المحتوى الرئيسى

المختفون قسريا.. مصير مَن ألبستهم الدولة "طاقية الإخفاء" (تحقيق)

11/05 16:35

تحقيق- دعاء الفولي وإشراق أحمد:

اتصال أخير من الطبيبة أسماء خلف لوالدتها مساء الخميس 16إبريل 2014، أخبرتها عن قدومها باليوم التالي، بعد غياب شهرين لظروف عملها في جهاز صحة المرأة بأسيوط، طالبة منها تحضير ما تشتهيه من الطعام، لكنها لم تعد منذ إغلاق هاتفها في تمام السابعة و45 دقيقة صباح الجمعة 17 إبريل وفقا لتقرير تتبع الهاتف، الصادر بناء على طلب أخيها محمد خلف، الذي تأكد أن شقيقته بمقر أمن الدولة، ومن حينها لا يمر أكثر من عشرة أيام إلا ويغادر سوهاج قادما إلى القاهرة، علّه يلتمس جديدا في البلاغات المقدمة باختفاء شقيقته الكبرى قسريا منذ عام ونصف.

أول يونيو الماضي ضجت مواقع التواصل الاجتماعي باختفاء الأصدقاء الثلاثة؛ إسراء الطويل، صهيب سعد، وعمر علي، كانوا في نزهة لركوب الخيل ولم يعودوا لمنازلهم، وبعد حوالي أسبوعين ظهر الشابان والفتاة بسجن طرة، والقناطر، وعقب تلك الواقعة، صار نمطيا تداول مصطلح "الاختفاء القسري" وطرحته منظمات المجتمع المدني بشكل أكبر، فيما كان اللفظ المستخدم بالسابق "احتجاز دون وجه حق"، حسب قول عبد الرحمن جاد، الباحث بالمفوضية المصرية لحقوق الإنسان.

من هنا جاء العمل خلال نحو ثلاثة أشهر على ذلك التحقيق، لتتبع مصير مَن تنشق عنهم الأرض وتبلعهم تحت مظلة الدولة، معايشة إجراءات البحث عن مختفي لا تملك عائلته سوى معلومة أنه في أيدي جهة أمنية، ومصير تلك الدائرة، عبر لقاء ضحايا إخفاء تم إجلائهم، وأسر لم تكن محظوظة بالعثور على ذويهم، وثبت خلال هذه الفترة أن الحالات التي ظهرت مؤخرا مجرد حلقة في سلسلة أطول لمختفين لم يظهروا، إذ دأبت الأنظمة المصرية المتتابعة -من عهد مبارك وإلى الآن- على استخدام الإخفاء القسري بطرق متفاوتة، فيما كان الثابت أن أعداد المختفين ليست منحصرة على مدار 23 عاما، فكل منظمة ترصد ما تتلقاه فقط، كما أن المصير بيد صاحب "طاقية الاخفاء".

بالأمس جاء أول تصريح للرئيس عبد الفتاح السيسي حول الاختفاء القسري- بعد سؤال محاورة هيئة الإذاعة البريطانيةBBC - غير مختلفة عما سبقها من نفي مسؤولين وزارة الداخلية، إذ قال "النهاردة الإجراء اللي بيتعمل كله قانوني بواسطة أجهزة الدولة بعد الحصول على إذن من القضاء"، معتبرا أن الحالات المختفية تذهب للانضمام لداعش بنص حديثه "لازم نخلي بالنا إن فيه ناس بتهرب وتروح تنضم لداعش في سوريا وتخرج عبر الحدود ولو إحنا شفناها هنرجعها تاني، وفيه ناس بتخرج للانضمام عبر ليبيا وسوريا، ده أمر مش قادرين نحكمه"، في الوقت الذي تنشط به المنظمات الحقوقية لتحريك الملف المسكوت عنه مِن الدولة.

عرّفت الأمم المتحدة الاختفاء القسري بأنه الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون، وفي مصر تعد المادة 54 من الدستور المصري هي التشريع الرئيس المكافح لفكرة الاختفاء، إذ تنص على "الحرية الشخصية حق طبيعي، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق، ويجب أن يُبلغ فوراً كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويُمكٌن من الاتصال بذويه وبمحاميه فورا، وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة من وقت تقييد حريته".

لم يُغير الدستور المؤيَد بنسبة 98% خلال استفتاء يناير 2014، من ملف الاختفاء القسري، إذ رصد الفريق المعني بالاختفاء القسري، بالأمم المتحدة، 66 حالة اختفاء منذ مايو 2014 وحتى منتصف 2015، إلا أن ذلك لا يعني حداثة هذا الإجراء الأمني، فقد رصدت اللجنة حالات اختفاء منذ 1980 ولم تتوقف حتى 2015، وكان "س.ك" (اسم مستعار) أحد المختفين عام 2003.

كان "س.ك" بعمر التاسعة عشر حين اقتحمت قوة أمنية منزله في الثانية صباحًا "غموا عنيا وعرفت بعدين إني روحت مبنى أمن الدولة بشبرا"، فور وصوله بدأ الضرب والتعذيب والصعق، الاستجواب مع الشاب العشريني كان عن أحد جيرانه الذين أرادوا الالتحاق بالجهاد في العراق، وعرفه خلال تردده على المسجد برمضان لأول مرة "كان الظابط يقولي أنا بعذبك للعذاب.. أنا مش عايز منك حاجة"، فيما الشاب مربوط من يديه المعلقتين خلف ظهره إلى أحد الأبواب.

مكث "س.ك" 93 يومًا بمبنى الأمن دون أن يعلم أحد مكانه، ثم تم ترحيله إلى سجن طُرة، ومنه إلى سجن وادي النطرون، ثم أبو زعبل "قالولي عرفنا إنك مش سلفي بس اكتشفنا إنك جهادي"، لم يكن الشاب العشريني ضالعا بأي أنشطة دينية أو سياسية بل على العكس "كنت بعيد تماما عن ربنا"، ليستكمل باقي مُدة الحبس حتى عام 2007.

كانت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، أول من رصد حالات اختفاء قسري، إذ نشرت بموقعها الرسمي بضع أسماء لم يجدهم الأهل حتى الآن، منهم رمضان فتح الباب، مَن اُلقي القبض عليه مِن منزله بالمنيا عام 1995 للاشتباه بعضويته بالجماعة الإسلامية، وكذلك المُجند سمير أبو المعاطي في يناير 1996، على أثر ذلك قامت الأسرة بتحرير العديد من الشكاوى والبلاغات من أجل الوقوف على مصير المذكور منها البلاغ رقم 33 لسنة 96 أحوال قسم شرطة قنا، وتعد أشهر حالات الاختفاء قبل الثورة هي لصحفي جريدة الأهرام رضا هلال، الذي اختفى عام 2004، وإيمان عبد المنعم التي قُبض عليها ورضيعها-طبقا لشهود عيان- في أكتوبر 2010، بمنطقة عين شمس، ولم تظهر إلى الآن.

خلال الأربع سنوات عُرض "س.ك" على النيابة مرة واحدة "قالولي إنك محبوس بتهمة نُصرة الإسلام في الداخل والخارج"، لم ير أهله خلالها سوى بضعة مرات، لم يعرفوا مكانه إلا عقب 3 أشهر من اختفاءه حين أخبرهم ضباط أمن الدولة، واُطلق سراحه من "أبو زعبل" بأحد الأيام، ليُسجن 8 أشهر أخرى بمعسكر الجلاء (سجن العازولي).

كان الاتهام تلك المرة هو التهرب من الجيش "مع إني أثبت لهم إني كنت مسجون" ليلاقي صنوفًا متباينة من العذاب النفسي والبدني "كان لو واحد من مسئولين السجن متضايق يجمعنا الساعة 12 بليل ويقولنا نقلع ونفضل 8 ساعات واقفين في ساحة السجن في شهر ديسمبر"، بعد الأربع سنوات أصبح الشاب لا يأبه بالشرطة ولا الدولة على حد قوله "كنت قابلت الوحش الكبير فمكنش هيحصل أسوأ"، لكنه قرر العيش كـ"نملة عشان آكل سكر"، لاسيما وأن علاقته بأمن الدولة ظلت قائمة لوقت الثورة "بين حين والتاني الضابط يتصل يقولي تعالى في حملة عايزينك"، يمكث بالمقر بضعة ساعات ويخرج، أما ثورة يناير التي آمن بها على استحياء فكان يوقن أنها لن تغير شيء، وعلم فيما بعد أنه ربما كان على حق. 

منذ 1992 وحتى يونيو 2011، رصدت المنظمة المصرية 57 حالة اختفاء قسري، ورصد مركز ضحايا الاختطاف والاختفاء القسري حوالي 12 حالة قبل الثورة، وفقا لتصريح إبرام لويس، مؤسس المركز. فيما رصد المركز العربي لاستقلال القضاء 30 حالة منذ يناير 2011 وحتى نوفمبر 2013، وقام المركز برفع تقرير تلك الحالات للأمم المتحدة للبت فيه، حسبما صرّح ناصر أمين-رئيس المركز غير أن مفوضية الأمم المتحدة لم ترد، جميعهم لم يستدل على مكانهم حتى يومنا هذا.

المُختفي قسريا وقت "مبارك" وثورة 25 يناير والأحداث التي تلتها لها وضع خاص، يكون في أدني مراتب المفقودين، إلا القليل جدا يُجلى مصيره بعد عناء لشهور وسنوات بالسجن، وينطبق هذا على فترة ما بعد 30 يونيو، حيث تصبح الاحتمالات أسوأ "ماتوا أو ادفنوا في مكان مش معروف"، طبقا لباحث المفوضية المصرية وذكر أنه تم رصد 14 حالة اختفاء قسري لم يُستدل عنها حتى الآن خلال الفترة أحداث 30 يونيو وحتى شهر أغسطس 2013 المتزامن مع أحداث فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.

بوقت المجلس العسكري يعد أحمد بخيت من أبرز حالات الاختفاء، منذ 17 ديسمبر 2011، لا تخرج والدته دون صورته، إلى أن علمت في منتصف يناير 2012 بوجود جثته منذ 22 ديسمبر بمشرحة زينهم محمولة من قسم قصر النيل، أخبروها أنهم وجدوه غريقا، لكنها لم تُصدق القصة فقد سألوا داخل المشرحة عدة مرات ولم يدلهم أحد "شرطي المسطحات قاللي إنهم مطلعينوا سليم وإنه اتبهدل كدة في المشرحة بس لازم أدفنه وبعدين نعمل محضر" حسب شهادة الأب بأحد المقاطع المصورة بواسطة فريق عمل حركة "مُصرين"، يظن الوالدان أن ابنهما قُتل لأسباب سياسية لاسيما وأن تلك الفترة توافق أحداث مجلس الوزراء التي نتجت عن اشتباكات بين قوات الشرطة العسكرية والمتظاهرين بميدان التحرير وقُتل خلالها 30 شخصا وجُرح المئات.

مصير القتل وإيجاد جثة الشخص، أو الدفن في مكان مجهول لم يواجه فترات ما قبل وبعد الثورة فقط، لكن ظهر في 20 مايو 2015 مع مقتل إسلام عطيتو، الطالب بكلية الهندسة عين شمس، عقب اختفاءه ليوم واحد، وخروج بيان الداخلية على إنه متهم بقتل العقيد وائل طحون – ضابط بمباحث الأمن العام- وقُتل خلال تبادل لإطلاق النار، فيما أكد الشهود حينها من زملاء وأستاذ مادة الامتحان الذي أداه "عطيتو" أنه كان حاضرا، وخرج من الجامعة، ليصحبه شخصان غريبان بسيارة، ويأتي خبر إيجاد جثة الشاب بالصحراء.

كان حديث ألفت ناجي يتواصل، فيما لم تكف عن الاتصال برقم الشكاوى الخاص بوزارة الداخلية و"لئما مقفول لئما مبيردوش". الاتصال هو ما تبقى للسيدة خلال البحث عن ابنها محمد سلامة، ذو الواحد وعشرين عامًا، مَن خرج لميدان التحرير احتجاجا على الفيلم الأمريكي المسيء للرسول في 14 سبتمبر 2012، ومع الواحدة بعد منتصف الليل انقطعت جميع السبل به، وعرفت الأم عبر عدد من المقبوض عليهم بهذا اليوم بعد فض ميدان التحرير أن ابنها بحوزة الأمن. "سلامة" لم يكن من المنتمين للسياسة وفقا لوالدته وأخته صفاء "لا ثورجي ولا مبادئ ثورة ولا عنده معلومات أصلا"، كان قد أنهى الجيش بعد أن حصل على دبلوم "صنايع".

422 هو رقم البلاغ المقدم من قِبل عائلة "سلامة" ضد الرئيس الأسبق محمد مرسي ووزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم، يتهمونهم بإخفاء ابنهم، غير أن النائب العام الأسبق طلعت عبد الله حفظ القضية، وعقب الاختفاء بشهور توجهت ألفت لمقر جماعة الاخوان المسلمين "قلت لهم أنتو اللي مسئولين وابني اختفى تحت حكمكم"، لكن الرد كان صادما ، وغير مفهوم للسيدة "قالوا لي أحنا ملناش سلطة عشان نعرف نجيبه".

حسب بسمة عبد العزيز، الطبيبة النفسية بمستشفى العباسية، ينتقل أهل المختفي من "الصدمة الحادة" لحظة المعرفة بالاختفاء إلى "حالة مزمنة من التكيف" لكنها لا تخلُ من مشاكل بالنوم وفقدان الشهية، تستنزف أيام البحث أجسادهم، وترهقهم الأسئلة غير المنتهية، وهو ما يعرض البعض لثبات انفعالي كبير لحظة سماع خبر موت الابن، كما حدث في سبتمبر 2012، إذ علمت "ألفت" بوجود جثث بمشرحة زينهم مع تأكيد أن ابنها ضمنهم "بعتّ أخوه بالكفن وقلت له كفّن أخوك.. كنا بنقلب في الجثث بإيدينا"، لكن أثار الحادثة التي تعرض لها الشاب وهو صغير والعملية الجراحية لإزالة الزائدة الدودية في جنبه هي ما أكدت أن القابع في المشرحة لم يكن الابن المفقود.

شهر مايو عام 2013 توجهت "ألفت" إلى مديرية أمن القاهرة كالعادة، لفت انتباها صوت آتي من أدوار أرضية لأبواب حديدية تُقفل، أرادت النزول؛ فأوقفها جندي، لتطلعه على صورة ابنها ليقول "والله الشكل ده مش عندي لو موجود هقول لك"، الحسرة دبت في نفسها، فانطلقت صارخة باسم ولدها بلا تفكير "يا محمد لو سامع حسي قولي أنا هنا يا أمه" فلم يأتِها رد، فيما بعد أصبحت كل الطرق تؤول بالأسرة إلى وجود "سلامة" لدى جهة أمنية؛ ففي شهر يونيو المنصرف، أخبرتهم إحدى السيدات أنها وجدت ابنها المفقود في سجن وادي النطرون بعنابر غير معروفة، بطريق غير مباشرة قام بها محاميهم، لكن تلك السيدة تهربت من إعطاء عنوان ذلك المحامي لـ"الفت" أو الإدلاء بأي تفاصيل "كانت خايفة تقول أي حاجة عشان ابنها"، لازالت السيدة بطور البحث، تارة تبكي على أبواب وزارة الداخلية وأحيانا تصرخ بغضب، وتعود لمنزلها مُنهكة على أن تعاود كرة البحث في اليوم التالي.

هناك تخوفات بدت من المصير الأرجنتيني خلال الأعوام 1976 وحتى 1983، حيث شهدت تلك الفترة أكبر حملة للاختفاء قسري عبر التاريخ، قبل أن ينتهي الحكم العسكري بمحاكمة القادة المتولين لرئاسة الأرجنتين بدءً من الجنرال جورج رافائيل فيديلا، وحتى رينالدو بينوني، بعد غضب أمهات المختفين قسريا ـ الذين وصل عددهم إلى 30 ألف شخص وفقا للأمم المتحدة، ورغم الحالات التي ظهرت بمصر على مدار السنوات، غير أنها لم تُوقع أو تُصدق على اتفاقية مكافحة الاختفاء القسري المُفعلة في الأمم المتحدة منذ 2006.

"ما تملكه المفوضية وممثلوها هو حث الدول العربية للتوقيع على الاتفاقية" قال عبد السلام أحمد، الممثل الإقليمي للأمم المتحدة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأوضح في اتصال هاتفي لمصراوي أن هناك ثلاث دول عربية فقط هي الموقعة على الاتفاقية، وليست مصر من ضمنها، أما عمل المفوضية داخل مصر فلا يحمل تفاصيل كثيرة، إذ أن الفريق العامل بالاختفاء القسري بالمفوضية أرسل طلبا في يونيو 2011، لزيارة مصر وبحث الحالات، لكنه لم يتلق ردا من الحكومات المصرية المتتابعة مع إرسال التذكير مرات عدة، وقد أحال الفريق 66 حالة اختفاء قسري إلى الحكومة المصرية خلال الفترة من من مايو 2014 إلى مايو 2015، طالبا التدخل العاجل للبت في تلك الحالات، دون رد إلى الآن.

الثلاثاء 9 يونيو 2015، بمقر المجلس القومي لحقوق الإنسان، وبينما يتبادل جورج إسحاق الحديث مع أهالي المختفين قسريا، المستجيبين لدعوة المجلس باستقبال شكواهم، اقتربت بدرية السيد قائلة بلهفة "أنا بدور على ابني وعايزاه بس يظهر"، ليسألها مقرر لجنة الحقوق السياسية والمدنية السؤال التقليدي "اختفى امتى؟"، لكن إجابة السيدة "من وقت فض رابعة" بدا تأثيرها في حملقة عين الحقوقي، وخبطة يده على صدره، وفتح فاه دون كلمات سوى ما خرجت مذبذبة "حاضر..حاضر هندور لك عليه"، كان هذ في يوم إصدار المجلس تقريره برصد 163 حالة اختفاء قسري بين شهري إبريل ومايو 2015.

جاءت الأرقام عن حالات الاختفاء القسري –مؤخرا- متفاوتة. وكانت "الحرية للجدعان" أول الجهات المعلنة عن رقم المختفين قسريا في يونيو الماضي، واستند "القومي لحقوق الإنسان" على رقمها في تقريره، ولم يزد عليه سوى 7 حالات، ليصبح العدد 170 حالة وفقا لـ"أمين" – مدير مكتب الشكاوى، كما رصد المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 26 حالة منذ 30 يونيو 2014، جميعهم لم يتوصل إلى مكانهم، ووصل لمركز "الحقانية" حالتين، فيما جاء شهر أكتوبر برصد جديد للمفوضية المصرية لحقوق الإنسان بعد إطلاقها حملة "أوقفوا الاختفاء القسري" في اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، ليشمل 215 حالة بين شهري أغسطس وسبتمبر المنصرف، القليل منها ظهر بالنيابات بعد فترة اختفاء، ومنهم مَن أخذ إخلاء سبيل لكن لم يتم الإفراج عنه، حسب قول الباحث بالمفوضية، وأحد القائمين الرئيسيين على الحملة.

وكانت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات أكثر المنظمات الحقوقية متابعة للملف، منذ منتصف 2014، والأكثر تفصيلا، إذ أعلنت في 2 نوفمبر 2015 عن تقرير يرصد 332 حالة اختفاء من أصل 1411 شخصا تعرض للإخفاء منذ يناير حتى 30 أكتوبر، وأوضح التقرير تضاعف حالات الاختفاء ووصول ذروتها في شهر مايو حيث بلغ 393 حالة، بينما كان العدد في يناير 44 وهي النسبة الأقل يليها شهر أكتوبر بواقع 54 شخصا، تلك الحالات التي حرصت التنسيقية المصرية على التأكيد أنها "إجمالي ما أمكن رصده فقط من الحالات وليس كلها".

بقدر ما يعاني المختفي قسريا يشاركه الأهل خارج أسوار احتجازه المجهول، بل يتضاعف حسب منى حامد، الطبيبة النفسية والحقوقية بمركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، ليس فقط في الموت قلقا على ذويهم، بل الإحباط الدائم مع كل بحث يبدئون فيه ولا يصلون لشيء، وتزداد درجة اليأس مع ترك كل شيء والعكوف عن ايجاد فقيدهم، إذ يفقد البعض وظيفة، أو دراسته وتتضاعف المشاكل مع الوقت.

مرارا كررت بدرية السيد على مسامع أصحاب السلطة أنها لا ترغب سوى برؤية ابنها عمر محمد حماد المختفي منذ 14 أغسطس 2013 "لو غلطان يتحاسب بس أشوفه"، وبين التوسل تارة، والتحفظ والبكاء تارة أخرى تأتيها ردود جافة، كأحد مَن قابلتهم بوزارة الداخلية "قاللي ما يمكن يكون سافر زي اللي سافروا.. قولت له أنا ابني متربي ومغني راب وبيلعب في نادي الزمالك ناشئين، يعني معندوش حاجة تخليه يعمل كده"، تعودت الأم التأقلم على الغلظة في التعامل، والتحامل على قدميها التي أصيبت بأكثر من جلطة، وطمأنة الأخت التي تُعالج نفسيا بسبب تتابع ما حدث مع أخيها، أما الأب فلم تعد تملك له شيئا، إذ أصيب بجلطة منذ أشهر وتوفى على إثرها "من غير ما يعرف عُمر فين".

كان "عمر" يوم اختفاءه برفقة شقيقته لجلب نتيجة السنة الثانية بكلية هندسة الأزهر، انتظرت الأخت بالخارج، وحين اشتدت الأحداث طالبها بالفرار "لأن الأمن بيقبض على الطلبة"، فكانت هي آخر مَن رآه، لكن فيما بعد ثمة مَن قال إنه شاهده يوم اختفاءه في ميدان رابعة العدوية مصابًا بطلق ناري في كتفه "لكن محدش رضي ييجي معانا يشهد عشان خايفين" وكافة محاولاتها في البحث، والتي بلغت إجرائها تحليل البصمة الوراثية "DNA"لمطابقته مع الجثث المجهولة بالمشرحة لم تسفر عن شيء.

الذهاب لوزارة الداخلية والنائب العام أشبه بواجب تفعله والدة "عمر" مُكرهه منذ اختفاءه، أحيانا يضيق بها الوضع، ففي أحد المرات بمارس الماضي فقدت السيدة أعصابها على باب الداخلية "زعقت عشان كنت عايزة أقابل الوزير"، قالت الأم حينها لمن يحاولون منعها أن البعض أخبرها بوجود ابنها بسجن العازولي العسكري وأنها شبه متأكدة من ذلك، فقالوا لها "أنتي كده بتشوّهي صورة الجيش ومفيش حاجة اسمها العازولي"، وبلغ أملها حد السماء حين اتصل بها رائد من الوزارة نحو خمس مرات في يوم واحد يطلب منها معلومات عن ابنها، وأنه يريد مساعدتها، لكن عادت الأمور لدائرتها مرة أخرى بانقطاع اتصاله.

بعض أهالي المحبوسين بسجن "العازولي" أخبروا والدة عمر بتوارد اسمه ثلاثيا، فحاولت التأكد من أحد معارفها بالجيش، وإذا به يؤكد وجوده "لكن قال لي عشان موقعه مش هيعرف يساعدني"، وعقب11 شهر من اختفاء الابن ذهبت مع مجموعة من أهالي المختفين لمعسكر الجلاء التابع للقوات المسلحة، بالإسماعلية، حيث يقبع سجن العازولي –طبقا لتقرير منظمة العفو الدولية التي التقت ببعض المفرج عنهم منه، بيأس حاول الأهالي السؤال عن أبناءهم الموجودين في السجن، لكن الرد كان سلبيا كالعادة.

المحاضر والبلاغات والشكاوى لم تأت بشيء هي الأخرى، بدءً من المحضر الأول بقسم أول العاشر رقم "24071" بتاريخ 31 أغسطس 2014، وأخرها شكوى لوزارة الداخلية تحمل رقم5366 30 يونيو 2014، وتذكر السيدة الخمسينية حين أخبرت مساعد النائب العام عن احتمالية وجود ابنها بـسجن "العازولي"، فقال لها "لازم يبقى معايا أمر عشان أعرف أدخل المعسكر لأن مليش سلطة على الجيش، أحنا بنخاطبهم بالأوراق وبيردوا علينا بالأوراق".

لم يكن رد الفعل السلبي لوزارة الداخلية من نصيب أهالي المختفين فقط، فقد حاول "مصراوي" التواصل مع الوزارة عبر إرسال خطاب والذهاب مرتين إلى مقر الوزارة لمقابلة أي من المسؤولين، والتواصل هاتفيا بشكل يومي لمدة أسبوع، ثم معاودة الاتصال على فترات مختلفة حتى نشر التحقيق، للحصول على رد الوزارة فيما هو منسوب إليها، لكن لم تصل أي استجابة للخطاب إلا بأخر رد من المكتب الإعلامي للوزارة في 10 يوليو الماضي "خلال 48 ساعة وهنرد عليكم"، وكذلك لم تسفر عن شيء كافة الاتصالات المتكررة بالوزارة عبر الأرقام التي أعطتها لـ"مصراوي سوى المطالبة بمعاودة الاتصال تارة والرد "أصل الموضوع مش عندنا لازم تتصلوا بمكتب الرائد..."، وفي النهاية خرج تصريح لوكالة أنباء الشرق الأوسط، من مساعد وزير الداخلية لقطاع حقوق الإنسان صلاح فؤاد –والذي تواصل معه مصراوي نحو ثلاثة أسابيع عبر هاتفه الشخصي وإرسال رسالة نصية دون إجابة.

"أقولها متحديا لا مُبرراً أو موضحاً، وبكل ثقة أنه لا يوجد اختفاء قسري في مصر لأي شخص، ومن يزعم خلاف ذلك، عليه تقديم الدليل" كذلك صرح مساعد وزير الداخلية لقطاع حقوق الإنسان بتاريخ 14 أكتوبر المنصرف، نافيا صحة التقارير الصادرة بأعداد لحالات، كما قال إن مصر "من ضمن الدول الموقعة التي وقعت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاختفاء القسري".

اليأس صار ملاذ والدة "عمر" خاصة بعد وفاة زوجها، لكنها تُصبر نفسها بأنه "طالما جوه السجن يبقى عايش"، فيما لم تلبث "الهلاوس" تسيطر عليها "بسبب التعذيب واللي بيحصل في المعتقلين"، لذا تُمني نفسها بأنه سوف يعود، خاصة مع وجود أهالي آخرين يمرون بنفس موقفها "إحنا عايزين نعرف الولاد أحياء ولا ميتين بس لو ميتين نستعوض ربنا فيهم ولو أحياء نشوفهم".

الدائرة مغلقة على أهالي المختفين قسريا، لا معلومة تأتي إلا بطريق غير مباشر وغير قانوني، إما عبر محامي أو "معرفة"، حال شقيق أسماء خلف، إذ تأكد عبر أحد المحامين عرف عن ضابط أمن دولة أنها موجودة بمقر الأمن الوطني في أسيوط، وثبت التأكيد عن طريق أمين شرطة من المبنى ذاته، فمجرد أن أفصح له "خلف" عن اسم أخته "قال لنا كل مواصفاتها.. إنها منتقبة ولون الشنطة اللي معاها، وأنهم قبضوا عليها وهي خارجة من المستشفى" وهو ما أكده تقرير تتبع الهاتف المشير إلى "دار الضيافة" أخر مكان التقط منه إشارة للهاتف قبل غلقه وهو قريب من بوابة جهاز صحة المرأة وفقا لـ"خلف".

على إثر هذا ذهب "خلف" لمقر الأمن الوطني بأسيوط، نُفى وجود شقيقته الطبيبة "وكيل رئيس الجهاز قال لي أحنا مبناخدش بنات"، مطالبا إياه بالبحث عنها في موقف الميكروباص، ومن باب التشكك في كل شيء، لم يترك شقيق "أسماء" قسم شرطة، مستشفى إلا وبحث فيه، مقدما بلاغات للنائب العام بالقاهرة، وأخرى للمحامي العام بأسيوط، تتجدد كل 15 يوم "لأن كل ما نروح يقول لنا قدموا واحد جديد لأن القديم حصل فيه حاجة"، فضلا عن المراكز الحقوقية المختلفة بمصر والخارج بالأمم المتحدة.

العمل على ملف الاختفاء القسري لن يتوقف داخل القومي لحقوق الإنسان طالما الشكاوى مستمرة، كما قال ناصر أمين، ويتواصل المجلس مع الجهات الرسمية الممثلة في النيابة العامة ووزارة الداخلية، غير أنه لم يصل له أي توضيح أو رد على خطاباته حسب مدير مكتب الشكاوى، إذا بات الشيء الوحيد المؤكد في تلك الدائرة هو ظهور المختفي قسريا حينما ترغب الجهة الأمنية في هذا إما لضغط إعلامي أو "واسطة" وأحيانا دون سبب، وخلاف ذلك يظل الشخص في عداد "المفقودين".

على الطريق السريع خارج مدينة طنطا، تُرك نور خليل بعد يومين من احتجاه بمكان أمني مجهول منذ 24 مايو المنصرف، لم تكن المرة الأولى للقبض عليه، إذ تم اعتقاله بالذكرى الثالثة لثورة يناير، واتُهم بسبب قانون التظاهر، لكنه خرج بعد أربعين يومًا، لكن هذه المرة مختلفة "مكنتش عارف أنا فين.. وأبويا وأخويا كانوا معايا وهما ملهمش في حاجة"، قبل إلقاء "نور" من السيارة تسنى له السؤال عن أبيه وشقيقه، فقال له المخبرين أنهما سيعودان للبيت قريبا لكن ذلك لم يحدث حتى 8 يونيو، حيث تُرك الأب محفوظ خليل بالطريقة ذاتها كما حدث مع "نور"، فيما بقي "إسلام" بعيدا عن الأعين.

يوم القبض على "نور" و"إسلام" وأبيهم، ذهبت الأم إلى المحامي العام بطنطا، فأخبرها بأنه لا يستطيع مساعدتها، وتم تحويلها على نيابة "السنطة" –المركز التابع له سكن الأسرة- ومنها على القسم التابع له، حينها قابلت أحد الضباط فسخر منها قائلًا "يعني أنتي جاية تقدمي بلاغ فينا؟"، وتم احتجاز السيدة داخل القسم لمدة ساعة لحين تفتيش محتويات حقيبتها "وفي النهاية قالولها هنبقى نشوف".

122 يومًا قضاها "إسلام" –مدير المبيعات 27 عاما- بأحد المباني غير المعلومة، منذ اقتحام منزلهم فجرا، للقبض على شقيقه "نور"، فتم القبض عليه وأبيه، ليظهر الشاب البعيد عن السياسية -كما يقول شقيقه- في 21 سبتمبر المنقضِ، بقسم الرمل ثان بالإسكندرية، بعد فترة لم يتوقف بها أخيه عن مراسلة النائب العام، تمثلت في 6 بلاغات من تاريخ 3 يونيو وحتى 29 أغسطس، ولوزير العدل برقم 1207، ولوزير الداخلية برقم 1205، فضلا عن الذهاب لمصلحة السجون مرتين أسبوعيًا للسؤال عن اسم شقيقه دون نتيجة.

حينما ظهر "إسلام"، حكى لأخيه "نور" عن انتهاك بدني ونفسي تعرض له بمبنى الأمن الوطني بطنطا، ومعسكر قوات الأمن المركزي ومبني أمن الدولة بـ"لاظوغلي"، ما تسبب له بوجود تجمعات دموية بمنطقة البطن وأسفل الصدر وتحرك أحد أضلاعه من مكانها وتم إثبات ذلك في محضر التحقيق معه أمام النيابة عقب ظهوره، متهمًا ضباط الأمن الوطني بتعذيبه وتهديده بالقتل، كما أملى عليه بعض مَن حفظ أسمائهم ومازالوا رهن الاختفاء القسري، ليظهر بعضهم عقب إعلان "نور" ومنهم عمر بطيخ المختفي منذ 30 يوليو المنصرف، ولازال الشاب العشريني "إسلام" محبوسًا إلى الآن دون اتهامات واضحة، فقط يتم التجديد له، فيما لا يجد شقيقه ما يعبر عن حاله إلا قول "الدولة مبقتش عارفة تقبض على الإرهابيين فبتقبض على أي حد".

ليس هناك سياسة ممنهجة للاختفاء القسري، بل إن أغلب الحالات التي تم رصدها قُبض عليها بشكل "عشوائي" كما قال باحث المفوضية المصرية، ولكن "تحت ضغط التعذيب" يتم انتزاع اعتراف أن الشخص تحدث بالسياسة "على القهوة أو مع صحابه"، تبعا للحالات التي ظهرت بعد فترة من الاختفاء وباتت متهمة في إحدى القضايا.

في الوقت الذي لا يعد منزل عبد الناصر موافي غريبا عن رجال المباحث وقوات الأمن، إذ سبق اعتقاله 3 مرات في عهد نظام مبارك حتى قيام ثورة يناير، لم يكن يعرف طالب كلية الهندسة عمر جمال طريقه بعد لأقسام الشرطة، ليجمعهما "الاختفاء القسري" بفارق شهر واحد، كلاهما قُبض عليه من وسط العائلة مِن قبل رجال أمن بزي مدني، "موافي" من منزله كالمعتاد في شهر مايو المنصرف، و"عمر" من نادي الطيران بينما يفطر مع أسرته لصيام ليلة النصف من شعبان 2 يونيو 2015.

المرة الرابعة لاعتقال "موافي" جاءت مختلفة وفقا لزوجته "أمن الدولة كانوا بياخدوه قبل كده بتهمة الانتماء لجماعة محظورة ويخرج بعدها.. كنا بنبقى عارفين مكانه"، غير أن تلك المرة حجب الأمن مكان احتجازه، منذ اقتحام بيت نقيب المعلمين في بلطيم –كفر الشيخ- من قِبل خمس رجال مدججين بالسلاح، وتتبعت "أم إسراء" زوجها، لكنها لم تجده بمركز شرطة "بلطيم" كالمعتاد، وكذلك مبنى المحافظة نفى وجوده، ومنذ هذا لا يبقى للزوجة سوى كلمات تصل إليها عبر أهالي محتجزين عن تواجد زوجها بمقر الأمن الوطني بكفر الشيخ.

أما "عمر" طالب الفرقة الثالثة بكلية هندسة وتكنولوجيا العاشر من رمضان، فظهر بعد 13 يوم اختفاء في سجن "العقرب"، ليعرض على النيابة في القضية رقم 423 دون علم للأسرة أو تواجد محامين حسب أسرة الشاب الرياضي، لاعب الكونغوفو الحائز على بطولات لنادي الطيران، وظل يواجه مصير التجديد حتى 6 سبتمبر، حيث تفاجأت الأسرة بتحويل القضية للقضاء العسكري بأمر من النائب العام، وسط صعوبة بالغة في زيارة طالب قسم الميكانيكا، الذي ظهر اسمه وفقا لعائلته بعد ظهوره في قطاع مصلحة السجون يوم 9 يونيو مسجلا كنزيل بسجن طره.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل