المحتوى الرئيسى

إسماعيل الإسكندراني يكتب: استئناف الثورة.. اصطفاف الخصوم في وجه العدو

11/17 12:17

”المزعج في قضية محمد سلطان هو أنه أول حالة بعد خالد سعيد يتضامن من أجلها أطياف واسعة ومتنوعة من القوى السياسية“ – مجدي عبد الغفار، رئيس قطاع الأمن الوطني سابقاً، قبل الإفراج عن محمد سلطان.

تقهقهرت ثورة يناير وهزمت في جولة 30 يونيو – 3 يوليو، فصدَعت أصوات مؤمنة بعمق تفاعلاتها الاجتماعية تحت السطح السياسي البائس، وصرّحت – مبكراً – بأن المعركة لم تنته بعد، ثم تعالت أصوات – مؤخراً – مناديةً بالاصطفاف الثوري / السياسي. لكن حلفاء الأمس، وجبهات العقد الأخير من حكم الفرعون قبل الأخير، لم يعودوا كما كانوا في نهايات 2010. وقع الشرخ الأول في الأسابيع الباكرة عقب إسقاط الطاغية، وزُرعت بذرة الاستقطاب في استفتاء مارس 2011. بدأت نبتة الاستقطاب الإسلامي – العلماني في النمو، فتشققّت التربة ليضرب جذر صراعات الهوية مسالكه في الأرضية الثورية في جمعة 29 يوليو، ثم تشعّبت الشقوق بين الأطراف المختلفة في طرقات مذبحة ماسبيرو وبين ثنايا أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء، ثم تجذّر النزاع أكثر وأكثر قبيل الانتخابات الرئاسية في النصف الأول من 2012، وتوسع بعد تنصيب محمد مرسي في النصف الثاني منها بدءً من أزمة الإعلان الدستوري في نوفمبر. وأخيراً، انفجرت الأوضاع تماماً في 2013، فتقدمت الثورة المضادة تحتل المساحات الشاسعة، التي كانت – فيما قبلُ – شقوقاً يمكن احتواؤها قبل أن تتعاظم وتتضخم بين الصفوف. ومنذ ذلك الوقت، ما برحت الثورة المضادة تتمدد وتتوغل جادةً في محاولاتها استئصال كل بذرة طيبة زرعتها الثورة التي نادت بكرامة العيش والحرية والعدالة، ولا يتوانى الاستبداد العسكري عن السير الحثيث في مساره الخبيث مهما كلف الأمر من أرواح، ودماء، وأجساد، وحريات، وأقوات، وانتهاكات لا تعد ولا تحصى.

تأتي الآن الأصوات المتفائلة – اليائسة داعيةً إلى الاصطفاف الثوري، وحشد الصفوف وتعبئتها لجولة الكرّ والهجوم على الثورة المضادة، بعد التقهقر في جولة الفرّ من بطش الدبابة المحمولة على أعناق جماهير عريضة ذات نزعة فاشية. نعم، هي أصوات متفائلة يائسة، فتفاؤلها – الأكثر من اللازم – بأن مشهد الاصطفاف السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير، ومن قبله حركة كفاية، والذي تراه قابلا لإعادة الإنتاج في صيغة ثورية في نهايات 2015 ومطلع 2016، هو في الحقيقة ستار تواري به يأسها وإحباطها من حالة الأطراف المحسوبة على يناير ومساراتها منذ أكثر من سنتين كبيستين. وليس أدلّ على اليأس والإحباط من ذلك التسرع والاستعجال المدفوع بالحنين الحالم بالميدان، كموقع لجولة الانتصار الأولى، وكحالة لا يزال عبيرها يطيب في الأنوف.

يتناسى المتفائلون أن حلفاء الأمس قد حلت بينهم العداوة والبغضاء، وما تخفي صدورهم أكبر. ويظنون أن المكلومين والمهزومين من الطرفين – أو الأطراف العديدة – قد يتغاضون عن خلافاتهم التي لوّثها الدم، وعمّقتها تجربة سياسية فاشلة فشلا ذريعاً، ثم تكالبت عليها عوامل وفاعلون إقليميون كثر حتى صار أقرب حلفاء الماضي هم ألد أعداء الحاضر والعكس (وما علاقة حزب النور بالإخوان المسلمين إلا مجرد مثال، ولا موقف الناصريين من ارتماء عبد الفتاح السيسي في أحضان إسرائيل إلا تأكيداً لهذا الواقع السيريالي).

كان لبعض الأطراف العلمانية (الاشتراكيين الثوريين تحديداً) تنظير مكتوب ومُتدارَس في اجتماعاتهم التنظيمية في ضرورة التحالف ”مع الإسلاميين أحياناً، ضد الدولة دائماً“، وهو تنظير نابع من كتابات عالمية ذات نظرة أممية عابرة لحدود الأقطار الوطنية، تم تعريبه وتمصيره، أي تخصيصه في الحالة المصرية تحت حكم حسني مبارك. لم يكن موقف الاشتراكيين الثوريين ممثلاً لأطياف اليسار كافة، بل لم يكن محل إجماع حتى بين الماركسيين التروتسكيين الذين يعتبر الاشتراكيون الثوريون جزءا منهم. بدأت العلاقة الإيجابية بين اليسار والإسلاميين في نهاية التسعينيات في جامعة القاهرة على أرضية التضامن ضد المحاكمات العسكرية لقيادات الإخوان، ثم توطدت أواصر التعاون بين دائرة من شباب الإخوان (غالبيتهم الغالبة تركوا الجماعة بعد الثورة أو فصلوا منها) وبين العديد من الأطراف غير الإسلامية، سواءً يساريين أم ناصريين أم بعض الليبراليين. مرت تجربة التعاون العابر للأيديولوجيا بعدة محطات مهمة؛ منها دعم الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)، ومناهضة الهيمنة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر سواءً في غزو أفغانستان (2001) أم العراق (2003)، ثم حركة كفاية (تأسست في 2004)، ودعم حركة استقلال القضاء (2006 – 2007)، والعديد من تحالفات القوى السياسية والنقابية، وأخذت كرة الثلج تتدحرج وتكبر في إضراب 6 أبريل 2008، والحراك العمالي المتصاعد بشدة منذ 2006 حتى 2010، حيث عاد البرادعي وولدت الجمعية الوطنية للتغيير، وقتل خالد سعيد فهبّ الحراك الجماهيري الموسع المتضامن معه، ثم أتى برلمان أحمد عز، وبرق الأمل في تونس، فاندلعت شرارة الثورة.

الآن، علينا أن ندرك أن ذلك كله صار من التاريخ!

لم يعد إخوان اليوم هم أنفسهم إخوان الأمس، بل لم تعد ثمة جماعة متماسكة اسمها الإخوان المسلمين كالتي عرفناها قبل 2013 كتنظيم ذي قيادة موحدة، يقيم أغلبها في مصر ويتمتع أغلب قياداتها بحرية الحركة – أي خارج السجون – وإن كانوا تحت المراقبة والتجسس الأمني في عهد مبارك. كذلك، لم تعد العلاقة العابرة للأيديولوجيا قائمة على أن القمع يوحدنا ضد الاستبداد والفساد، ولم يعد الاشتراكيون الثوريون كسابق تاريخهم التنظيمي، ولم يتوقف الجدل النظري والصراع بين الأطراف غير الإسلامية على الموقف من الإسلاميين. إضافة إلى ذلك، فقد انكشف زيف أغلب الليبراليين، وسقطت أقنعة الناصريين فرادى وجماعات، والأهم هو أن الساحة لم تعد حكرا لتلك الفصائل السياسية القديمة وحدها، بل ظهر فاعلون جدد، حركيا ونظرياً، وبرزوا في مواقع شتى حتى صاروا جزء أصيلا وأساسيا من المشهد.

فإذا تركنا الحنين إلى زمن النضال الاصطفافي الجميل جانباً، وعدنا إلى واقعنا الذي هو أقرب للساعة التي تقاتل فيها الأطراف وجها لوجه من تلك اللحظة التي ثارت فيها الأطراف نفسها كتفا بكتف، كان لزاما أن ندرك أن انعدام الثقة هو السمة الغالبة، وأن الفظاظة – إن لم تكن البذاءة – هي اللغة السائدة. هذا هو الواقع الذي لا ينفي الفكرة التي قدمها بلال علاء في مقاله المهم ”لماذا ينتصر العسكر وينهزم الآخرون؟“، وهي أن المعادلة القائمة على إقصاء أي طرف سياسي هي تلك المعادلة التي ينتصر فيها العسكر حتماً، وأن الحالة الوحيدة التي يمكن لطرف مدني أن ينتصر فيها هي تلك الحالة التي ينتصر فيها الجميع ضد السلطة العسكرية، أي حالة 2010. فماذا يمكننا أن نفعل في اللحظة الراهنة وعلى المدى القصير؟

الإبقاء على الخصومة والكراهية السياسية

ليس من رفاهية الاختيار أن نبحث عن اتفاق على صيغة من صيغ الاصطفاف، لكن مصطلحات مثل ”التوافق“ و”الاصطفاف“ كثيرا ما ابتذلت أو وضعت في محل سخرية ورفض من الأطراف المعنية بها خشية الوقوع في تمييع الخلافات والفوارق والصراعات العميقة بين الأطراف المختلفة، التي يراد لها أن تصطف. الاتفاق المدني في وجه العسكر مطلوب، بل شرط حتمي لاستئناف المسار الثوري السلمي المتطلع إلى الحريات والحقوق والحكم الديمقراطي، لكن الخشية الدائمة لدى الأطراف غير الإسلامية هي أن تُبتلع كياناتها ضئيلة الحجم في تحالفات ”الفيل والنملة“، كما يشيع التشبيه في أوساط اليسار. وهناك تخوف آخر، حقيقي ومشروع، من ذوبان النقد الفكري والسياسي تحت ابتزاز ”لا صوت يعلو فوق صوت الاصطفاف“، فيتحول التوافق أو العمل الجبهوي إلى حالة إرهاب معنوي لا تختلف في جوهرها عن الدعاية السلطوية الوطنية في خطاب الاصطفاف الوطني أمام المؤامرات الخارجية والداخلية، أو حتى عن الدعاية الدينية المؤدلجة بخطاب الهوية والاصطفاف في وجه الحرب على الإسلام.

من هنا، أرى ضرورة الاصطفاف على أرضية من ”الاتفاق على الاختلاف الحاد“، بل الجهر بالخصومة والكراهية السياسية أيضاً. فلسنا في حاجة – حالياً – لآمال زائفة بالتوافق السياسي / الثوري بين أطراف نحلم بأن تعمل جنبا إلى جنب، أو يدا بيد، بل نريد مائدة حوار سياسي / ثوري ملتهب، يدير فيه المتصارعون خلافهم سلميا ثم يقومون ولا يصافح أحدهم الآخر، وربما نتسامح مع أحدهم إذا بصق في وجه خصمه!

ينبغي لنا أن ندرك أن العسكر قد صادروا مائدة السياسة. في البداية، جلس كبيرهم إلى رأسها محاطا ببعض السياسيين الذين ما لبث أن طردهم أو دفعهم للانسحاب واحدا تلو الآخر، حتى انفرد بها. لاحقاً، أخبر شعب تفويضه بأنه سيُدخل المائدة في المخزن مؤقتا لإجراء بعض الإصلاحات والتجديدات. والآن، يريد أن يحطمها تماماً ليخرج لنا حطامها في برلمان مشوه ظنا منه أنه بذلك سيتمكن من إقناع الجماهير بأنه ما من داعٍ للمائدة أساساً، وأن فكرة استبدالها بكراسي مصفوفة على طريقة مقاعد التلاميذ أمام معلمهم ربما تكون مناسبة ومتلائمة مع هندسته لطريقة إدارة شؤون البلاد.

نحن الآن في حاجة إلى انتزاع المائدة ابتداءً، مع وضوح في الرؤية بأن البدلة الكاكي غير مرحب بها على المائدة مطلقاً، باستثناء استدعائها لأغراض فنية أو رقابية. وبغض النظر عن المواءمات التي يمكن القبول بها مرحلياً، فإن المؤكد أن العسكر لا يريد إخراج المائدة من المخزن، وأن طرفاً وحيداً، أو أطرافاً قليلة، لن يمكنها إثبات جديتها في تحمل مشقة فتح البوابة وحمل المائدة الضخمة، وسيكون من السهل على الحارس العسكري أن يرفض وأن يتعنت مع طرف وحيد أو أطراف قليلة. فعلينا الذهاب مجتمعين لإحضار المائدة وكراسيها، ولا يشترط في ذلك أن نذهب متوادّين باسمين ضاحكين في وجوه بعضنا البعض، بل يمكننا أن نذهب وأن نتشارك في هذه المهمة الواجبة وأحد الأطراف في قطيعة مع طرف آخر، لكن لا يمكن أن يكون طرف ما في قطيعة مع جميع الأطراف، وإلا سيظل الاجتماع منقوصاً ولن تتحقق معادلة الانتصار المدني.

بتعبير آخر، نريد اصطفافاً نحتفظ فيه بخصوماتنا وصراعاتنا التي يجب أن تظل سياسية، وأن نقاتل بكل ما أوتينا من قوة من أجل إبقائها خارج المساحة الاجتماعية والإنسانية. أغلب الأطراف مشحونة، ومن غير المتوقع أن تتبخر هذه الشحنات من دون تفريغ يتسم بالحدة في بدايته، بل يترك له العنان للتعبير عن عميق الغضب والكراهية من طرف ضد طرف أو عدة أطراف أخرى. علينا أن نقبل بهذه المساحة من الكراهية السياسية والعنف اللفظي السياسي في مقابل تجريم خطاب الكراهية الاجتماعية والسياسية والعنف الجسدي والتحريض عليه والإرهاب المعنوي بالتكفير الديني أو التخوين الوطني. فالاصطفاف المأمول – حالياً – لا يطمح في الوصول إلى حالة يعمل فيها الأطراف بعضهم مع بعض، بل يعمل بعضهم ضد بعض، أي أن معركتنا الآن هي استرداد السياسة وحلبة الصراع السلمي التي يجلس حولها الجمهور يشاهد ويشجع ويشارك في أمان على أطفاله وضيوفه الأجانب ممن ليس لهم حق المشاركة، من دون احتمالات لسفك دماء هنا أو سحل أجساد هناك أو مطاردة العائلات في منازلها والأجانب في الشوارع.

ليس الحديث عن عمل جبهوي أصلاً لكي نناقش كيفية انتخاب هيئته التنسيقية ولائحتها الداخلية، كما أننا في حل من الخوض في جدل حول ثنائية المؤسسية والسيولة، في هذه المرحلة على الأقل. وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك احتياجاً ملحاً لقائد يطلق نداء الواجب لتلبّي الأطراف دعوته، أو يرفع الراية لتلتف القوى الثورية والديمقراطية حولها ولو باستعراض رمزي للاصطفاف ووحدة الموقف. بالطبع لا أتحدث عن قيادة شخص، بل عن الراية، التي قد يتطوع العدو – للمفارقة – باختيار من يحملها!

قائد المرحلة هو التضامن الحقوقي مع حالات لا يمكن تصنيفها ولا وصمها. وهو أمر مزعج للنظام حقاً (راجع الاقتباس في بداية المقال)، بل أثبت فاعليته في حالتي محمد سلطان وحسام بهجت، حيث نجحت حملتا التضامن الواسعتان في الداخل في استجلاب ضغط خارجي مؤثر، كان أسرع في حالة حسام بهجت بسبب تعقيد وضع محمد سلطان وحسبانه على موقع والده القيادي في الإخوان. والآن، يمكننا الاحتشاد وراء قضية إسراء الطويل وآية حجازي وغيرهما من حالات ”نوعية“ تختلف عن حالات ربما تكون أكثر عرضة للظلم والانتهاك، ولكنها – للأسف الشديد – ”رقم“ في سجل ضخم يضم عشرات الآلاف من المظلومين والمقهورين.

يؤسفني جداً أن أكتب ما يمكن أن يفهم باعتباره دعوة للتضامن الانتقائي، وهو غير صحيح. لكن بالعودة إلى الخبرة الحقوقية المصرية، فإن هناك قضايا متكررة وشائعة، بالتوازي مع مسار التقاضي الاستراتيجي الذي تُنتزع به أحكام تأسيسية تسن بها القوانين والتشريعات (مثل قضية الحد الأدنى للأجور التي تعتبر انتصاراً تاريخياً للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية). نعم، نرجو أن يكون لدينا من الطاقة والقدرات البشرية والمالية ما يعيننا على التضامن الكافي مع الضحايا جميعاً، لكن هناك تضامناً نوعياً ذا مكاسب ممتدة وأكثر شمولاً من الضحية الواحدة كحالة فردية متصدرة للمشهد في لحظة ما. ولأن المقام هنا ليس مقام جدل أخلاقي حقوقي حول التضامن العام والتضامن الخاص ومعايير التخصيص، فإنه مما لا تفوت الإشارة إليه هو أن تجارب الاصطفاف السياسي الناجحة في كل من مصر وتونس كانت على أرضية حقوقية، أو كان الحقل الحقوقي هو تربتها الأولى الخصيبة التي نمت وترعرعت فيها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل