المحتوى الرئيسى

جابر العثرات يكتب: مُرورَ الكرام (2) ..الدولة مجازاً

11/03 16:09

فى مناسبتين متقاربتين زمنياً، وجدنا رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون يستخدم فى تصريحاته الصحفية تسميتين مختلفتين للإشارة إلى نفس الشىء:

– أكد عصام الأمير رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، رفضه لحملة الهجوم التى تقودها إم بى سى ضد التليفزيون المصرى

– عصام الأمير: إعلام الدولة قام بدوره الوطنى فى الانتخابات البرلمانية

فها هو المسئول الأول عن أكبر كيان إعلامى رسمى يشير تارة إلى هذا الكيان بـ’التليفزيون المصرى‘ وتارة أخرى بـ’إعلام الدولة‘. هذا التنقل بين المسميات، خاصة عندما يصدر عن مسئول رسمى يُفترَض فيه أنه ينتقى المقال المناسب لكل مقام، لا يجب أن نأخذه طبعاً على أنه ضرب من الثراء اللفظى أو التنويع فى العبارة، وإنما أن نرى فيه رسالة ومضموناً. والحال أن هذا التنقل حول مفردة ’الدولة‘ منها وإليها هو ظاهرة أوسع وأعم من تصريحات المسئول المذكور. فإلى جانب كونه أسلوباً شائعاً للكتابة فى الأخبار والمقالات وحتى التدوينات الشخصية للناس العادية على صفحاتهم الخاصة، فإنه أيضاً يتكرر فى خطابات أعلى مسئول على رأس السلطة فى مصر: الرئيس نفسه كما سنرى. ثم إننا نجد نفس الشىء حتى فى الدستور المصرى، الذى يبدأ بديباجة إنشائية لا تظهر فيها مفردة ’الدولة‘ إلا أربع مرات؛ مرتان منهما عبارة عن إشارتين تاريخيتين لمصر باعتبارها أول دولة مركزية ولمحمد على باعتباره مؤسس الدولة المصرية الحديثة، ثم المرتان الأخيرتان اللتان ليستا إلا عبارتين خطابيتين: دولة عادلة، دولة ديمقراطية، تمثلان فى جوهرهما قيماً يُطمح إليها، فى حين تذكر الديباجة مصر بمشتقاتها من ’مصريين‘ و’مصرية‘ و’مصرى‘ سبع عشرة مرة، أى أكثر من أربعة أمثال عدد مرات ظهور مفردة ’الدولة‘، ثم فجأة، بعد الديباجة مباشرة، يظهر عنوان “الدولة” على الباب الأول من الدستور، هكذا وكأنها شىءٌ مفروغٌ منه وشبعنا فيه كلاماً. فأى شىء قد تمثله مفردة ’الدولة‘ بحيث إنها توظّف فى مناسبة أو سياق ما، وفى مناسبة أو سياق آخر يُسكت عنها ويصير أن لا محل لها هنا؟

بمسح سريع لحصيلة المفردات المتداولة فى الخطاب الإعلامى والرسمى، سنجد أن مفردة ’الدولة‘ من أكثر المفردات التى تتردّد فيه، وهى أيضاً من أكثرها التباساً فى دلالتها وإثارة للجدل.. فعندما يكتب سليمان جودة: بملء فم الدولة! عاقداً المقارنة بين قانون منع الحجاب فى فرنسا وقرار رئيس جامعة القاهرة بمنع المنتقبات من التدريس بالنقاب، قد نفهم أنه يقصد بالدولة مؤسسات إنفاذ القانون مثلاً، لكن هذا الفهم سرعان ما يصبح محل شك، عندما ينتقل للحديث عن وزير التربية والتعليم الذى خذلته الدولة فى معركة العشر درجات. هنا يتضح أن الكلام عن سلطة تنفيذية لا سلطة قضائية. وحيث إننا نعرف أن تجميد العمل بالقرار إيّاه كان قد صدر عن رئيس مجلس الوزراء، فإننا قد نبدأ نتصور أن المقصود بالذات هو الحكومة السياسية للبلد، غير أن الكاتب يدفعنا للحيرة زيادة عندما يصف دولة فرنسا بـ”الدولة القوية”؛ ذلك لأنها «لم تدفع عمدة باريس، مثلاً، ليصدر القرار هو، ولتتخفى هى وراءه، ولكنها أصدرته هى، وتحملت عواقب إصداره بشجاعة» مُلمِّحاً بهذا إلى إمكانية كون الوزير فى الحالة المصرية ستاراً تتخفى وراءه الدولة بقراراتها. طيب، كيف يمكن أن يكون وزيرٌ، هو بالتعريف جزءٌ من الحكومة، ستاراً لها؟! هل ينفع أنّك –حتى ترتّق الثوب– ترقّع مكان الرتق برقعة تقتطعها من نفس الثوب، ومن مكان بارز فيه بمقاس وزير؟! إذن لا بد أن المقصود ليس الحكومة، وإنما هو السلطة التنفيذية الأعلى. عند هذه النتيجة وجدتُنى أعيد قراءة المقال بإمعان أكبر، لأجده فى معرض إشارته إلى خذلان الدولة للوزير المذكور، يحمد الكاتب الله على أنها –أى الدولة– لم تخذل رئيس الجامعة المذكورة مثلما خذلت الوزير. وهى إشارة مُلغِزة لى؛ لأن العلاقة –الدستورية على الأقل– بين السلطة التنفيذية ورئيس الجامعة، أى جامعة، من المفترض أن لا مكان فيها للدعم أو للخذلان؛ ذلك لأنها تقوم على استقلالية منصب الأخير. هكذا، إذ يظهر لنا أن الدولة ليست هى المؤسسات وليست الحكومة وليست مركز السلطة، فإنه عندما يُذكر فى المقال: «وطالبت الدولة بأن …» فأحاول أن أفهم من أو ما هو المُطالَب هنا، أجد مكانه ما تسميه الرياضيات بالقيمة الخاوية، تلك التى لا تحتوى حتى على عنصر الصفر، بل عبارة عن فراغ عدمىّ لا يشغله شىء فى فضاء الواقع؛ إنها اللاشىء.

مقالة سليمان جودة السابقة مجرد مثال، على نفس منواله يمكن قراءة كتابات صحفية أخرى، أو حتى أن نحلّل من الأساس فكرة أن يتخذ كاتب صحفى اسماً رمزياً له هو ’ابن الدولة‘، لكن اختصاراً للمساحة دعونى أقول إن الكلام عن الدولة باعتبار أنها اللاشىء قد يبدو لكم محض سفسطة، إلا أن فيه صدى لآراء خبير مثل تيموثى ميتشل. يُعد ميتشل، البريطانى الأصل، أحد علماء السياسة والخبراء فى دراسات الشرق الأوسط وخاصة مصر، وقد قضى بالقاهرة عدة سنوات خلال الثمانينات، حيث درس اللغة العربية. والحالة المصرية تشغل مساحة بارزة من موضوعات معظم كتبه. فماذا يخبرنا ميتشل عن الدولة؟ يقول ميتشل إن الكلام عن الدولة باعتبارها كياناً قائماً بذاته، سواء كان هذا الكيان الطرف الفاعل أو الأداة أو البنية المؤسسية، يستدعى دوماً وبالضرورة ترتيباً ذهنياً معيناً. فى هذا الترتيب الذهنى تبدو الدولة كأنها ’شىء‘ قائم بذاته له موقعه فى الفراغ السياسى، وهو موقع مقابل ومواجه لكيان آخر يمكن أن نسميه ’المجتمع‘. هذا الترتيب، يقول ميتشل، وهمى.. غير موجود فى الحقيقة؛ لأنه فى الواقع لا توجد هذه الحدود بين ما نسميه بالدولة وما نسميه بالمجتمع أو الشعب، وإنما الدولة هى مجرد تمثيل، شىء مجازىّ، يُسقَط على الواقع عبر ممارساتنا نحن وعباراتنا اليومية؛ أشياءٍ من قبيل المصطلحات القانونية وعمارة المبانى العامة من محاكم وهيئات والأزياء العسكرية الموحّدة، إلى آخره من المظاهر التى تعطى الوهم بوجود شىء قائم بذاته اسمه الدولة.

إذا نحن سلّمنا بلا شيئية الدولة؛ أى أنها مجرد مجاز لغوىّ لا يؤول إلى شىء حقيقى وإنما فقط إلى معنى تجريدى (وليس كياناً له حضور يمكن للواحد أن يقف قبالته وجهاً لوجه ويطالبه بمطالب) وهو مجاز يتمثل فى جملة من الإجراءات والتدابير والممارسات والأدوار التى يقوم بها الأفراد – إذا نحن سلّمنا بذلك، فإن التعبيرات الرسمية من قبيل ’دين الدولة‘ أو ’يهودية الدولة‘، أو الرائجة مثل ’هيبة الدولة‘، أو التمثيلات الموحية من عينة ’الدولة العميقة‘، تمسى كلها محض أشباح فى أذهان المتكلمين والمتلقين، ليس لها مدلول محدد يمكن للواحد أن يقبض عليه بيده.

لا أريد أن أحوّل هذه إلى تدوينة فى العلم السياسى، فأقعد أتكلم معكم فى أن ما سبق لا ينفى التمايز بين الدولة والمجتمع باعتبارهما مجالين، لكنه فقط ينفى كونهما شيئين، فما يهمنى أن أتكلم عنه حقاً هو توضيح أن الوجود المادى أو الرمزى للدولة، بسبب كونه وهماً مُختلَقاً، فإن التناقضات التى تنجم عنه كثيرة؛ تناقضات ليست فقط منطقية دلالية كما فى مقالة سليمان جودة أعلاه؛ عبارة عن مجاز فى ذهن الكاتب قائم على الوهم، وإنما تناقضات بين اللغة والواقع نفسه. على سبيل المثال يميز القانون بين الملكية العامة –أى المملوكة للمجتمع– وبين أملاك الدولة، وهو ما يمكن التعبير عنه “بالبلدى” بأن للدولة جيبها الخاص. ولكننا فى نفس الوقت نجد أن مبدأً مثل حق العلاج لكل المصريين يُسمى فى مصر بـ”العلاج على نفقة الدولة”. ووجود الاصطلاحين جنباً إلى جنب –أملاك الدولة والعلاج على نفقة الدولة–وبافتراض أن الدولة هنا هى الدولة هناك، فإن ذلك لا يوحى فقط بأن الدولة شىء وأن المجتمع شىء، ولكن أيضاً أن الدولة تنفق على المصريين الفقراء المرضى من هذا الجيب الخاص لها. وهذه مفارقة غريبة! ولأن عملية التمثيل هذه –Representationكما يسميها ميتشل– لا تكُفُّ عن إنتاج نفسها، لم تعد الغرابة فى مصر تقف عن حد الجيب الخاص للدولة، بل تتعداه إلى حد أن انبثقت من مجاز الدولة عدة مجازات أخرى لها وجودها ’الوهمى‘ القائم بذاته والمستقل عن الدولة، وعن المجتمع بالتبعية، بما يسمح بخروج تصريحات من قبيل مصر دولةً وشعباً وجيشاً والذى صرّح به مسئول فلسطينى فى معرض إشادته بالدور المصرى لقضية شعبه، أو كما جاء فى كلمة رئيس الدولة المصرية نفسه أمس القريب عن التعاون بين القوات المسلحة والدولة، وذلك دون أن تلفت مثل هذه التصريحات انتباه قائليها بغرابتها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل