المحتوى الرئيسى

آلاء الكسباني تكتب: رسالة إلى من يهمه الأمر

11/12 10:29

طوال أعوامي الـ 23، لم أر أمي تبكي كثيرا، لطالما كانت تحتفظ بدموعها لنفسها، حتى يوم وفاة والدي، حب عمرها، ظلت صامدة ولم تبكِ أثناء مواراة جسده تحت التراب، ولا أثناء العزاء، إلى أن رأيتها في ذلك اليوم العاصف المطير تبكي بحُرقة، صارخة: “لم أعد أقدر على التحمُل”، بعد أن سقط ورق الحائط الذي يُغطي جدران صالة منزلنا جراء تسرُب مياة المطر إليه.

وبسبب إيماني الشديد بجلد أمي وصبرها في أعتى المصائب، لم أستسغ فكرة أن تبكي من شئ بسيط ويمكن معالجته بسهولة كهذا، وظل هذا الموقف لغزا مُحيرا لى، إلى أن أمسكت بنفسي أبكي بشدة بعد أن انسكب كوب الشاي الذي أعددته، لحظتها فقط، بعد أن لمست بيدي سقوط الدموع على وجنتي رغما عني، فهمت لما بكت أمى.

شعرت وقتها إن الكون كله يتآمر ضدي، حتى كوب الشاي، فهمت أنني مُستهلَكة للغاية من أي وكل شئ، لا أقدر حتى على الحديث، بداخلي خواء غير معروف سببه، يجثم على صدري ثُقل يُبطئ أنفاسي، يقبض على قصبتي الهوائية بكل قوته، فبكيت كما لم أبكِ من قبل ودعوت الله ألا يُحملني ما لا طاقة لي به.

وضعتني دموعي أمام الحقيقة التي حاولت أن أهرب منها وأن أورايها خلف أقنعة الجلد والقوة التي ارتديها أمام الجميع، لقد استُنفِذت، لم يعد بداخلي طاقة ولا روح لأفعل أي شئ، لم يعد بإمكاني أن أخدع نفسي أكثر من هذا، ضاقت دائرة الناس من حولي رغم كثرتهم، سقطتُ في نظر الكثيرين بسبب بعدي غير المقصود عنهم، لامني من ظنوا أنهم يستطيعون أن يعتمدوا علي للأبد، غير عابئين بالسؤال عن سبب التغيير المُفاجئ الذي يحدث لي، أصبحت أخاف النظر للمرآة، وأخفي هالات السهر السوداء بمساحيق التبرج، عدت للتدخين بعد أن أقلعت عنه قرابة ثلاثة أشهر، وانقطعت عن الكتابة التي هي أقرب اصدقائي.

قررت أن أنعزل عن الناس، فلم يعد بإمكاني لعب دور المُنقذة في حياة الجميع، خصوصا بعد أن أدركت أنه لا يوجد في حياتي من ينقذني، وجدت أن أفضل حل لحالة الاستهلاك التي تعتريني هذه هو أن أُلملم شتات روحي المُتفرقة وأصبح أنا مُنقذتي.

وبعد أن أحسست بشئ من الاتزان، أتيت حاسوبي بعقلٍ صافٍ وقلبٍ سليم، وقررت أن أكتب هذه المقالة، أو فلنسميها رسالة، رسالة إلى من يهمه الأمر، إلى كل شخص استهلكته متاعب الحياة وضربته أمواجها بحيث لم يعد لديه القدرة والطاقة على مجابهتها، هذه الرسالة اعترافات تشبه إلى حد كبير اعترافات الكنائس، اتطهر بها من كل ضُر مسني، من كل علاقة إنسانية استهلكتني، من الاكتئاب الذي يمسك بتلابيبي، والذي ظننت أنني بعيدة عنه كل البعد باتسامتي المشرقة التي لم تفارقني قط، هي أحداث فترة عصيبة مررت بها وأحكيها لأنني لا أرغب أن يمر بها آخرون، هي إلى حد كبير تذكرتي الرابحة للعودة للحياة من جديد، للكتابة من جديد.

أنا لم أكتب هذه الرسالة لأقول لكم الوصفة السحرية التي تنهي اكتئابكم، أو لأنصحكم بكلام من محاضرات التنمية البشرية “أحبب حياتك تُحبك”، بل أكتب لأقول إن الاكتئاب والاستهلاك النفسي حقيقي، يحدث للجميع خصوصا إن كانوا من ساكني هذا البلد الذي لا يعرف إلا الكآبة، وإن سخريتنا المستمرة من الأمر ومزايدتنا على بعضنا البعض ومُحاولاتنا البائسة لأن نُثبت لمن يشعر بالاكتئاب أنه مُدعي أشياء، مُرهقة لإنسانيتنا جميعاً.

أكتب هذه الرسالة إلى كل شخص سولت له نفسه أن يسخر يوما من أحدهم لأنه يشعر بالاكتئاب في منشورعلى الفيسبوك مُدعيا الفُكاهة، إلى كل أهل لا يقتنعون بالصحة النفسية أو بالطبيب النفسي، إلى كل شخص يشعر بالاستهلاك النفسي من آخرين يقتاتون على مشاعره وطاقاته، إلى كل شخص يُكابر ويظن أنه أقوى من الأيام، الاكتئاب لا يُفرق بين قوي وهش، هو يحلق فوقنا، يراقبنا باستمرار، ينتظر اللحظة التي يستطيع فيها أن يحطم كل دفاعاتنا النفسية حتى يهجم بكل شراسة.

من الأفضل ان نتوقف عن اللوم والسخرية من الاكتئاب والمُكتئبين، ناعتين إياهم بشحاذي الاهتمام، إن نسبة المُنتحرين في هذا البلد مُرعبة، تزداد يوما تلو الآخر، ورغم إصرارنا على ألا نصدق أن أسبابا تافهة للغاية هي ما تدفعهم للانتحار، ورغم إصرارنا على ألا نترحم عليهم لأنهم لا يستحقون الرحمة الإلهية، إلا أن هذا لم يردع غيرهم من المُكتئبين عن الانتحار، بل ينساقون إليه طوعا وكرها، مع عدم وجود طب نفسي حديث يساعدهم على تخطي تعبهم النفسي، فأغلب الأطباء النفسيين في مصر جُهلاء، لا يفقهون حرفا في الطب النفسى، ولا يقتنعون بمهنتهم أصلا، والمصريون أنفسهم لا يؤمنون بالحاجة للعلاج النفسي وينصحون حتى غير المسلمين بقراءة القرآن للعلاج من الاكتئاب!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل