شغل الكتابة، المقيم في هاجس تقديم المتن الفائق والممتع بمعزل عن الاستسلام للتصانيف ومتاهة إشكالاتها النقدية التي لا تني تثار كلّ حين.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل