مُحمد حسن يكتب: معارك الموحدين الكبرى في الأندلس (2-3) | ساسة بوست
منذ 26 دقيقة، 10 نوفمبر,2015
كان الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور قد استطاع فتح مدينة شلب في عام 587 هـ، وبعدها رجع إلى المغرب؛ لإخماد الثورات في أفريقيا، وفي نفس الوقت وقع الخلاف بين الملوك الإسبان “فلم يكن من الميسور أن يفكر أحد في القيام بغزوة مشتركة ضد المسلمين”.
وكان الملك (ألفونسو الثامن) ملك قشتالة لا يريد الاصطدام بالقوة الموحدية، وكان حريصًا على عدم استثارة غضب خليفتهم القوي المنصور، ولذلك كان حريصًا على الوفاء بالمعاهدة التي أبرمها مع الخليفة في عام 586 هـ.
إلا أن الوضع تغير بعد انقضاء أجل المعاهدة، وخصوصًا بعد تعيين (مارتن دي بسيرجا) مطرانًا لطليطلة، فقد أخذ ذلك المطران الجديد في العمل لإعداد حملة كبيرة ضد بلاد الأندلس، واستطاع أن يبث حماسة في نفس الملك (ألفونسو الثامن)، فقام ملك قشتالة اعتمادًا على انشغال الخليفة بحوادث أفريقيا، ببعث قادته إلى مختلف أنحاء الأندلس يغيرون عليها، ويثخنون فيها حتى بلغت غاراتهم أحواز إشبيلية، وقد بلغت تلك الأنباء الخليفة المنصور وهو في مكناسة يستعد للسير إلى أفريقيا، وعندها عدل عن رأيه فأرسل المدد إلى أفريقيا، وأمر أن تعد العدة للعبور إلى الأندلس.
ويُروى أن ألفونسو الثامن قد بعث إلى المنصور كتابًا يدعوه فيه إلى القتال، وهذا نصه “بسم الله الرحمن الرحيم، من ملك النصرانية إلى أمير الحنيفية، أما بعد: فإن كنت عجزت عن الحركة إلينا وتثاقلت عن الوصول والوفود علينا، فوجه إلى المراكب والشباطي أجوز فيها جيوشي إليك، حتى أقاتلك في أعز البلاد عليك، فإن هزمتني فهدية جاءتك إلى يديك، فتكون ملك الدينين، وإن كان الظهور لي كنت ملك الملتين والسلام”.
فلما قرأ يعقوب المنصور هذا الخطاب، أمر بالتجهيز للقتال والإسراع إلى التجهيز للجهاد، وأمر ولده وولي عهده السيد محمد بالرد على الخطاب، فكتب على ظهره الآية القرآنية الآتية: “ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون”.
شرع المنصور في التجهيز للقتال فور الرد على ملك قشتالة، وأمر الأجناد الذين اجتمعوا من كل صوب السير توًا إلى سبتة، وإلى غيرها من أماكن العبور إلى الأندلس، ودوت صيحة الجهاد في جميع أنحاء المغرب من سلا حتى برقة ضد النصارى، الذين غدوا خطرًا على الإسلام.
وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة كانت إجازة أمير المؤمنين أبي يوسف يعقوب البحر إلى الأندلس وذلك يوم الخميس الموافق عشرين من جمادى الآخر، وبعد عبوره البحر، نزل المنصور بطريف يومًا واحدًا ثم استأنف مسيره نحو إشبيلية؛ حيث استقبله في الطريق إليها واليها السيد يعقوب بن أبي حفص، وأقام المنصور في قصر البحيرة خارج باب جهور، وقام المنصور بمعاينة حصن الفرج الذي كان قد أمر بإنشائه خارج أشبيلية، وزار المسجد الجامع. وفي يوم السبت أمر بإجراء التمييز، وانتظم سائر الجند بالزي الفاخر، والعدد الكاملة، وركب الخليفة ومعه من حضر من الأبناء والقرابة والوزراء، واستعرض الجند صفًا صفًا، وقبيلًا قبيلًا، ثم أخرجت الرواتب والبركات، ووزعت على سائر الحشود.
وبعد أسبوعين من المكوث في إشبيلية خرج المنصور إلى قرطبة، فمكث فيها يومين ثم غادرها متوجهًا إلى قلعة رباح. وكانت أنباء جواز المنصور البحر إلى الجزيرة قد وصلت لعدوه ملك قشتالة، فجمع الكورتيس في مدينة كربون على عجل، وأخذ يتأهب للحرب بكل ما وسع، واستدعى أتباعه من الأمراء والأشراف في قواتهم، وحشد كل ما استطاع من الجند، وبعث إلى زميليه ملكي ليون ونافار في طلب العون فوعداه بذلك.
وبعد أن اكتملت حشود ألفونسو الثامن خرج من طليطلة واتجه جنوبًا إلى قلعة رباح، ومما هو جدير بالذكر أنه لم ينتظر توافد قوات ملكي ليون ونافار إليه؛ لأنه كان واثقًا من قوته ومن انتصاره على المسلمين مهما بلغت حشودهم، وتوجه ألفونسو لقلعة الأرك، وهي محلة صغيرة من أعمال قلعة رباح، تقع على مسافة أحد عشر كيلومترًا في غربي مدينة ثيوثيداد ريال الحديثة، وتقوم فوق ربوة عالية، تمتد سفوحها حتى نهر يانة، وكانت عندئذ هي نقطة الحدود بين قشتالة وأراضي المسلمين.
اضطر المنصور للمسير إلى الأرك لقتال القشتاليين، ويبدو أنه أراد المسير إلى طليطلة نفسها، وما منعه من ذلك إلا كون ألفونسو قد عجل بالمسير نحوه. ودارت بين الجيشين عدد من المناوشات الخفيفة كان النصر فيها من نصيب الموحدين، وحشد المنصور جيوشه بين قرطبة وقلعة رباح، وعسكر على مسيرة يومين من قلعة الأرك، وضرب معسكره في يوم الخميس الثالث من شعبان سنة 591 هـ / يوليو سنة 1195 م، وعقد مجلسًا من القادة والأشياخ؛ لبحث الخطط التي يجب اتباعها لخوض القتال، وأثناء الاجتماع قام القائد الأندلسي أبي عبد الله ابن صناديد باقتراح خطة لتنظيم الجيش الإسلامي، وهي:
1- تعيين قائد عام للجيوش الموحدية؛ لمنع الفوضى التي عانى منها الموحدون قبل ذلك في بعض الغزوات السابقة، ومنها غزوة شنترين.
2- تعيين قائد أندلسي على رأس القوات الأندلسية؛ لعدم رضا الأندلسيين عن تعيين قائد بربري عليهم.
3- أن تبدأ المعركة بقتال العرب والأندلسيين والمصامدة، في حين يبقى المتطوعة في مؤخرة الجيش؛ لكونهم غير مجيدين لفنون الحرب والقتال.
4- أن يبقى الخليفة ومعه قوات الحرس الخاص وراء أحد التلال القريبة من المعركة؛ حتى إذا ما تم إرهاق القوات القشتالية، يقوم الخليفة عندئذ بالهجوم.
وبالفعل لاقت تلك الخطة ترحيبًا وموافقة من الخليفة، فقام بتقديم الشيخ أبي يحيى ابن أبي محمد ابن أبي حفص وولاه القيادة العامة للجيش، بينما قدم أبا عبد الله ابن صناديد على معسكر الأندلس.
أما ألفونسو الثامن فقد استطاع أن يحشد حشودًا ضخمة جدًا بالنسبة إلى مملكته الصغيرة، وانضم إليه فرسان الداوية، وفرسان قلعة رباح؛ حتى إنه استطاع أن يحشد أكثر من مائة ألف مقاتل، والرواية العربية تقدر جيشه بثلاثمائة ألف، وأمام ذلك العدد الكبير رأى ألفونسو أنه لا ضرورة للانسحاب من أمام الموحدين، وأنه من العار الالتجاء إلى أساليب الحرب الإسبانية التقليدية، والتي تقضي بتجنب الاشتباك في المواقع والامتناع بالقلاع، ولذلك وجد ألفونسو أنه من الممكن أن ينتصر في معركة مفتوحة.
وفي ضحى يوم التاسع من شعبان عام 591 هـ / 18 يوليو سنة 1194 م، نشبت المعركة التي عرفت بعد ذلك بمعركة الأرك.
وكان المنصور قد رتب جيشه كالآتي:
أما القشتاليون فقد حمتهم قلعة الأرك والتلال التي حولهم من كل جانب، وكان الجيش القشتالي يحتل موقعًا عاليًا، وكانت هذه ميزة له في بدء القتال.
في البداية تقدمت قوات الموحدين نحو سفح التل الذي عليه ملك قشتالة، فتصدى لهم حوالي سبعة آلاف أو ثمانية آلاف فارس كلهم قد احتجب بالحديد والبيضات والزرد، وانقلب الدفاع القشتالي إلى هجوم جارف على قلب الجيش الإسلامي، واستطاع المسلمين أن يردوا هجمات القشتاليين مرتين، وفي الهجوم الثالث قام ألفونسو الثامن بتعزيز قواته المهاجمة بتعزيزات ضخمة، واستطاع القشتاليون عندها النفاذ في صفوف الموحدين، وقتلوا كثيرًا منهم وكان منهم القائد العام للجيش أبو يحيى بن أبي محمد بن أبي حفص، وفر العديد من المسلمين.
وعند تلك المرحلة بدأت ميمنة المسلمين المكونة من جند الأندلس وبعض بطون زناتة في الضغط على الفرسان القشتاليين الذين كان يقودهم ألفونسو الثامن بنفسه، واشتد القتال بين الفريقين، وسالت الدماء بغزارة، وكثر القتل في مقدمة القشتاليين التي اضطلعت بالهجمة الأولى، واستمر القتال على هذا النحو بعنف وشدة، حتى اضطر القشتاليون إلى التقهقر والفرار نحو الربوة التي تحتلها محلتهم، وبدت بوادر الهزيمة على القشتاليين.
ويصف ابن عذاري المراكشي بدايات المعركة وتحولها إلى الجانب الموحدي فيقول: “ولما رأى الكفار ما دهمهم من جنود الله تعالى لم يكن لهم بد من الإبلاء والمدافعة فهبطوا من مركزهم كالليل الدامس والبحر الزاخر أسرابًا وأمواجًا تتلو أسرابًا وأمواجًا تعقب أمواجًا إلا الصهيل والضجيج والحديد على وقع العجيج، فدفعوا حتى انتهوا إلى الأعلام فتوقفت كالجبال الراسيات فمالوا على الميسرة فتزحزح قوم من المطوعة وأخلاط من السوق والرجرجة فصعد غبارهم إلى الجو، فقال المنصور لخاصته ومن طاف به: جددوا نياتكم وأحضروا قلوبكم، ثم تحرك وحده وترك ساقته على حالها وسار منفردًا من خاصته، مقدمًا بشهامته ونجدته ومر على الصفوف والقبائل، وألقى إليهم بنفسه كلامًا وجيزًا في الهجوم على عدوهم، والنفوذ إليه، وعاد إلى موضعه وساقته”.
وبذلك يرجع ابن عذاري سبب الانهزام الأول للمسلمين إلى الميسرة وليس القلب، وكان القشتاليون يحاولون الفرار إلى الربوة للاعتصام بها، ولكن القوات الموحدية استطاعت أن تقطع الطريق عليهم، وأعملت فيهم التقتيل والضرب، ثم بدأ المنصور في مشاركة قواته في المعركة، “ولما علم أمير المؤمنين بما حدث، ضربت الطبول ونشرت الرايات، وفي مقدمتها اللواء الخليفي الأبيض، وزحف المنصور في القوات الموحدية نحو القشتاليين، تؤيده سائر الحشود والقبائل”.
واستمر ألفونسو الثامن ومعه عشرة آلاف فارس يقاومون الزحف الموحدي، وكان هؤلاء الفرسان قد أقسموا قبل المعركة فيما بينهم على عدم مغادرتهم لأرض المعركة إلا منتصرين.
واستمرت المعركة على اضطرامها المروع، والفريقان يقتتلان تحت سحب كثيفة من الغبار، وأرجاء المكان تدوي بوقع حوافر الخيل، وقرع الطبول، وأصوات الأبواق، وصلصلة السلاح، وصياح الجند، وأنين الجرحى. ومع أن الموحدين كانوا يتقدمون فوق أكداس من جثث جندهم، فإنهم أيقنوا أن النصر حليفهم. وفي النهاية فر ألفونسو الثامن مع عدد من فرسانه من أرض المعركة، وتوجه إلى طليطلة، أما باقي فلول جيش قشتالة فقد توجهوا إلى حصن الأرك بقيادة دون ريجولويث دي بسكاية، وكان عددهم حوالي خمسة آلاف رجل، فقام الخليفة المنصور بضرب الحصار على الحصن اعتقادًا منه أن ألفونسو قد اعتصم به، وفي النهاية تم تسليم الحصن للخليفة الموحدي، وتم تحرير آلاف من المسلمين من الأسر.
أما عن خسائر الجانبين في هذه المعركة، فقد قال يوسف بن عمر في تاريخه: كان عدد القتلى في هذه الغزاة زهاء ثلاثين ألفًا. وقال: واستشهد من المسلمين نحو الخمسمائة.
أما عن فرح المسلمين بالانتصار في موقعة الأرك، فيذكر صاحب البيان المغرب أن “جاءت هذه الواقعة هنيئة الموقع، عامة المسرة، كأكلة جائع، أو شربة عاطش، فأنست كل فتح بالأندلس تقدمها، وبقي بأفواه المسلمين إلى الممات ذكرها”.
استطاع الموحدون في معركة الأرك أن يحرزوا أعظم نصر لهم خلال حكمهم الطويل لشبه الجزيرة الأندلسية، وقد أراد الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور أن يتبع نصره العظيم بفتح بعض من المدن القشتالية، ولذلك أرسل قواته إلى أراضي قلعة رباح فاستولت على عدة حصون، بل إن الموحدين استطاعوا الاستيلاء على قلعة رباح نفسها، وقتل في أثناء المعركة أستاذ فرسان قلعة رباح (نونيو دي فوينتس).
Comments