المحتوى الرئيسى

"سراي نامة" .. لا أحد يعلم حقيقة من هو السلطان!

11/08 18:25

“فإذا ما أفاء الله على الغزاة وكثر فى أيديهم المال وأسباب الترف نزع بعضهم الى اصطناع الموالى والمماليك ليتغلب بهم على من هم كفؤ له فى قبيلته ولهم فى السيادة مثل سهمه .. فيكون حينها سلطانا لا غازيا يتبعه المقهورون لا المهتدون”.

ولعل ما نعيشه من صعود رايات سوداء تطمح بخلافة المسلمين على أشلائهم، أو تنامي مظاهر الاستبداد بالعالم الإسلامي جملة، هو ما دفع الكاتب محمد عبدالقهار لتدوين أولى رواياته ، وهي وإن تماست مع زمن ضعف الدولة العثمانية، وتوغلت بدسائس ومؤامرات القصر الحاكم بعاصمة الخلافة، وهي أحداث موغلة بالتاريخ، لكنها عمدت لاستخلاص أسباب قيام الحضارات وسقوطها، وهي باقية ما بقينا على هذه الأرض.

الرواية حققت رواجا كبيرا بين القراء، وقد صدرت أولى طبعاتها عن دار “مدارات” المصرية للنشرقبل عامين، وهي الدار التي احتفلت مؤخرا بانطلاقها قبل ثلاث سنوات، استطاعت خلالها المضي بخط فكري هادف بعيدا عن النشر التجاري السهل .

أما مؤلف الرواية فهو باحث مجد في التاريخ الإسلامي وإن أظهر مهارة أدبية فائقة بروايته الأولى، تجلت بحبكة أدبية متقنة إلى حد إشادة كبار النقاد وترشيحهم للعمل للجوائز الكبرى، إضافة للغة رصينة عذبة ، تمزج التراث بالتصوف في غير تقعر، وتنهل من معاجم التاريخ والعسكرية.

رسم الراوي شخصيات القصر بمهارة واستخدم تقنية تقطيع المشاهد المشابهة للسينما، وتمتاز بإضفاء التشويق، ونوع الراوي بين استدعاء الماضي البعيد منذ بدء الخليفة وتوالى الأنبياء ووصولا لزمن الفاتحين، ويمزج ذلك بزمن الرواية الحقيقي بأواسط القرن السادس عشر الميلادي ، بينما الغرب المسيحي والقازاق الآسيويين والصفويين الشيعة يتربصون بالدولة الإسلامية التي بدأت هياكلها في التداعي تدريجيا ..

وفيما ارتكزت أغلب المشاهد على الأحداث، جاء بعضها متوغلا بعمق الشخصيات وصراعاتها النفسية، ومعظمهم سلاطين القصر العثماني، وقد اعتمد السرد بلغة الأنا العليمة والمخاطب، فجاءت الأولى صادقة نابعة من حوار الذات مستجلية نقائصها، وجاءت الثانية كاشفة للأحداث ومجسدة لصنائع الملوك مع الحاشية والرعية والأعداء.

عنوان الرواية ” سراي نامة” يعني ” كتاب القصر” ، وقد أتبعه الكاتب بعنوان يمهد لأجواء الرواية “الغازي.. والدرويش” حيث تظهر الرواية الصراع بين الفئتين، من أراد الدين ومن أراد الدنيا من سلاطين بني عثمان، وقد شمل كتاب القصر أحكاما عجيبة، فنجده يتضمن قوانين محمد الفاتح بأن يقتل كل سلطان جديد إخوته لمنع الفتنة والتكالب على العرش!! ، وبعض النظر عن نسب ذلك القانون، فقد ثبت تاريخيا بالفعل أن أغلب سلاطين الدولة العثمانية طبقوا قانون الفاتح بحذافيره! وتم شنق أخوة كل سلطان جديد بحبل من حرير ودفنهم بما يليق بجلالهم !! وقد كان هذا التقليد الوحشي متبع بالعديد من الممالك الأوروبية أيضا!

الرواية ليست سهلة، فهي تستلزم إلمام جيد بتفاصيل الحقبة التاريخية التي تدور بأرجائها؛ وبشكل عام فقد كان سليمان القانوني عاشر خلفاء الدولة العثمانية،  قاد فتوحات كبرى بأوروبا ولكن فيينا اعجزته بعد حصارها 1529م ، كما ضم مناطق واسعة من الشرق الأوسط ووصل للجزائر، وسيطرت الأساطيل العثمانية على البحرين الأحمر والمتوسط والخليج العربي، وأدخل إصلاحات هامة بالتعليم والقضاء ، كما برزت روائع العمارة الإسلامية بعصره، وقد طبق القوانين بالعدل وأتاح فسحة للأقليات من السباهية “الخيالة” والانكشارية “العسكريون” الذين جيء بهم من أصقاع شتى .

تزوج السلطان من فتاة روسية يهودية تدعى “روكسلان” تسببت بإثارة الفتنة بالقصر حتى تمكنت من تولية ابنها سليم الخلافة من بعد أبيه، وبلغ تجبرها أن ساهمت بمقتل ابنها “بايزيد” وأبنائه الأربعة بعد وشاية أحد الحاشية بأنه أراد الانقلاب على أبيه.

تولى “سليم الثاني” الحكم وبدأ الضعف يدب بأرجاء البلاد خاصة مع تصاعد نفوذ الوزير الصقلي، وبدأ الانكشارية بالتمرد، وتراجع العدل بالبلاد، وبرغم أنه سعى لاستعادة الأندلس من الاسبان، لكن مجمل عصره شهد انتكاسات حادة، ثم تولى ابنه مراد الثالث الحكم خلفا لأبيه عام 1575 فقتل جميع أخوته ليمنعهم من الوصول للسلطة، ثم تبعه ابنه السلطان محمد الثالث وسار على درب أبيه فلم يخرج للجهاد على رأس الجيش كعادة سلاطين بني عثمان الأوائل، وهذا بدوره دفع الانكشارية للتسلط في عهده والنهب على نطاق واسع، وبعد هزيمته في بوخارست أمام أوروبا بدأ أفول نجم العثمانيين.

وقد تزوج هذا السلطان من جارية بندقية وأنجب منها محمد الثالث الذي صار خليفة من بعده 1595، وقام هو الآخر بقتل أخوته الذكور وساد الفساد بعصره لكنه تمكن من السيطرة على ثورة الخيالة والانتصار على الجيوش المجرية بمعركة كرزت الشهيرة.

وتبدأ أحداث الرواية مع عهد السلطان أحمد الأول نجل السلطان محمد الثالث، وهو الذي أعاد الكثير من الأراضي للصفويين الشيعة ، وكانت ميزته الحقيقية أنه قرر كسر “قانون الفاتح” بقتل الأخوة والإبقاء على أخيه مصطفى الأول، وهو وإن تركه حيا ولكنه أجبره على المعيشة بقفص مسجونا مدى الحياة!

ولما مات السلطان أحمد، تولى أخوه السجين الحكم، وكان له ماض عسكري عريق، قاد فتوحات ولقب بمصطفى غازي، ولكنه وبعد مأساته أصبح درويشا هائما لا يصلح للسياسة،  فتم خلعه وتولية ابن أخيه عثمان الثاني عام 1618 والذي بدأ بالخروج على رأس الجيوش وتمكن من إحراز بعض الانتصارات ولكنه أخفق إجمالا في إصلاح أوضاع البلاد لأنه أراد توسع الإمبراطورية لا الجهاد ضد الأعداء  ، وتم قتله على يد الانكشارية وتولية عمه مصطفى الغازي من جديد والذي ارتضى التخلي عن الحكم بعد أن عزله ابن أخيه مراد الرابع بالتعاون مع الانكشارية.

شريعة الغاب .. لا الرب

تبدأ الرواية بتخيل فانتازي يداهم أخو السلطان أحمد، والذي عرفناه بـ”مصطفى” في أحد الأحلام، فهو يتخيل الأنبياء وقد انعكست آيات الكون أمامهم، فغرقت السفينة بنوح وأحرقت النيران إبراهيم عليهما السلام هكذا، ويفيق على واقع مناقض تماما للمثاليات، فالفاتحين العظام سنوا قوانين لقتل أبنائهم وأعدائهم بغير حق، وبعضهم انغمس بالفساد وترك الجهاد وشئون البلاد لوزراء طامعين.

وفي الرواية يبرز عدد كبير من المعلمين الشرعيين والفقهاء، بعضهم فقهاء سلاطين يفتون بما يوافق الهوى، وبعضهم يجاهرون بالحق كما عرفوه ولو على أرواحهم، ومن النوع الثاني يبرز نموذج عزت أفندي والذي تعرض للقتل بتهمة إفساد عقل مصطفى غازي، أخو السلطان، وقد كان يشرح له من كتب “الآخيان نامة” وهي بالمناسبة حيلة فنية من الراوي ، لخص بها التراث الإنساني من العصر العثماني في أصول الحكم العادل .

لكن عزت أفندي كان له أخ يدعى “الخوجة عمر” وكان معلم السلطان “عثمان” يبرر له بعض أفعاله وإن سعى لتهذيبه أحيانا لكن السلطان كان لا يأبه بتعاليم.وذلك بخلاف أسعد أفندي الذي ينطبق عليه وصف “فقيه السلاطين” يرى أن قتل الأخوة مباح طالما أنك تحقق بذلك استقرار البلاد وتوقف الفتن!!

وتبرز شخصية “الأمير محمد” أخو السلطان عثمان الزاهد بالسلطة كمعادل موضوعي لهذا السلطان النهم ، وقد تعلم على يد سليمان أفندي المباديء الصوفية، فكان يدور مع الدراويش يتجرد من كل شهوة وينغمس بروح الوجود ، يسعى لبسط العدل بدلا من الجور، أحبه الرعية، لكنه لم يقو على مواصلة السياسة، وحين بدأت خطبه ضجيجها كان سيف أخيه أسبق لرقبته!

لقد جعل الراوي شخصية هذا الأمير مماثلة تماما لعمه مصطفى غازي، وهو هنا يشير إلى أن الصوفية وصلت لمرحلة الدروشة بعد أن كانت دافعا للجهاد! لقد وصلا لمرحلة تجل يتوه بها العقل، مع أن الدين جاء لتزكية العقل ودفعه للفعل.

على النقيض جاءت شخصية الشيخ يحيى الذي أقصته حاشية السلطان أحمد وتلميذه برهان الدين ليمثلا صوت الحق، وقد هتف بخلع السلطان الجائر والصدر الأعظم السفاح، و قال أن الخلافة الراشدة جاءت محصلة لاتباع منهاج النبوة، ولما اشتدت العصبيات بين الامة صارت ملكا عضودا منذ معاوية فلا امراء غير الحكام ولا جيش إلا جيشهم ولا علماء، ودعا لنصحهم بالحسنى بدلا من اعتزال الناس والإشارة بالعصا : هذا مؤمن وذاك فاجر !

تعج الرواية بروائع الحكمة التي تدعو للعدل كأساس للملك ، وسيقرأ الشيخ برهان الدين من كتاب الآخيان : “كلهم عبيد؛ سيدهم الشهوة ونخاسهم الشيطان” وهو يذكره بقوم موسى الذين تاهوا حين تركوا الإصلاح بالأرض، وحين تركت الأمة سيد الشهداء الحسين ليقتل ظلت بأغلال يزيد! . والآخيان كتاب تركه رجال عاشوا بعهد الخلافة العثمانية وتفرغوا للتأمل والعبادة، وهو يحذر السلاطين من حياة الترف والجواري وتطاول البنيان وأكل السحت وإهمال مشورة الرعية .

كان مصطفى كالفراشة تهجر الظلام لتعانق النار ، باحث عن الأنوار الإلهية، يعوضه الله سجنه بشمس متجلية بداخله، لكنها لم تكن تبصره وإنما تعميه! وتكثر بالرواية الاقتباسات من جلال الرومي، ذلك الصوفي الفريد، والذي قال بصهر الوجود مع راعي الوجود .

وبالفعل تجيد الرواية الاقتراب من حقيقة ذكرها رحالة إيطالي للسلطان أحمد الأول :”لا أحد يعلم حقيقة من هو السلطان” ، وهل تفريطك بنفسك كي تحظى بالسلطة يعد مكسبا حقيقيا يدوم؟!

نساء القصر دأبن على زرع المكائد لتولية أولادهن الخلافة بعد السلطان احمد، وقد عمدت كل من “كوسم” و”هندان” زوجتا السلطان أحمد للتواطؤ مع الحاشية من أجل تحقيق مأربهن، وباستثناء “صفية” ابنة هندان وزوجة قائد الانكشارية “داود” لم يكن هناك من يحمل أية ذرة من مشاعر إنسانية أو قيم، وكان شره السلطة يصل بالنساء للتحريض على قتل ألأبناء لمنع وصولهم للسلطة!

“داود” شخصية بارزة بالرواية، فهو أغا الانكشارية، تم جلبه من بلاده وإخصائه للخدمة بالقصر على عادة هذا الزمان، كان ماهرا بالحياة العسكرية وذو دهاء سياسي فزاد نفوذه وعلا شأنه حتى قاد ثورة كبرى ضد السلطان عثمان بنهاية الرواية، ولكن مصيره سيكون القتل من قبل من اعتادت استغلاله لصالحها، إنها كوسم مهبكير جارية السلطان أحمد الأثيرة ووالدة السلطان مراد الرابع والذي استطاع إنجاز العديد من الفتوحات والإصلاحات وتنتهي الرواية بتوليه العرش ولكنه عرف كحاكم دموي بسط الاستقرار عبر بحر الدماء وقتل الجميع، جميع ذكور العائلة الحاكمة، وقادة الانكشارية والمتمردين، حتى أن أخيه ابراهيم نجا بأعجوبة من القتل وكان آخر من بقي للحكم !! ذلك هو ميراث الدم الذي تبنته والدته وتبناه من قبل كل من عبروا بكرسي الحكم وطبقوا قوانين السراي، وهؤلاء من خرجوا جثامين لا حول لها ولا قوة من فرجة باب وحيد بالقصر يدعى “باب السعادة” !

يكرس الروائي فصولا عديدة بساحة المعارك العثمانية البولونية، والحقيقة ان الكنيسة كانت تفعل بأوروبا ما يفعله القصر بالخلافة الإسلامية، فكل شيء مناقض للعدل وكنز الذهب على أشده، وإرسال جيوش جرارة من أجل إثبات القوة لا عقيدة جهاد، حتى صار معتقدهم أن الرب يرضى عن أصحاب الثراء، وكأن الراوي يشير بنا إلى أن أزمة التكالب على السلطة وتغليف السعي إليها بأغلفة دينية ، ظاهرة شهدتها كل الشعوب من مختلف الديانات.

كما تظهر الرواية كم كانت أوروبا ممزقة بين الأعراف الديمقراطية الناشئة، والتي جاء معها البرلمان، وأصبح الملك مرغما على أصواته، وبين مطامع الملوك بالتوسع واستعادة الحقوق السليبة، ويظهر كيف كان النبلاء مقدمون على الرعية في كل شيء.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل