المحتوى الرئيسى

لعبة السعادة

11/12 17:02

بعد أن تحدثنا في التدوينة السابقة عن اللحظات التي يمكننا أن نتمنى فيها الموت.. وقصص بعض الذين فقدتهم.. وأنك غالباً تكون عند الفقدان أو لحظات التي يبلغ الألم من نفوسنا وأرواحنا مبلغاً لا نستطيع معه النظر للسماء.. ولست هنا في محل لتعريف السعادة ولا معناها فهناك كلمات لا تقبل تعريفاً في اللغة وإنما يفسرها الشعور وتفسرها المواقف .

في مقابل من فقدتهم هناك الكثير مازال هناك من يشاركوننا كوكب الأرض.. والمفاجأة أنهم يلعبون لعبة السعادة ولن أبالغ أني تعلمتها منهم.

اللعبة ببساطة.. أن تتذكر وأنت تنهي يومك على وسادتك ما فعلته وتحاسب نفسك.. وتتذكر كم وجهاً ابتسم بسببك.. وكم نفساً هوّنت عليها على هذا متن هذا الكوكب.. قد تجد كلامي هذا مجرد كلمات أسطرها لك أو أنها عبارات أنسقها لك من دافع الآمال.. ولكنني سأثبت لك بالواقع أن هناك بشراً ينتمون لفصيلة الإنسان مازالوا يحتفظون بأصل خلق النوع الإنساني، وكما حدثتك في التدوينة السابقة عن بشر حولي جعلوني أتمنى نهاية كنهايتهم.. هناك أناس جعلوني أسابق الزمن لأسعد من حولي .

أم شادي هكذا عرفوها مع أنها لم يكن لها ولد يدعى شادي ولم تنجب أطفالا قط.. طلقها زوجها الذي كان يشغل منصباً في إحدى السفارات بعد سبع سنوات من الزواج من عائلة توصف في المجتمع بأنها من أعرق العائلات.. كانت تعشق العمل الخيري.. وتشعر براحة كلما شاركت في أي سوق خيري أو احتفالية للأيتام.. قررت (أم شادي) أن تنتقل لمنطقة يسميها المجتمع منطقة فقيرة.. قررت شراء بيت في تلك المنطقة.. رغم اعتراض أهلها وبلغ الأمر أن قاطعها بعضهم واعتبروا ذلك فضيحة من منطقهم بالطبع.

في تلك المنطقة يتسم الناس بأنهم طيبون.. وأنهم مازالوا يحتفظون بتلك الشهامة و(الجدعنة)، كانت تعلم بنات المنطقة كيف يغزلن من خيوط الصوف كل شيء.. وتعلمهن الطبخ وأنشأت مشروعاً لبيع الوجبات المنزلية للمطلقات والأرامل في تلك المنطقة.. وأصبح هذا المشروع من أكبر المشاريع بعد ذلك. سألتها ألم تشعري بحنين لحياتك السابقة؟ أجابتني بأن نظرة الامتنان في عيون النساء اللواتي يعملن معها تسعدها وتكفيها وتجعلها تشكر الله على الطلاق .

صديقتي (أم نور) هكذا تحب أن تُنادى لم تُرزق بأطفال لمدة عشر سنوات من الزواج.. وبعد رحلات كثيرة من العلاج في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا هي وزوجها، قررت أن تكفل يتيماً.. وليس بالمعنى المعروف وإنما أن تربيه هي وزوجها في بيتهم.. لم يتحمس زوجها في البداية، وعندما ذهبوا لأحد دور الأيواء وقفت عند بوابتها وقررت أنها لن تخرج منها دون أن تجد الطفل الذي ستربيه.. وما أن دخلت حتى تعلق بها الطفل.. وتعلق زوجها به.. طفل فقد والديه في حادث سيارة.. ولا يوجد أحد من أهله قادر على رعايته فوضعوه في دار الإيواء. وخلال أسبوعين كان (نور) كما سمّته صديقتي بعد ذلك أكثر من ابنها الذي لم تنجبه.

تقول (أم نور) إنها لم تجد سعادة طيلة السنوات السابقة مثل تلك التي وجدتها بعد دخول (نور) حياتهم.. هنا قاطعها زوجها، لم أجد معنى لحياتنا إلا بعد أن ملأ حياتنا (نور).. ملأ حياتنا بالسعادة.

محمد قدور شاب قابلته في إسطنبول تعلو وجهه تلك الملامح المليئة بالرضا.. بعد ثلاث سنوات عندما ساعدنا مع قريب له في الدخول للأراضي السورية لتوصيل قافلة طبية، كان هو الذي يقود السيارة هكذا ذكرني بنفسه بدا نحيفاً جداً وتغير شكله.. كما أنني كنت أحاول تفادي النظر لتلك العكازات التي استبدلها بساقه المبتورة.. بعد إصابته بإحدى قذائف النظام السوري.

ذكرني بنفسه.. إنني أخبرتك أننا سنتقابل.. في أرض يكون فيها شيء من العدل.. وأنا من خبأتكم في سيارتي لتستطيعوا الدخول، وتفاخر بأنه من أمهر خبراء الطرق السرية التي توصل الإغاثة للداخل السوري المحاصر.. وتقابلنا (محمد) اليوم هو أحد المسؤولين عن حملات إغاثة لمجموعة من الشباب المتطوعين المسؤولين عن الأسر المعدومة في تركيا التي تقيم خارج المخيمات.. ويكمل دراسة الإعلام في إحدى الجامعات في اسطنبول .

الكاتبة ابتسام شاكوش.. هذه الشخصية عندما قابلتها شعرت أمامها بالضآلة والتقزم.. هي كاتبة وأدبية لديها العديد من الكتابات والروايات التي حصدت الكثير من الجوائز الأدبية، يكفي أن تعرف أنها عضوة في رابطة أدباء العالم الاسلامي، وعضوة اتحاد الكتاب العرب، وحصلت على جوائز الرابطة واتحاد الكتاب أكثر من أربع مرات، كانت أحد الذين وثقوا لجرائم حافظ الأسد خاصة في فترة الثمانينات ونشرت توثيقاتها بعد الثورة.. غادرت سوريا بعد قيام الثورة إلى مصر علها تستطيع أن تخدم الثورة.. أقامت بها ثمانية أشهر فقط.. وبعد استغلال السوريين واستقطابهم في الأحداث في مصر وبعد الانقلاب غادرت إلى تركيا، عرض عليها الإقامة في منزل في إسطنبول مدفوع الأجر.. عرض عليها الهجرة واللجوء السياسي ولكنها رفضت وانتقلت للعيش في مخيم جيلان بينار.. القريب من المعبر الحدودي التركي مرشد بينار والذي يضم أكثر من ثلاثين ألف لاجئ.. وهي أحد المتطوعين في إدارة المخيم.. كل هدفها الآن إنشاء مركز ثقافي ومدرسة نظامية للأطفال في لمخيم جيلان بينار.. وهي من مؤسسي حملة منشتي سوا؛ لأن الأطفال في الشتاء الماضي عانوا من البرد، وتجمدت أطرافهم. ولم يلق المخيم الذي قررت ابتسام الإقامة فيه أي دعم من المنظمات الدولية، خاصة بعد تدفق النازحين بسبب العدوان الروسي الأخير.. الكثير خرجوا بثيابهم التي عليهم.. ولم يستطيعوا أخذ شيء من أمتعتهم هرباً بحياتهم وحياة عائلاتهم.

تعمل ابتسام على إنشاء مركز ثقافي تعليمي، ومدرسة نظامية للأطفال في المخيم خاصة أن الأطفال منقطعين عن الدراسة لأكثر من ثلاث سنوات.. لنقرأ لها رواية (أين رأسي) ورواية مازلت أبحث عن أبي .

يوسف.. أو (joo) كما أحب أن أناديه. كان مصوراً في القناة التي كنت أعمل بها.. سكوته اللافت، نظراته الحائرة.. كنت دوماً أحاول كسر حاجز الصمت معه.. بدأت الحوار معه: إنك تذكرني بأبي رحمة الله عليه.. تمتم بالدعاء لوالدي.. يبدو أنك مرتبطة بوالدك جداً.. أجبته أن أبي كان بطلي في هذه الحياة ومازال.. تنهد وقال: أنا هنا حتى لا يحزن أبي عليّ مرة أخرى.. لم ينتظر أن أبادره بسؤالي كيف؟ لقد عانى أهلي وخاصة أبي حتى يخرجوني من سجون نظام الأسد.. خرجت من السجن بعد أن دفع أبي فدية باع فيها جزءاً من الأملاك التي ادخرها لي ولأخوتي.. دفع الفدية وخرجت وقد خسرت أكثر من 20 كليوجراماً من وزني ولم يتعرفوا عليّ لدرجة أني وقفت أمام أبي ولم يعرفني إلا عندما عرفته بنفسي من كثرة الإصابات في وجهي وجسدي وشعري الكثيف.

يوسف أعاد تجربة السجن في مصر بسبب النظام أيضاً وسياسة عقيمة.. ولكني رغم كل ذلك سعيد أني لم أتورط في ظلم أو قتل وأني مرتاح الضمير.. اليوم يوسف في النرويج يكمل دراسته العليا في العاصمة (أوسلو)، كما أنه أحد أهم الناشطين ضمن منظمة إنسانية عالمية .

ماهينور المصري، لن أتحدث عنها هنا كونها أحد الناشطين المشهورين، لكن هذه الفتاة تملك قوة تخيف الظلم، هذا ما اكتشفه كل من يقترب منها. (ماهي) كما يناديها الجميع عندما حُكم عليها ظلماً بالسجن لمدة سنة وثلاث شهور.. حزن عليها العمال أصحاب الحقوق الضائعة في بلدي.. والنساء الغارمات.. أكثر من حزن أهلها وأصدقائها.. أذكر أنني مرة علمت أنها في زيارة لإحدى قرى الصعيد لزيارة إحدى أسر الشهداء.. تواصلت معي برقتها المعهودة وطلبت مني بعتاب المحب أن لا أكتب عن تلك الزيارة.. هي لا تحب أن تكون من الذين يتاجروا بهموم الناس.

أذكر أيضاً كم الألم الذي حدثتني به عن مجزرة النهضة على أرصفة أحد الأقسام ونحن ننهي إجراءات ترحيل الأسر السورية.. لن نستطيع العيش مع كل هذا الدم.. (ماهي) اليوم في السجن بسبب صمودها في وجه الظلم.. وتتحمل ذلك السجن وكل الإجراءات ضدها وضد كل السجناء.. ولكنها تملك سعادة في ضميرها.. تقلق النظام أكثر من أولئك الذين سرقوا وقتلوا ونالوا البراءة ولكنهم أسرى في ظلمهم ..

صديقتي (شموس) قررت أن تسافر إلى إفريقيا لتساعد الأطفال هناك.. وتعلمهم القراءة والكتابة.. هي تقيم في بريطانيا وفي كل إجازة لها أو بالأحرى في كل صيف تسافر الى هناك.. تخبرني كم أكون سعيدة عندما أعلم أحد الأطفال وأجده يقرأ كتاباً.. حينها لا أستطيع أن أصف لك سعادتي .

كل هؤلاء لديهم من الهمّ ما الله به عليم.. ولكنهم في النهاية يبحثون عن الشيء الذي يجعلهم يضعون رؤسهم على وسائدهم في نهاية يومهم.. وهم راضون.. وضمائرهم لا تعاتبهم على إيذائهم للأحياء.

خلاصة لعبة السعادة هي أن تبحث عن شيء يجعلك تشعر بقيمة تجاه نفسك، ولا تنس قواعد لعبة السعادة.

أولاً: لابد أن تعلمها للناس.. وهذه أهم قاعدة؛ لأنك كلما علمتها للناس كلما أصبحت ماهراً ومتقناً، وقد تصل إلى أن تكون من الذين يصنعون السعادة لغيرهم.

ثانياً: لعبة السعادة تكون ممتعة أكثر في حال شعرت باليأس، وأصبت بالخيبة، وتغدو أجواؤك كلها بغير ملامح.. وتجد وكأنك في حفرة من الرمال الناعمة ولا تستطيع الخروج منها.. فهذه اللعبة لم توجد إلا لتلك الظروف.. كما أن لعبة السعادة ستصبح مسلية أكثر إذا لعبتها في تلك الأوقات.

ثالثاً: قد تجد صعوبة في بداية اللعب بالسعادة.. فلا تقلل من أي خير قد تكون سبباً فيه حتى لو في مواساة صديق في موت قطته أو كلبه.. أو سقوط البوظة من يد طفل على الأرض لا تترد في مواساته والابتسامة في وجهه, أعرف صديقة تحدتني ذات مرة أن تمر أي مكالمة تليفونية دون أن تضحك المتصل أو أن تجعله يبتسم على أقل تقدير.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل