المحتوى الرئيسى

الحلم الزائف: لماذا لا تحتاج دول «العالم الثالث» إلى التنمية؟ - ساسة بوست

11/06 12:34

منذ 4 دقائق، 6 نوفمبر,2015

في يناير 1949 وبعد سنوات قليلة من الحرب العالمية الثانية التي شاركت فيها الولايات المتحدة الأمريكية المشاركة الأبرز باستخدام السلاح النووي للمرة الأولى والأخيرة حتى الآن في تاريخ البشرية؛ صرّح الرئيس الأمريكي هاري ترومان خلال خطاب تنصيبه لفترة رئاسية ثانية، بأنّ “التنمية هي الحل الوحيد لمشكلات الأرض، والسبيل للحاق الأمم الجديد بالأمم المتقدمة”.

هو نفسه ترومان الذي أعطى أمرًا مُباشرًا بقصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بالقنبلة النووية، بعد أشهر قليلة فقط من انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية. وهو أيضًا نفس الرئيس الأمريكي الذي اتجه نحو استخدام المنح والقروض المالية لدول أوروبا بعد الحرب، لفرض تصور بلاده عن الاقتصاد العالمي، عبر اتفاقية نظام بريتون وودز، التي وقعت 44 دولة عليها مُجبرة، مُقابل مساعدات مالية أمريكية. هذا النظام رسم شكلًا جديدًا لاقتصاد عالمي يُمثّل الدولار فيه العمود الفقري.

اقرأ أيضًا: هل تخشى أمريكا تحقيق الديمقراطية في مصر؟

مع ما سبق، وغيره، هل حقًّا التنمية هي الحل الوحيد لمشكلات الأرض كما زعم ترومان؟ فولفجانج ساكس وزملاؤه يرون غير ذلك، في كتابهم “قاموس التنمية.. دليل إلى المعرفة باعتبارها قوة” الصادر عام 1992.

بالتعريف اللغوي التنمية اسم مصدره نمّى أي زاد وكثّر. وتأتي أيضًا بمعنى طوّر وربما أيضًا قوّى، فيُقال في المعنى الأوّل: نمّى ماله أي زاده وأكثره، ويُقال في المعنى الثاني: نمّى الأمر أي طوّره، ويُقال في الثالث: نمّى الذاكرة أي قوّى ذاكرته.

وبالإنجليزية تنمية تعني Development وهي نفسها الكلمة المُستخدمة للإشارة إلى “التطوير” الذي يتضمّن مجالات واسعة تحته، ما دعا للتفصيل في التعريف الاصطلاحي للتنمية ومجالاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الإنسانية.

ويذهب البعض إلى اعتبار التنمية مفهومًا غامضًا، من جهة لكونه واسع الدلالة وينطوي على العديد من المساحات التي يُمكن لهذه التنمية أن تكون فاعلة فيه، ومن جهة أخرى لكون التنمية نفسها في اللغة تعني جُملة من المرادفات يتعدد استخدامها فضلًا عن كونها تحتاج لتعريف مُنفصل لها. على سبيل المثال إذا قُلنا إن التنمية تعني التطوير فهُنا ثمة العديد من المشاكل التي ستواجهنا في تحديد تعريف للتطوير على المستويين النظري والتطبيقي، وكذلك إذا قُلنا إن التنمية تعني التحديث، فالتحديث كمفهوم في حد ذاته يُثير جدلًا فكريًّا.

للتوضيح أكثر: ثمّة تعريف للتنمية على أنها “عملية الانتقال بالمجتمعات من حالة ومستوى أدنى إلى حالة ومستوى أفضل، ومن نمط تقليدي إلى آخر متقدم كمًّا ونوعًا، وتُعد حلًّا لا بد منه في مواجهة المُتطلبات الوطنية في ميدان الإنتاج والخدمات”. بتحليل نصّيّ للتعريف نجد أنه يفترض وجود نموذج حاضر -ولو على المستوى النظري- للحالة الأفضل للمجتمعات والتي اعتبر أنها تُساوي التقدّم، بالتالي ثمّة افتراض كامن في التعريف بأن هناك نموذجًا حاضرًا لهذا التقدم، هذا النموذج يضمن لنفسه ولمن يتبناه حلولًا للمتطلبات الوطنية في الإنتاج والخدمات، وفقًا للجزء الثاني من التعريف.

بهذه الطريقة يتجاهل التعريف كون الأفكار البشرية الخاصة بالأفضلية والتقدم مختلفة أصلًا. على الأقل يمكن القول إن هُناك فكرتين أساسيتين عن الأفضلية والتقدم انقسم العالم حولهما عشرات السنوات إلى مُعسكرين: أحدهما يُمثّل الشيوعية، والآخر الرأسمالية.

ومن هنا ينطلق كتاب قاموس التنمية في نقده لفكرة التنمية التي احتلت النصف الثاني من القرن العشرين، واستطاعت تقسيم العالم إلى جنوب وشمال، لا جُغرافيًّا ولكن “تنمويًّا” فأضحت دول الجنوب أو ما بات يُطلق عليها الدول النامية/ المتخلفة/ دول العالم الثالث تُجاهد على مدار عشرات السنوات للحاق بركب الشمال أو المنارة الهادية إلى شاطئ الأمان. ومع هذا، وبعد مرور أكثر من نصف قرن، ما زالت الدول النامية نامية، وما زال مُلتصقًا بها لقب “دول العالم الثالث”، فيما ما زالت دول العالم الأول دول العالم الأول أو الدول العُظمى، رغم أن بعضًا من الوقائع التي لا تخفى على أحد تُؤكد أن هذه الدول بدورها لم تستطع حل كل مشاكلها.

وهكذا يُمكن وضع تعريف شامل للتنمية باعتبارها رُؤية كلية تُمثّل إدراكًا يشكل الواقع، وخرافة تريح المجتمعات، وخيالًا يطلق المشاعر، كما يقول فولفجانج ساكس المحرر الأساسي للكتاب.

لكلمة التنمية وقع السحر على الأذن والنفس البشرية. ببساطة شديدة من الذي لا يقبل التنمية لمجتمعه وبلده؟ غالبًا لا أحد يعتبر نفسه صالحًا سيرفض ذلك، ولذا كانت التنمية بمثابة العلاج السحري الذي افترض الجميع أنه حل لكل المشاكل. لكن الواقع يختلف عن ذلك، حتى على المستوى النظري.

كما تحدثنا في تعريف التنمية أو المقصود بها، ينجلي لنا أنها مثلت في الفترة من إعلان ترومان ولنهايات القرن الماضي أو ربما حتى الآن؛ رؤية خاصة للعالم تفترض أن “التقدم” يسير في اتجاه خطّي من الشمال إلى الجنوب. الشمال حيث الدول المتقدمة أو تحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية، وجنوبًا حيث الأمم الجديدة بتعبير ترومان، رغم أنّ هذه الأمم الجديدة، مُعظمها أقدم من أمريكا!

وبالنظر إلى توقيت إطلاق إعلان ترومان حول التنمية، نستطيع استنتاج الدوافع والاتجاهات الكامنة وراء هذا الإعلان. يتضح ذلك جليًّا من تصريح ترومان بأن “الإمبريالية القديمة والاستغلال الأجنبي من أجل الربح لا مكان لهما في خُططنا المستقبلية، وما نسعى إليه هو برنامج للتنمية يقوم على مفهوم التعامل العادل الديمقراطي”، وما يتضمنه هذا التصريح من تناقض بينه وبين واقعتين بارزتين سابقتين عليه، الأولى تدمير اليابان بقنبلتين نوويتين، والثانية استغلال حاجة الأمم الحليفة، وفرض تصور أمريكي للنظام الاقتصادي العالمي، وكلا الواقعتين تأتيان في إطار الحرب العالمية الثانية.

بوضوح أكثر يُمكن فهم الأمر بتعبير جوستافو إستيفا (محرر فصل التنمية في الكتاب) القائل بأن “الحرب العالمية الثانية أتاحت للولايات المتحدة الفرصة لتحقيق المهمة التبشيرية التي ورثها الأبناء من الآباء المؤسسين، ألا وهي أن تصير بلادهم العلامة الهادية على التل العالي”. ومن ثمّ كانت التنمية باعتبارها مرجعًا أو قُل نموذجًا ساهم في تبرير شكل العلاقة الفعلية بين الشمال “المُستغِل”، والجنوب الفقير “المُستَغَل”.

وفي المُقابل لم تُفضِ التنمية إلى أي جانب بنائي ملموس، والشاهد بقاء الأمم المستهدفة من هذا البرنامج على حالها. بل استخدمت الولايات المُتحدة التنمية كذريعة (هي وجُملة من المفاهيم التي أطلقتها ضمن خطابها التبشيري بتعبير ساكس) للتدخل العسكري المباشر كما حصل في فيتنام، أو غير المُباشر كما حدث مع رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، وما حدث في أمريكا اللاتينية في الثمانينات وإجهاض تجارب ديمقراطية عديدة.

“تجارب الآخرين”.. بهذا التعبير يصف إستيفا التنمية كما فهمتها الولايات المتحدة وكرّست لها، بالتضافر مع تعبير “التخلف” الذي استخدمه ترومان لوصف نحو ثلثي سكان العالم الذين لم يلحقوا بركب التطور الأمريكي.

وفي نفس الوقت الذي يُستخدم فيه خطاب التنمية كإطار للدور التبشيري الذي تفضل أمريكا لعبه في العالم، استُخدمت دول العالم الثالث أو الدول النامية كما صار يُطلق عليها، كباحة خلفية تُلقى فيها المخلفات النووية، بالإضافة إلى ذلك، فعلى ما يبدو، كان للتنمية دورها في إرهاق البيئة بمخلفات العالم المُتقدّم الملقاة في المحيطات والبحار، فعلى الرغم من الحظر الأممي لإلقاء النفايات النووية في المحيطات لكنها مع ذلك تحتوي على أكثر من 100 ألف طن من النفايات النووية!

النفايات النووية من أبرز إسهامات التنمية!

هذا، وتكشف الإحصائيات عن زيف حلم التنمية أو “الفردوس الصناعي” الذي بشّرت به التنمية، ففي عام 1960 كانت دول الشمال أغنى 20 مرة من دول الجنوب، بينما أصبحت أغنى 46 مرة عام 1980، فعلى ما يبدو تنطلق التنمية من الشمال إلى الجنوب لحصر الثروات منه عودًا إلى الشمال مرة أخرى حيث تستقر هُناك.

بالعودة إلى تعريف التنمية، يُمكننا إذًا مع ما سبق استخدام تعريف جان روبير (مُحرر فصل الإنتاج في الكتاب) للتنمية على أنّها “مفهوم أميبي بلا ملامح محددة. يؤدي إلى تبسيط مُخل وتعميم مُدمّر. هذا التعميم القياسي يُريد أن يفرض نفسه في كل شيء (…) من ثمّ استبدل الغرب احتلاله العسكري لدول العالم، باحتلال من نوع جديد. احتلالٌ لأحلام الناس وحيّزهم الذهني”.

حمدًا لله أن التنمية لم تتحقق في كل دول العالم!

النفايات واحدة من أهم وأبرز إسهامات عصر التنمية.

مفهوم التنمية لا يغض الطرف فقط عمّ يُميز الأرض من تعدد الثقافات واختلاف الحضارات. لكنه أيضًا يغض الطرف عما ترويه لنا فصول من التاريخ من أنّ تطوّر مجتمع ما لمرحلة ما يتطلب ما يُؤهل المجتمع لذلك من تراكم للثروة وتمايز طبقي.

وهذا تحديدًا المقصود بأن التنمية تطرح نسقًا خطّيًا للتقدم، يغفل قانون التطور غير المُتكافئ، كما أنّه يتجاهل الإجابة على سؤال كالذي طرحه سي. دوغلاس لوميس (محرر فصل المساواة): “ماذا كان سيحدث لو نجحت التنمية الصناعية في كل دول العالم؟”، على الأرجح كنا سنحتاج لخمسة كواكب أرضية على الأقل، من جانب لنستخدمها في دفن نفايات كوكبنا، ومن جانب آخر لنستخدم ثرواتها وموادها الخام. لهذا فعلى ما يبدو ليست المجتمعات “المتقدمة” نموذجًا يُحتذى به. ولذا أيضًا، فحمدًا لله أنّ التقدّم لم يتحقق لكل دول العالم.

عن العلاقات الاجتماعية والعِلم باعتباره معجون أسنان

بسهولة يمكننا لمس التغيرات الاجتماعية التي ألحقتها الحداثة بالمجتمعات العربية، وهكذا يُمكن مدّ الخط لآخره. فالنموذج الأوحد الذي تُستخدم التنمية كفكرة للتكريس له، يخلق أطماعًا نفسية واجتماعية للحاق بركب التقدّم وولوج “الفردوس المادّي”. وبصرف النظر عن سلبية أو إيجابية هذا الدرب، لكن المؤكد بنسبة كبيرة أن السير عليه يستلزم تقديم تنازلات جذرية، بينها قبول قيم اجتماعية مُغايرة، وابتلاع خطاب عن العلاقات الاجتماعية مُختلف عن الخطاب الأصيل لمجتمع ما بما يحمله من خصوصية قد تُميّزه عن غيره. وبتبسيط غير مُخل، يُمكن القول إنّ هذا ديدن السعي بجهد نحو النموذج الواحد الذي تفرضه التنمية، أي ابتلاع العالم في نسق موحد يُنفي أي تمايز أو اختلاف أو تعددية تُثري البشرية.

العِلم أيضًا من المفاهيم التي طالتها يد التنمية. وقد يُمكّننا تفنيد تأثير خطاب التنمية على العلم من إيجاد إجابة واضحة لسؤالنا الأوّل: “هل حقّا تحتاج دول العالم الثالث للتنمية؟”.

في فصل العلم يتحدث كلود ألفاريس عن العلاقة التي أنشأتها التنمية بين معجون الأسنان والعلم. فعبر سنوات طويلة تحوّلت الفرشاة ومعجون الأسنان من مُجرّد أداتين على هامش رحلة الإنسان في الحياة، إلى رمزين من رموز الحضارة والعلم الحديث، أو كما يقول ألفاريس، فإنّ “هؤلاء الذين يتوددون إلى الحداثة، غالبًا ما يجدون في غياب معجون الأسنان بالنسبة لهم وللآخرين، مصدر قلق شديد”.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل