المحتوى الرئيسى

تظاهرة «الانحياز للأشياء».. سينما اليومي والتفاصيل الصغيرة

11/07 01:32

تتوالى المهرجانات السينمائية في بلجيكا. المعروف منها ثابتٌ في مكانته الدولية («المهرجان الفرنكوفوني» في نامور، «مهرجان الحبّ» في مونس، «مهرجان الفيلم البوليسي» في لياج، «المهرجان الدولي في بروكسل»، وغيرها). بعضها الآخر ينشغل بمحلّية معيّنة، مفتوحة ـ في الوقت نفسه ـ على العالم. قبل يومين اثنين، تبدأ الدورة الـ 16 لمهرجان «التصوير بأي ثمن كان»، المُقام مرة واحدة كلّ عامين، والمعني بتقديم أفلام وثائقية، والمُنَظَّم بإشراف جمعية «غْزارا» الثقافية اليسارية المعنية بالشؤون السمعية البصرية في العاصمة البلجيكية.

مؤسِّسة المهرجان ألمانية الأصل تدعى ستيفاني بوديان. تأتي إلى بروكسل قبل نحو 20 عاماً لتعلّم الرقص على يدي آن تريزا دي كيرسمايكر، قبل أن تنتسب إلى جامعتي «بروكسل الحرّة» و «لوفان» لمتابعة دراسات متنوّعة في الفنون والثقافة، وفي الآن نفسه تُطلق أكثر من نادٍ للسينما فيهما، وخارجهما. لاحقاً، تبدأ مساراً مهنياً كـ «مُبرمجة مستقلّة» مع «معهد غوته» في بروكسل، تُنظّم تظاهرة «السينما الألمانية الحديثة الأخرى» (حزيران 2015). مع الـ «سينماتيك» البلجيكية في المدينة نفسها، تُنظِّم «الفن الصعب لتصوير الرقص» (أيلول 2015). تقول: «أهتمّ كثيراً وأساساً بالأرشيف. أحبّ للغاية فكرة التنقيب عن المخفيّ وكشفه».

التظاهرة الجديدة صنيعة تعاونها مع داريو مرشيوري (أستاذ مشرف على المحاضرات في جامعة ليون الفرنسية): «لديّ حماسة كبيرة للعمل. أملك أفكاراً لمشاريع صغيرة متعلّقة بكيفية استخدامنا الأشياء في حياتنا اليومية دائماً، هي الأشياء الحميمة جداً. نريد معرفة كيف يُمكن لهذا أن يحدث في السينما (أو كيف تتعاطى السينما معه). نحن نعلم بوجود أفلام رائعة في المجال هذا»، تقول بوديان في حوار منشور في الصحيفة اليومية البلجيكية «بلجيكا الحرّة»، في 5 تشرين الثاني 2015. التظاهرة هذه تنضوي في إطار عام يُختَصر بالعنوان الأصلي: «الانحياز للأشياء». يُحيل هذا إلى مجموعة شعرية للفرنسي فرنسيس بونج (1899 ـ 1988) بالعنوان نفسه (1942)، تكشف قدرة النصّ الشعريّ النثريّ على مقاربة الأشياء اليومية الحميمة، مبيّناً خصائصها ومميّزاتها. لا تختلف التظاهرة السينمائية عن المقاربة تلك. تختار 40 فيلماً، معظمها روائي قصير، تُعرض في جلسات عديدة، تختصّ كل واحدة منها بموضوع محدّد مرتبط باليوميّ. التقسيم هذا منبثقٌ من رغبة في أن تجيب الأفلام على المواضيع/ العناوين العامة تلك «بطريقة منطقية»، كما تقول بوديان، علماً أن الأفلام المختارة مُنتجة في الفترة القائمة بين العام 1908 و «يومنا الحاضر». الاهتمام منصبٌّ على «تبيان مسار تطوّر النظرة للأشياء الحياتية اليومية تلك عبر عقود من الزمن».

مثلاً، هناك «موضوع الحياة اليوميّة»، الذي يحتوي على أفلام معنيّة بالمجتمع الاستهلاكي، من ستينيات القرن المنصرم لغاية العصر الآنيّ. هذا جزءٌ من الحكاية السينمائية للتظاهرة، أو بتعبير أدقّ: «استعارة للمجتمع الاستهلاكي هذا». أفلام عديدة تُسلّط ضوءاً على ما يحدث في صلب المجتمع المذكور. مثلاً: «فوضى مجيدة» (2011) للسويسري أولريك غروسّنباكر (1958)، الذي يُصوِّر 4 أشخاص مُصابين بمرض يحول دون قدرتهم على «رمي» الأشياء، ويتابع معهم تطوّر المرض إلى أن يبلغ مرحلة لا يستطيعون بسببه أن يخطوا خطوة واحدة إلى الأمام.

يُمكن للموضوع أن يتناول العلاقة بالتاريخ: «الملعقة الصغيرة» (1961) للفرنسي البرتغالي كارلوس فيلارديبو (1926)، الموصوف في تعليقات نقدية بأنه «قصيدة حبّ سينمائية»، انطلاقاً من العثور على ملعقة مصرية صغيرة في متحف «لوفر». وأيضاً «أركيولوجِيَّا» (1967)، الذي يُصوّر فيه مخرجه البولوني أندره برزوزوفسكي (1932 ـ 2005) علماء آثار ينقّبون في بقايا «أوشفيتز»، المعتقل النازي الأشهر في «المحرقة اليهودية» أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). الفيلم الألماني «5 ونصّ ضرب واحد نصّ متر» (1998) للثلاثي بربارة غاسبر وغريغور ولوثر شوستر مهتمّ بـ «ارتحال» طاولة كبيرة من مُلكية صحيفة يسارية إلى جماعة نسوية.

من ناحية أخرى، هناك استعادة لأفلام قصيرة يرغب الثنائي بوديان ومركيوري «حثّ» المشاهدين المهتمّين بالسينما على اكتشافها، أو على إعادة اكتشافها، يُنجزها مخرجون يُصبحون، بعد مرور أعوام على تحقيقها، سينمائيين حاضرين، بقوّة، في المشهد الدولي: الفرنسي جاك ريفيت (1928)، الذي يُعرض له «ضربة راعٍ» (1956)، المكتوب مع مواطنه وزميله في المهنة كلود شابرول (1930 ـ 2010)؛ والفرنسي البولندي رومان بولانسكي (1933)، الذي اختير من أعماله القديمة «رجلان وخزانة» (1958)؛ والإيراني عباس كياروستامي (1940) وشريطه «حلاّن لمشكلة واحدة» (1975)؛ والفرنسي أيضاً آلان كافالييه (1931) و «رسائل آلان كافالييه» (1982)؛ والألماني تيم تكوير (1965) مع «رجلٌ يتجسّد فيها» (2008).

تكشف التظاهرة، المنتهية دورتها الأخيرة هذه في 10 تشرين الثاني 2015، عن تفاصيل خفيّة وجميلة في ثنايا الرؤى السينمائية لمخرجين مهمومين بأمور الحياة اليومية، محوّلين الهامش إلى متن بصري، وساعين إلى جعل العادي جداً والبسيط جداً فعلاً إبداعياً، عبر الاشتغال عليه ومعه في محاولة رسم صُوَر جديدة لمعنى ارتباط الصورة الفنية السينمائية بالحياة اليومية: يختار ريفيت معطفاً من فرو محوراً لكشف خفايا العلاقات الإنسانية والعاطفية والشبقية، بتكثيفه السرد، وتحويله العادي إلى مدخل لولوج عوالم وتفاصيل. ويضع بولانسكي خزانة ملابس في واجهة الحدث الدرامي، ما يؤدّي إلى تفكيك مجتمع ريفي ـ بحريّ، إثر محاولة رجلين إهداء الخزانة هذه، اللذين يحملانها معهما أثناء «خروجهما من البحر»، إلى ناس البلدة الرافضين «الهدية» لألف سبب وسبب. ويرتكز كياروستامي على دفتر مدرسيّ، يُعيده تلميذ إلى صديقه في الصفّ، فينتبه الأخير إلى أن الدفتر تالفٌ، وذلك بهدف قراءة تشعّبات بيئة اجتماعية متكاملة. كافالييه يروي أمام كاميراه كيف يستخدم الورقة البيضاء ليسرد همومه وقلقه وانفعالاته الخاصّة.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل