المحتوى الرئيسى

فى زمن «اللا منطق»

11/15 00:27

فى زمن «اللا منطق»، نسمع عن «إخوان» فى الحكومة البريطانية، ونتحدث عن «المؤامرة الغربية»، ثم لا نسأل لماذا أصدر الصديق الروسى قراراته الصادمة

عندما يغيب المنطق، يمكنك أن تصدق أن ما جرى مع صحفى بارز وناشر لجريدة «علا صوتها» لم يكن أكثر من مجرد مصادفة

عندما يغيب المنطق، نتصور أن بإمكاننا أن نحارب التطرف والإرهاب، بالفكر ذاته الذى تَعَيَّش عليه التطرف والإرهاب.. «إنكار الآخر»

عندما يغيب المنطق، ينجح غاسلو الأدمغة على الجانبين فى أن يقنعوك بالمعادلة الكاذبة «إما نحن وإما هم»

بحكم توقيتات الطباعة، كان هذا المقال معدا للنشر قبل أن تصدمنا أخبار الدماء «البريئة» التى أريقت فى باريس، والتى أخشى أن يلحقها لدينا فهما وتحليلا، مرض «اللا منطق» ذاته، عجزا أو قصورا أو استثمارا فى الدماء «لغرض فى نفس يعقوب». ولهذا رأيت أن يأخذ المقال طريقه المعتاد إلى هذه الصفحة، على أن أكتب «فيما جرى فى باريس» الأحد المقبل بمشيئة الله.

عندما أيقظتنى الزميلة المحررة فى إحدى الصحف «المصرية جدا» تطلب منى التعليق على «مؤامرة الإعلام الغربى» على مصر (!) والدور الذى يجب أن يلعبه الإعلام المصرى فى حملة مضادة تستهدف إعادة السياح «الغربيين» إلى الشواطئ المصرية، لم أستغرب أن مسئولى الجريدة يتصورون أن السائح الغربى يقرأ جريدتهم التى تنشر باللغة «العربية» والتى تصل نسخها بالكاد إلى القارئ المصرى الذى يسكن خارج العاصمة، كما لم أستغرب بالطبع أن تصدق الزميلة أن الإعلام الغربى يخضع لتعليمات تأتيه بالهاتف من هذه الحكومة أو تلك، أو من «الأجهزة السيادية» هناك. فالمرء على ما اعتاده.. وهذا المنطق، أو بالأحرى «اللا منطق» بات من علامات المرحلة.

فى زمن «اللا منطق»، يدعوك إعلام التعبئة إلى الاصطفاف أمام المؤامرة «الغربية»، متجاهلين حقائق من قبيل أن أمريكا «المتهمة عند هؤلاء بأنها رأس المؤامرة» لم توقف رحلاتها ولم ترحل مواطنيها، وإنما الذى فعل هو بوتين / روسيا التى لم تكتف كبريطانيا مثلا بحظر الرحلات إلى شرم الشيخ، بل أصدر الصديق الروسى «اللا غربى» وغير المتآمر قرارا بحظر الرحلات الروسية إلى سائر مطارات مصر.

فى زمن «اللا منطق»، نسمع عن «إخوان» فى الحكومة البريطانية (!) وتقول لنا إحدى الصحف أن حكومة لندن أجلت رعاياها بعد ضغوط حزب العمال الموالى للإخوان. ولكنها لا تقول لنا لماذا إذن أجْلت روسيا رعاياها. ولماذا أصدر الصديق بوتين «الذى لا ينتمى لحزب العمال البريطانى» قرارا أكثر تطرفا بحظر الرحلات الجوية إلى مطارات مصر «كافة»؟! (ذهبت روسيا بعيدا بعد ذلك بأن أصدرت الجمعة قرارا بحظر هبوط طائرات «مصر للطيران» فى مطاراتها).

عندما يغيب المنطق، لا يهتم الناس بالبحث عن السبب وراء انفجار الطائرة، وبالنتائج المترتبة على ذلك، وبكيف نتعامل مع العالم «بمنطق» علمى يفهمه، حتى نحاصر الخسائر المتوقعة لما جرى، بل عندما يغيب المنطق، ينشغل الناس بالصراخ «امسك مؤامرة» وينشغل إعلام «التعليمات الهاتفية» بالحديث عن اصطفاف لم أفهم ما هى خطة «العمل على الأرض» التى يقترحها، عدا الصراخ ودق الطبول «المجوفة».

عندما يغيب المنطق، لا يلتفت الناس / كما الحكومات إلى خطورة غياب «المصداقية». وألا يأخذ سامعوك ــ مسئولين كانوا أو إعلاميين ــ كلامك على محمل الجد. وكيف لهم أن يأخذوه هكذا، إذا كانوا يستمعون لك تقول غالبا ما يكذبه الواقع على الأرض.

عندما يغيب المنطق، تغيب المصداقية. وعندما تغيب المصداقية، نصبح جميعا فى خطر.

عندما يغيب المنطق، سيتصور البعض أنك من الغفلة بحيث تصدق أن ما جرى مع حسام بهجت «الصحفى الاستقصائى ذى السمعة الدولية» متزامن مع ما جرى لناشر جريدة «علا صوتها» لا سبب له غير ما قالته لنا البيانات الرسمية. وأن يأتى ما جرى للرجلين بعد أيام فقط من شكوى الرئيس من الإعلام هو محض مصادفة. كما أن تزامن ما جرى للناشر  مع هذا المانشيت أو هذا المقال أو الحوار المنشور فى جريدته، هو أيضا مجرد مصادفة. حتى لو أن إعلاميا معبرا عن هذا النظام كان قد هدد الناشر علنا قبل الواقعة بأيام بما يعنى أنه «سيدفع ثمن ما تنشره جريدته»

عندما يغيب المنطق، ستصدق أن التقاط صورة للرجل «مكبلا» بالمخالفة للقانون، هو أيضا من قبيل المصادفة. وأن تظهر الصورة هكذا فى وسائل الإعلام دون أن نعرف من أرسل بها، هو أيضا كذلك. وليست رسالة لذوى العلاقة «وإلى من يهمه الأمر».

عندما يغيب المنطق (بل وأشياء أخرى) لن تعرف أبدا. لماذا «فجأة» تم التحفظ على أموال ناشر «المصرى اليوم»،  ولماذا ألقى القبض عليه هو ونجله (الذى يتولى إدارة الجريدة) فى ساعة واحدة، وفى مكانين مختلفين. ثم لماذا ألغى قرار التحفظ، وأفرج عنهما فى يوم واحد أيضا رغم أن القضيتين مختلفتان. بل وقبل ذلك كله، فعليك أن تسأل، إن كنت تعتقد أنك تعيش فى «دولة»، أو ما زلت رغم كل ما يدور حولك تحتفظ برأسك فى مكانه: من الذى أصدر أصلا قرار إلقاء القبض عليه وتصويره مكبلا (بالمخالفة للقانون) بعد أن تنصلت الأجهزة ذات العلاقة من مسئولية ما جرى.

عندما يغيب المنطق، يصبح من الطبيعى أن نصدق أنك تحارب «الإرهاب» بأن تمنع جمال الجمل عن الكتابة عقابا على مقالاته عن «دولة العباسيين»، بالضبط كما صدقنا إبعاد باسم يوسف ومن على شاكلته عن شاشات التلفزيون.

وعندما يغيب المنطق، يرضى الناس بأن تنشر وكالة الأنباء «الرسمية» صفحات مما تقول إنه محاضر تحقيق فشل محامو المتهمة أصلا فى الإطلاع عليها. ناهيك عن الرأى «المنطقى» فيما نشر من «حكايا» وتفاصيل. (عن ما جرى مع إسراء الطويل أتحدث).

عندما يغيب المنطق لا تستغرب أن يقول بيان رسمى إنهم ضبطوا الخلية الإخوانية المسئولة عن «غرق الإسكندرية..». بالضبط كما لم يتردد بيان رسمى سابق أن يحمل فردا واحدا اسمه «حسن مالك» مسئولية ما جرى وقتها من تخفيض قيمة الجنيه المصرى أمام الدولار (!). الأمر الذى لن تستغرب معه أن تنشر جريدة حكومية مانشتا يقول بأن «تحقيقات النيابة تؤكد العثور على نصف مليار دولار فى منزل حسن مالك» ثم نعلم فى اليوم التالى مباشرة أن الدولارات التى وجدها رجال الضبط لم تتجاوز الـ ١٥ ألف دولار.

ما رأيناه من «غياب للمنطق» فيما نقلته الصحف عن مسألة حسن مالك، قد لا يختلف كثيرا عما جرى مع الباحث والصحفى المخضرم صاحب الفضل على جيل كامل من الصحفيين المصريين؛ هشام جعفر ــ رئيس مجلس أمناء مؤسسة «مدى» التنموية، وكبير خبراء المركز الإقليمى للوساطة والحوار، وصاحب التجربة المهمة فيما بات يعرف «بتجديد الخطاب الدينى» والتى امتدت لعشر سنوات كاملة فى مواجهة الفكر المنغلق النافى للآخر والداعى للعنف، والذى يَعرف فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر جيدا، فضلا عن أقباط هذا الوطن جهدَه الدافع والمشارك فى نشاطات الأزهر لضمان الوفاق الوطنى ووأد الفتنة الطائفية. إذ فاجأتنا «البيانات الرسمية»، فوجهت إليه التهمة سابقة التجهيز «الانتماء إلى الإخوان المسلمين» رغم ما يعلمه القاصى والدانى مما كان بينه وبين الإخوان من صدام وصل إلى حد إماتة مشروعه الفكرى والمهنى بعد معركة مشهودة جرت أحداثها صيف ٢٠١٠

عندما يغيب المنطق، يتصور البعض أن العدل إذا غاب، يمكن للأمن أن يستقر. وينسى الذين يحدثونك كل يوم عن «الدولة» أن العدالة إحساس، لا مجرد إجراءات وقوانين. وأنه إذا شاع الإحساس بغياب العدل، سيلجأ الناس إلى وسائلهم الخاصة لاقتضاء حقوقهم «أو ما يتصورون أنه حقوقهم». وساعتها يصبح مفهوم «الدولة» ذاته فى خطر.

عندما يغيب المنطق، لا تستغرب الأسماء والصور التى تصدمك لقوائم المرشحين لعضوية البرلمان. ولا طبعا قوائم الناجحين. كما « قد يصبح غريبا أن تستغرب» أن أول من وجد طريقه لعضوية البرلمان لا يخفى عداءه لـ ٢٥ يناير التى ينص عليها الدستور الذى بموجبه جرى انتخاب «النائب المحترم» (!)    

عندما يغيب المنطق، تدعو السلطة الناس للتصويت للدستور، فيحصل على ٩٨٪ من أصوات الناخبين، ثم تخرج أصوات برلمانية وإعلامية من رحم السلطة «ذاتها» لندعو لتعديل الدستور.

عندما يغيب المنطق، تتجاهل السلطة «التنفيذية» أن التشريع هو وظيفة البرلمان، فلا تتردد فى إصدار ما يزيد على ٣٠٠ قانونا سيعجز البرلمان «عمليا» عن مناقشتهم فى المهلة الدستورية المحددة لذلك، ثم ينسى الناس أن البرلمانات لم تُخترع إلا «لمراقبة أعمال السلطة التنفيذية» ــ المادة ١٠١ من الدستور، فلا يتردد البعض فى المناداة علنا ببرلمان «يدعم الرئيس» الذى هو تعريفا رأس السلطة التنفيذية.

فى زمن اللا منطق يصدر قرار جمهورى فى يوليو ٢٠١٣ بتعيين عصام حجى (العالم فى وكالة ناسا حسب وصف الرئاسة) مستشارا لرئيس الجمهورية. ثم فى أكتوبر ٢٠١٥، وفى «الدولة» ذاتها نقرأ فى الصحف «الرسمية». أنه لأسباب أمنية تم منع عصام حجى «ذاته» من إلقاء محاضرة عن «اكتشاف المريخ» فى جامعة الاسكندرية،

عندما يغيب المنطق، تتحدث عن حرية العقيدة، وتنص عليها فى الدستور (المادتان ٥٣، ٦٤)، ولكنك فى الوقت ذاته تنشط فى ملاحقة المختلفين بتهمة ازدراء الأديان. كما لا تجد غضاضة «دستورية» فى أن تصدر قرارا رسميا بإغلاق ضريح الإمام الحسين ليومين «منعا للأباطيل الشيعية».

عندما يغيب المنطق، تملأ الدنيا صياحا ومظاهرات لأن دولة أوروبية منعت إقامة المآذن (لم تمنع إقامة المساجد أو الصلاة) ولكنك فى الوقت نفسه، تمنع الناس من أن يؤدوا صلواتهم فى بيت أحدهم إن عز عليهم أن يبنوا كنيسة. 

فى دولة «اللا منطق»، لا يعجب البعض حديثك عن المواطنة والمساواة واللا تمييز، أو عن ضرورة احترام دستور وافق عليه ٩٨٪ من المواطنين.

عندما يغيب المنطق نتهم المتطرفين بمصادرة الفكر وحرق الكتب، ثم نروج نحن للمكارثية ومصادرة الفكر ونحتفل بحرق الكتب (مع خلفية موسيقية من الهتافات والأغنيات الوطنية).

عندما يغيب المنطق، نتصور أن بإمكاننا أن نحارب التطرف والإرهاب، بالفكر ذاته الذى تَعَيَّش عليه التطرف والإرهاب.. «إنكار الآخر».

فى زمن اللا منطق ينجح الجوبلزيون فى إقناعك إن انتقدت قمع النظام محذرا من نتائج استبداده على الدولة والمستقبل بل والنظام ذاته، فأنت إخوانى «إرهابى». وإن انتقدت الإخوان وما ذهبت إليه بنا «وبهم» ثقافتهم العقيمة القائمة على السمع والطاعة فأنت «انقلابى».

عندما يغيب المنطق، ينجح غاسلو الأدمغة على الجانبين فى أن يقنعوك بالمعادلة الكاذبة «إما نحن أو هم». وكأن قدرك أن تختار بين بديلين يعيشان خارج العصر والزمان.

عندما يغيب المنطق، يخرج من الإخوان من يسب بلال فضل، وباسم يوسف، وكاتب هذه السطور، وغيرهم لا لسبب إلا لتبنيهم «رأيا مخالفا».  فى حين أن من الإخوان أنفسهم من يعانى الظلم والقمع والتمييز لا لسبب إلا لتبنيهم «رأيا مخالفا» (!)

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل