المحتوى الرئيسى

طارق الشناوي يكتب: “المسكوت عنه” فى العلاقات الثقافية السرية مع إسرائيل

11/05 22:46

سوف يُعرض الفيلم الجزائرى «مدام كوراج» رسميا فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، بعد نحو شهر من عرضه فى مهرجان «حيفا»، ورغم ذلك فإن هذا لا يعد تطبيعا ثقافيا مع عدونا الذى كان وسيظل عدونا الأول، الفيلم جزائرى الهوى والهوية، مخرجه مرزاق علواش أخطأ عندما لم يشترط على الشركة الفرنسية المشاركة فى الإنتاج عدم عرضه فى إسرائيل، ثم أحال الأمر إلى خطيئة عندما لم يُعلن تبرؤه من هذا الفعل الشائن، إلا أن هذا لا ينفى أبدا أن الفيلم جزائرى، ومن حقنا أن نواجه المخرج بمساحات الغضب عندما يأتى للقاهرة ولكننا لا نغلق الباب بالضبة والمفتاح أمام فيلمه بحجة أنه سبق عرضه فى إسرائيل، لأن عشرات من الأفلام طوال تاريخ مهرجان «القاهرة» سنكتشف أنها قد زارت إسرائيل قبل أن نستقبلها فى القاهرة.

المرفوض هو التطبيع الثقافى مع إسرائيل الذى يعنى أن تعرض فيلما أو أغنية إسرائيلية فى أى تظاهرة ثقافية أو فنية بالقاهرة، ولكن فيلم سبق عرضه فى إسرائيل لا يعد أبداً تطبيعا ـ عدد من أفلام يوسف شاهين التى شاركت فى تمويلها شركات فرنسية عُرضت فى مهرجانات أو عروضا تجارية فى إسرائيل مثل «إسكندرية كمان وكمان». كما أن كل أفلامنا المصرية متواجدة فى التليفزيون الإسرائيلى، حيث إنه طوال تاريخ السينما المصرية ومنذ نهاية الأربعينيات تحديدا، دأب موزع الفيلم الأردنى على شراء نسختين واحدة لسكان الضفة الغربية والثانية يتم بيعها سرا للتليفزيون الإسرائيلى، وقبل نحو 14 عاما حاولت إسرائيل أن تتواصل مع غرفة صناعة السينما فى مصر لدفع أموال عن عرض الأفلام فى تليفزيون تل أبيب، وبرغم أن عددا من المنتجين والموزعين فى غرفة صناعة السينما المصرية، رحبوا بالفكرة على اعتبار أنها أموال تأتى من إسرائيل فلماذا نتركها لهم، إلا أن الصوت الوطنى انتصر فى النهاية على صوت المال ورفضت الغرفة تلك الصفقة المشبوهة.

إلا أن الأمور ليست كلها على هذا النحو، هل أزيدكم من الشعر بيتا؟ خُذ هذه، أغلب أغانينا يتم بثها فى الإذاعة والتليفزيون الإسرائيلى، أزيدكم بيتا آخر؟ نحن نحصل على أداء علنى من جمعية المؤلفين والملحنين ومقرها الأم فى باريس، نعم لا توجد علاقة مباشرة بين الجمعية المصرية فى القاهرة والجمعية الإسرائيلية فى تل أبيب، ولكن هذا لا يعنى أننا لا نحصل على حقوق الشعراء والملحنين مقابل بثها فى إسرائيل، أزيدكم من الشعر بيتا ثالثا؟ إن هذا القرار يعود إلى منتصف الستينيات أى أنه فى زمن جمال عبدالناصر وليس زمن أنور السادات كما قد يتبادر إلى ذهن حضراتكم، ومن الواضح أنه كان قرارا سريا، لم يجرؤ أحد على إعلانه وقتها.

بينما كان السادات على العكس يريد العلانية وكان يفكر جديا فى كسر كل مشاعر الرفض لكل ما هو إسرائيلى بعد عقد اتفاقية «كامب ديفيد» حيث قُدمت بالفعل أغنية وبتوجيه من السادات تدعو مباشرة للتطبيع كتبها حسن أبوعتمان ولحنها بليغ حمدى، أقرب الملحنين إلى قلب السادات، وغناها محمد رشدى تقول كلماتها «يا عبدالله يا خويا سماح/ وسيبك م اللى عدى وراح/ تعالى نعيش أنا وانت/ فى دُنيا كلها أفراح/ وسيبك م اللى عدى وراح»، وبالطبع المعنى ملتبس من هو عبدالله هل شخص بينك وبينه خصومة مثلا، أم أنهم الإسرائيليون وهم يعبدون الله، ومن هنا يأتى استخدام اسم عبدالله ولهذا تقدم الأغنية أحيانا فى الإذاعة المصرية ولا أحد يُدرك بُعدها السياسى.

فى الحقيقة لا تتوقف محاولات إسرائيل لاختراق الحائط الصلد، أقصد الذى بدأ صلدا قبل 35 عاما، ثم وكالعادة بدأنا نرى الثقوب والشروخ مع تعدد الاختراقات هنا وهناك، وللعلم بعضها يتم بحسن نية، مثلما كان سوف يحدث فى الدورة قبل الماضية من مهرجان الإسكندرية السينمائى بعرض الفيلم الإسرائيلى «فيلا توما»، قبل أن ينتصر صوت المنطق ويغلق هذا الباب، والغريب أن عددا من الزملاء رحبوا بالعرض رغم أنهم لم يكونوا قد شاهدوه لمجرد أن مخرجة الفيلم سهى عراف قالت فى مهرجان فينسيا 2014 عند عرض الفيلم هناك إنها فلسطينية وفيلمها فلسطينى، بينما الفيلم ممول بنسبة 90% من خلال صندوق دعم الفيلم الإسرائيلى أى أنه إسرائيلى قُح، كانت حجة المخرجة أنها تحمل الجنسية الإسرائيلية وهى مجبرة على ذلك، وبالطبع لا أدينها فهى ممن نُطلق عليهم عرب فلسطين، تمسكوا بالبقاء على أرضهم قبل أن تحتلها إسرائيل فى 48، ويحرصون على أن نُطلق عليهم عرب فلسطين وليس كما تحاول إسرائيل أن تنعتهم بـ«عرب إسرائيل»، وبما أنها على حد قولها تدفع الضرائب فمن حقها أن تحصل على دعم من الحكومة الإسرائيلية، ومن الممكن أن أتفهم بالطبع دوافع المخرجة، ولكننا لسنا مجبرين على عرض فيلم إسرائيلى فى مهرجان عربى، وأظن أن صوت العقل فى النهاية هو الذى دفع إلى إلغاء عرض الفيلم، بينما مهرجان لا يقام على أرض عربية مثل «مالمو» فى السويد، عرض فى دورته الأخيرة التى انتهت فى مطلع الشهر الماضى «فيلا توما»، حيث شارك بالفعل الفيلم رسميا بالمهرجان وكان أمام لجنة التحكيم التى رأسها المخرج محمد خان وبعضوية الناقد اللبنانى محمد رضا والجزائرية نبيلة رزيق رئيسة المركز السينمائى الجزائرى عدة اختيارات، أن ينسحبوا احتجاجا أو يعلنوا ترحيبهم بالفيلم، ولكنهم اختاروا الحل الثالث، وهو بما أن المهرجان يقام على أرض دولة غير عربية يخضع منظمو المهرجان إلى قواعد سياسية ترتبط بالبلد نفسه، وهكذا كان قرار اللجنة غير المعلن هو أن الفيلم إسرائيلى ليس فقط بالتمويل، ولكن العديد من الفنيين إسرائيليو الجنسية، ولم يعتبروه أصلا فيلما عربيا، فقرروا ألا يحصل الفيلم على أى جائزة لتصل الرسالة للجميع أن اللجنة استبعدته بالثُلث، وبرغم أنه كان يستحق جائزة التمثيل نساء، قررت اللجنة حجب الجائزة، وهكذا وصلت الرسالة أن الفيلم الإسرائيلى مرفوض سياسيا.

علينا أن نواجه هذه المواقف بالحكمة، لقد حدثت عدة اختراقات لقرار منع التطبيع الثقافى مع إسرائيل، مثلا مهرجان «قرطاج» فى التسعينيات عرض فيلمى «سجل اختفاء» لإيليا سليمان و«درب التبانات» لعلى صالح وهما حاصلان على تمويل إسرائيلى، كما أنه قبل عامين عرض مهرجان «الرباط» الفيلم التسجيلى الطويل الذى كان وقتها قد وصل للقائمة القصيرة فى الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى «خمس كاميرات محطمة» والفيلم ليس فقط إنتاجا إسرائيليا ولكن شارك فى إخراجه مع عماد برناط المخرج الفلسطينى أيضا المخرج الاسرائيلى جاى دافيدى، والغريب فى الأمر أن بعض أقلام النقاد العرب لم تعترض على مهرجان الرباط الذى عرض الفيلم، ولكنها عابت على المهرجانات العربية التى رفضت عرض الفيلم الإسرائيلى، ومن أشهر المحاولات الإسرائيلية لعرض أفلامها فى القاهرة ما حدث مع الفيلم الإسرائيلى «زيارة الفرقة»، حيث يتناول الفيلم قصة خيالية تقدم فرقة تابعة لموسيقى الشرطة المصرية تذهب إلى إسرائيل فى أعقاب اتفاقية السلام وتتوه الفرقة هناك، وأثناء الرحلة يكتشف أعضاؤها كم يعشق الإسرائيليون كل ما هو مصرى من غناء وموسيقى ونكت، حاولت إسرائيل عرض الفيلم فى مهرجانى «أبوظبى» و«القاهرة» إلا أن محاولتها باءت بالفشل، وتمكنت فى النهاية من عرضه فى فندق «الفور سيزون» بالقاهرة، تردد وقتها أن 100 مثقف مصرى شاهدوه، وفى الحقيقة لم يجرؤ على إعلان ذلك سوى كل من أنيس منصور وعلى سالم.

ويبقى أن نروى لكم هذه الحكاية لننهى بها ملف التطبيع الثقافى السرى مع إسرائيل، فلقد أطلقت الحكومة الإسرائيلية على أحد الشوارع القريبة من مدينة القدس اسم «إنت عمرى».. لماذا «إنت عمرى»؟ إنها عنوان لامتزاج ثلاثة من عباقرة الإبداع فى بلدنا.. صوت «أم كلثوم» وموسيقى «محمد عبدالوهاب» وأشعار «أحمد شفيق كامل»، وهى الأغنية الذى أطلقت عليها الصحافة المصرية اسم «لقاء السحاب» وكان فى الحقيقة الكاتب الصحفى جليل البندارى هو صاحب هذا التعبير، وجاء اللقاء بعد تدخل من الرئيس «جمال عبدالناصر» عام 1964 ومطالبته لكل من «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» بتقديم أغنية مشتركة ولا تزال «إنت عمرى» إحدى أهم الأغنيات التى تحتفظ بها الذاكرة العربية!!

كان الشاعر الكبير الراحل «أحمد شفيق كامل» هو المحطة الأخيرة لهم للحصول على موافقته لطبع «إنت عمرى» على «C.d» وذلك عام 2006 قبل أن يرحل الشاعر الرقيق عن دنيانا بأقل من عامين، كانت إسرائيل عن طريق جمعية المؤلفين والملحنين الأم فى باريس تسعى للتواصل مع الشاعر الكبير.. قال لى «شفيق كامل» وقتها إنه تلقى بالفعل اتصالاً من أحد الأشخاص يرجوه الموافقة، مؤكداً فى الوقت نفسه أن من حقه أن يحدد المبلغ كما يريد، وكان الرد الفورى الذى أبلغه «أحمد شفيق كامل» لهذا المجهول ثم حرص على أن يعلنه للشاعر «عمر بطيشة» رئيس جمعية المؤلفين والملحنين المصرية فى تلك السنوات «يغوروا هما وفلوسهم»!!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل