المحتوى الرئيسى

موقع البعد الاجتماعى من التنمية الشاملة المتكاملة

11/09 09:29

تدعونا مناقشة مصطلح «العدالة الاجتماعية إلى البدء بتحديد موقع البعد الاجتماعى من منظومة حياة البشر فى المجتمع الذى يعنينا أمره، والذى ينتمى إلى المجموعة التى يصطلح على تسميتها «الدول النامية»، ومنها مصر. وقد ظهرت هذه التسمية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فى 1945، حينما قررت الدول المتحاربة التخلى عن استعمار الدول الأضعف لاغتصاب مواردها الطبيعية والاستئثار بأسواقها، تحاشيا لتجدد الحرب بينها بسبب التنازع عليها. وشاع حينذاك تسمية الدول حديثة الاستقلال وتلك التى عانت من تبعية للدول المتقدمة حدت من قدرتها على تجاوز التخصص فى القطاعات الأولية والمشاركة فى مجالات التصنيع: «دول متخلفة» underdeveloped أو «متأخرة» backward. واختارت لجنة شكلتها الأمم المتحدة فى 1951 لدراسة إجراءات للتنمية الاقتصادية لتلك الدول (برئاسة جورج حكيم مستشار وفد لبنان لدى الأمم المتحدة) «الفقر» معيارا لتعريفها. وكان تكليفها منصبا على الشق الاقتصادى للتنمية، باعتبار أن الاقتصاد كان هو الداعى للاستعمار المباشر، وظل هو الهدف للدول المتقدمة فى ثوب استعمار جديد غير مباشر. وانصبت الاختيارات على إجراءات تعززها مساعدات تقدمها الدول المتقدمة فى شكل معونات أو قروض ميسرة أو استثمار مباشر، تكفل جميعا رفع معدل النمو مع تكريس التبعية من خلال عدم التكافؤ فى المبادلات الدولية، عن طريق هيمنة الدول المتقدمة على أنشطة الوساطة التجارية والنقدية.

ولو أن التكليف كان بمساعدة الدول المتخلفة على إقامة دولة تنتقل إليها السلطة من المستعمرين وتمتلك القدرة على حماية الاستقلال الذى كافحت لتناله (ولنذكر مثلا انه كلف الجزائر مليون شهيد) لاتخذ الأمر منحى مختلفا تماما. وكان الأمر يقتضى نظرة شاملة لكافة أبعاد البلد المستقل وتتضمن: (1) بناء دولة بأنساقها السياسية والأمنية والتشريعية والقضائية، (2) وتطوير اقتصاداتها لإنهاء التبعية ورفع القدرة على الاعتماد على النفس وعلى تحقيق التكافؤ فى المعاملات الدولية والتعاون مع باقى الدول النامية، (3) وتقويم بنيتها الاجتماعية وقاعدتها الثقافية التى شوهها الاستعمار وخلق فيها طبقية تتجاوز ما يترتب على هيمنة الإقطاع والاحتكار من ظلم اجتماعى، بخلق فئات ترتبط مصالحها بالمستعمر وما يعنيه ذلك من غياب الوطن وفقدان شعور الانتماء والمواطنة، (4) وبناء شخصية المواطن الصالح وشعوره بالكرامة والاعتزاز بالنفس، وقدرته على المساهمة فى إقامة مجتمع سليم وتعزيز وعيه السياسى الذى يمكنه من المساهمة فى بناء دولة وطنية حديثة والاستعداد للتضحية لحمايتها، والبذل لتوفير متطلبات التقدم الاقتصادى والارتقاء الاجتماعى، والمشاركة فى منظمات المجتمع المدنى والحركة التعاونية وما يتطلبه هذا من تضامن وتكافل. (5) وتتطلب هذه المقومات وجود جهاز إدارى قادر على النهوض بأعباء المهام السابقة، وهو بطبيعة الحال يختلف عن ذلك الجهاز المتهالك الذى اعتمد عليه الاستعمار فى إدارة شئون الدولة بما يتفق وأطماعه، كما أنه يتجاوز الأجهزة التقليدية التى يعهد إليها بتنفيذ متطلبات السلطة فى دولة مستقلة، متقدمة كانت أو متأخرة. ولا بد أن تكون السلطة التنفيذية التى تديره قادرة على توجيهه لتنفيذ قراراتها، وإعداد الخطط والبرامج والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المناسبة وتنفيذها.

إن الأبعاد السابقة تتطلب العمل على صعيدين: الأول هيكلى يحدد الخطوات الواجب اتباعها لإعداد البنيات الملائمة لكل منها، وتنسيق تتابعها لكى تختصر الفترة اللازمة لاستكمالها، وتقليل الأعباء إلى أدنى حد. والثانى وظيفى يتم بواسطته تنفيذ المهام والوظائف المتعلقة بالجانب الهيكلى، ويستمر كعملية إدارة شئون الدولة بعد استكمال التغيير الهيكلى. وغالبا ما يترتب عليه تعديلات هيكلية محدودة بصورة تدريجية، وهو المألوف الذى تمخض فى الزمن الطويل عن تقدم متواصل بقوة الدفع الذاتى.

وسواء أخذت الدولة بالتخطيط للتنمية الاقتصادية أو تركت الأمور لقوى السوق، فإن عليها أن تحدد أسلوب التعامل مع القضايا الاجتماعية التى قد تعوق تحقيق ما تنشده من رفع مستوى معيشة جميع المواطنين أو تحدث مزيدا من الخلل فى البنية الاجتماعية يهدد السلطة السياسية ذاتها، وهو ما يثبته توالى الثورات والانتفاضات. وبوجه عام تتعدد الآفات الاجتماعية: فهناك قضايا مكافحة «الفقر والجهل والمرض التى ظلت الحكومات المصرية المتعاقبة منذ 1930 ترددها دون جدوى. وركزت قمة كوبنهاجن 1995 العالمية للتنمية الاجتماعية على مكافحة البطالة والتفكك الاجتماعى والفقر»، وظلت قمم الألفية تتابعها، كذلك توجه بعض الدول عناية لحل مشاكل فئات تتجاهلها التنمية مثل المرأة والأطفال، وقضايا الشباب والشيوخ، وكذلك المعوقين والمهاجرين والأقليات. كذلك قد تسعى الدولة إلى الاهتمام بقضايا قطاعية كتلك التى تتعرض لها بعض المرافق والأنشطة الخدمية لعدم إحرازها أولوية وفق معيار الربحية الذى يعتمده مبدأ الكفاءة الاقتصادية، رغم أهميته لبلوغ الأنشطة الاقتصادية أهدافها. من جهة أخرى، سواء فى دول متقدمة أو نامية يوجه اهتمام خاص إلى أقاليم متخلفة لأهداف اجتماعية، كمشروع وادى التنيسى الأمريكى، واهتمام مصر بأقاليم لم تصلها التنمية كسيناء.

كذلك تختلف المعالجات من حيث التوقيت: فمنها اللاحق، ذو الطبيعة الرعائية العلاجية للمشاكل، وتخفيف آثارها. وقد استحدث على ماهر وزارة للشئون الاجتماعية وأعد مجموعة من القوانين لتهدئة الفئات العمالية واجتذاب نقاباتها التى كانت تستخدم كأدوات صراع بين الأحزاب، إلى السراى، إلا أن نشوب الحرب العالمية توقف العمل بها. وفى بعض الأحوال تتحسس الدولة مشاكل اجتماعية فتعمل على استباق حدوثها وتفادى عواقبها. وكلا الأمرين يندرج تحت عنوان التسكين الذى أشرنا إليه فى المقال السابق. وفى كل الأحوال تظل المشكلة العويصة التى لا تحظى باهتمام يذكر هى التجريف الثقافى الذى يصيب المجتمعات فى ظل أنظمة لا تمتلك رؤية نهضوية ذاتية فتسعى إلى محاكاة الدول المتقدمة وقد تستمرئ التبعية لها، فتعمد إلى إحداث «مسخ ثقافى» يقوم على تقليد أعمى لثقافات مجتمعات مغايرة فى بنيتها الاجتماعية، وأخطر أشكاله يظهر فى نوعية المنتجات السلعية أو (وبالأخص) الخدمية، وفى مقدمتها منظومتا التعليم والإعلام وترجيح كفة استخدام اللغات الأجنبية. أو قد يحدث هذا بالتعامل السلبى، ليصاب المجتمع بـ«استلاب ثقافى»، فتتفاقم الفجوات بين شرائح المجتمع.

أما إذا كان المقصود هو إحداث ارتقاء اجتماعى، فإن على الدولة أن تعتمد المدخل الحياتى livelihood، الذى ينطلق من نظرة إلى الحياة الإنسانية بمختلف جوانبها، ويعمد إلى تطويرها على نحو يزيد بصورة مستمرة من رفاهية المواطنين، ويقلل بالتالى من احتمالات تعرض المجتمع لأى من المشكلات المشار إليها أعلاه. وهو يجمع المفاهيم السابقة ويتجاوز مجرد رفع المستوى المادى للمعيشة إلى تمكين المواطنين من التمتع بنوعية أفضل للحياة بمختلف أوجهها، وتحقيق أقصى قدر من التكافؤ داخل المجتمع كله بأفراده وأقاليمه، ومن التكافؤ داخل المجتمع بما يعزز التماسك الاجتماعى. وهذا ما دعا إليه عبدالناصر فى أول خطاب سياسى له فى 23/2/1953 بقوله: «إننا لا نبغى فقط نهضة عمرانية أو صناعية أو عسكرية، ولكننا نبغى نهضة بشرية». وبهذا سبق المجتمع الدولى بأربعة عقود فى الدعوة إلى التنمية البشرية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل