المحتوى الرئيسى

فى ذكرى طه حسين: مستقبل الثقافة فى مصر مازال غامضًا

11/03 09:39

«إن عصور الانحدار والتخلف انتهت فى مصر منذ أن تيقظت من سباتها بالحملة الفرنسية وحكم محمد على، وبدأت تأخذ من أوروبا علومها وأسلوبها فى الحكم، وصار كل شىء فى مصر غربياً، حتى المؤسسات الإسلامية فى مصر مثل المحاكم الشرعية, كانت على غرار النمط الأوروبى، حقيقية هناك فروق بين مصر وأوروبا حالياً, لكن هذا يأتى من أن عصر النهضة الأوروبية قد بدأ فى القرن الخامس عشر، أما عصر النهضة فى مصر, فقد بدأ مع بداية القرن التاسع عشر، لكن مصر سوف تلحق بأوروبا فى وقت قصير إن شاء الله».

ترى هل خطر على بال كاتب هذه الكلمات والتى مر على طباعتها أكثر من ثمانين عاماً، أن الوضع فى مصر ما زال على ما هو عليه، وأن نبوءته لم يتحقق منها شىء، وأننا لم نستطع استغلال أى من الاستقلالات التى حصلنا عليها طوال القرن العشرين، ولا أى من الثورات التى بدأنا بها قرننا الحادى والعشرين.

هذه الكلمات من كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين والذى تحتفى الدوائر الفكرية هذه الأيام بذاكره، فحال الثقافة الآن ألزمنا أن نعود بعض الشيء إلى الوراء لعلنا نعثر على فكر مفيد لدى أجيال سابقة لنا، تخبرنا ما الخطأ الذى وقعنا نحن فيه؟ والذى لا سبيل لنا للفكاك منه حتى الآن.

فعندما وقعت مصر معاهدة الاستقلال عام ١٩٣٦ اعتقد المصريون أن بلدهم يسير بخطى ثابتة نحو بناء دولة حديثة، و«طه حسين» من موقعه كأديبٍ ومفكِّرٍ ووطني، رأى ضرورة أن يسهم في وضع تصوُّر لمستقبل الثقافة في مصر، صابغًا تصوُّره ذاك بمسحة غربية ينكر معها استمرار ارتباط مصر بأصولها الشرقية، مؤكدًا أنها أقرب لدول حوض البحر المتوسط منها لدول الشرق، ومن هنا فقد أثار الكتاب موجةً عنيفةً من الانتقاد لا تقلُّ عن تلك التي واجهت العميد حين أصدر كتابه «في الشعر الجاهلي»، وأنكر عليه البعض إغفاله للعلاقات بين مصر والشرق، مؤكدين أن المصريين، وإن كانوا غير مرتبطين بدول الشرق الأقصى، فإن هناك تقاربًا ثقافيًّا لا يمكن تجاهله بينهم وبين الشرق الأدنى، ولا سيما العرب.

صدر كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» لطه حسين عام 1938م. بعد أن وقعت مصر معاهدة 1936م, التى أنهت بها الاحتلال البريطانى رسميا، وأصبحت بمقتضاها دولة مستقلة.

الاستقلال, كما يقول طه حسين, ليس غاية فى حد ذاته, وإنما وسيلة لبلوغ أسمى الغايات، وأسمى الغايات بالنسبة للفرد هو الحرية والسعادة، وبالنسبة للمجتمع, هى بلوغه أعلى درجات الحضارة، وهذا يأتى من إعلاء شأن الفرد وإعمال العقل والمنطق كمنهج.

وفى تفنيده للكتاب يقول الكاتب إبراهيم العريس «نجد هنا تأثير الفكر الفرنسى على طه حسين, كومتيه ورينان ودرخيم وأناضول فرانس وأندريه جيد. فأوروبا بالنسبة لطه حسين, هى الحضارة الإنسانية والتمدين والديمقراطية، وليست الحضارة الغربية حضارة جافة مادية فقط, كما يدعى أهل الشرق، إنما انتصارها المادى يرجع إلى ثرائها الروحى، متمثلاً فى الأعمال الأدبية والفنية العظيمة، ويرجع إلى نضوج تجربتها السياسية فى شئون الحكم.

فطه حسين يقول فى كتابه إن مصر يجب أن تكون جزءاً من أوروبا حضارياً، لأن هذا هو الطريق الوحيد لكى ننتمى للعالم الحديث، ولأن اتفاقية الجلاء واعتراف دول أوروبا باستقلال مصر, هو بمثابة اعتراف وثقة بقدرة مصر على أن تكون دولة حضارية مثل أية دولة أوروبية، أى أنها دولة تحترم حقوق الإنسان وحريته، وتحكم بالنظم البرلمانية الحديثة، فعلينا أن نكون أهلا لهذه الثقة، وهذا لا يعنى أن نصنع حضارة خاصة بنا, يمكن مقارنتها بالحضارة الأوروبية، وإنما لكى نقنع أنفسنا بأنه ليست هناك أية فروق بين الرجل المصرى والرجل الأوروبى، فالله سبحانه قد خلقنا للمجد والرفعة, ولم يخلقنا للضعف والمهانة كما يتصور البعض، ولكى نكون مثل الأوروبيين, يجب أن نسير فى نفس الدرب الذى ساروا عليه، ونأخذ حضارتهم بما فيها من حلو ومر وخير وشر.

عندما صدر كتاب طه حسين، كان معظم الكتاب والمفكرين ومنهم أحمد أمين, يصنفون دول العالم إلى دول شرق ودول غرب، وكانوا يضعون مصر مع دول الشرق نظراً لموقعها الجغرافى، أما طه حسين, فيقول فى كتابه، إن مصر ثقافياً وحضارياً, هى دولة غربية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة، فالعالم ينقسم إلى حضارتين لا ثالث لهما، الأولى تأخذ جذورها من الحضارة المصرية القديمة وفلسفة اليونان والقانون الرومانى، والثانية تأتى من الهند.

ومصر تنتمى إلى الحضارة الأولى، فلماذا إذن ينظر المصريون إلى أنفسهم على أنهم من أهل الشرق؟ هل هذا بسبب اللغة والدين، والمشاركة فى هموم الاحتلال والتخلف، وما دمنا متخلفين مثل دول الشرق, ونتحدث بلغتهم, فنحن مع حضارة الشرق، ولكن تاريخ مصر يقول عكس ذلك.

فمصر كانت عبر التاريخ على اتصال بدول البحر المتوسط وبحر إيجة، وكانت هى نفسها مهد حضارة غمرت الآفاق آلافاً من السنين، هذه الحضارة هى جذور وأصل الحضارة الغربية الحديثة، وخلال التاريخ, كان تأثير حضارة مصر على اليونان, وتأثير حضارة اليونان على مصر واضحاً ومستمراً، وحتى عندما كانت مصر جزءاً من الدولة الإسلامية, نجدها تستقل بشخصيتها منذ حكم ابن طولون، وكانت على اتصال بحضارة الغرب والبحر المتوسط أكثر من حضارة الشرق، لماذا إذن تخلفت مصر عن دول الغرب حضاريا؟

يقول طه حسين إن ذلك يرجع إلى الاحتلال التركى، فهو الذى قضى على حضارة مصر, ولفترة طويلة، وجعلها تمر بعصور مظلمة مثل العصور المظلمة التى مرت بها أوروبا من قبل، وبالرغم من كل ما قيل عن الأزهر, إلا أنه قد حمى الإسلام من الأتراك.

بدأت الحضارة فى مصر، ثم انتشرت منها إلى جميع أنحاء العالم القديم. ثم خبا نورها فى مصر ليسطع فى اليونان. ومن اليونان إلى الإسكندرية والشام. ثم أسهمت الإسكندرية والشام والفرس والترك والهنود فى الحضارة الإسلامية, التى استمرت أربعة قرون. ثم انتقلت عن طريق الأندلس وصقلية إلى أوروبا.

هذه الحضارة تعرف اليوم خطأ بالحضارة الغربية، وإنما الاسم الصحيح لها هو الحضارة الإنسانية، فهى بمثابة النهر الذى يصب فيه الكل. وينهل منه الجميع، ونحن نتساءل بدورنا: لماذا الخوف من الحضارة الغربية؟

يرى العميد فى كتابه المهم، أن الخوف من الحضارة الغربية يأتى من عدم الثقة فى أنفسنا وفى قدراتنا، ويأتى من مجموعة تحتكر تفسير الإسلام، وتعارض الحضارة الغربية من منطلق دينى بحت خوفاً من تأثير هذه الحضارة على مفهوم العقيدة، لكن هذا الخوف لا مبرر له، لأنه ناتج عن عدم فهم لكل من الديانة الإسلامية والحضارة الغربية على السواء، وكل الذين ألموا بأصول الديانة الإسلامية, وكانوا ذوى ثقافة واسعة، مثل الكندى والفارابى والرازى وابن سينا وابن رشد وابن خلدون. ومن المحدثين, أمثال رفاعة الطهطاوى وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وطه حسين, لم يجدوا أى تعارض أو خوف من الاستفادة من الحضارات الأجنبية, مع الاحتفاظ بالأصول الإسلامية التى تدعو لها الشريعة الغراء.

ويقول الكاتب محمد زكريا توفيق عن هذا الكتاب «في رأى طه حسين أن مصر الراهنة ومصر المستقبل لن تصل إلى درجة مثلى من الحضارة والرفاة لأبنائها إلا إذا قامت على الأسس الفكرية التي قامت عليها مصر القديمة والفرعونية تحديداً، في تواصل مدهش مع الحضارة الإغريقية العقلانية، كما في توازن خلاق مع حضارات العالم القديم التي كانت في أساس التجديد الخلاق في حياة وازدهار شعوب المناطق الثلاث التي تشكل استمرارية تلك الحضارات الصينية واليابانية والهندية، ويبدو طه حسين واضحاً هنا حين يشير إلى أن هذه الحضارات، رغم ما أصابها من انتكاسات، تمكنت في الأزمنة الحديثة من استعادة المبادرة، من هنا رأى طه حسين أن على مصر اليوم أن تفعل الشيء نفسه، من دون أن يعني ذلك أي اندماج سياسي، أو تبعية اقتصادية، بالنسبة إلى طه حسين، المسألة مسألة ثقافية حضارية، وهي بالتالي ترتبط بالتعليم وبإعداد الأجيال الجديدة بجعلها مستعدة لدخول زمن العالم، ولأن هذا البعد الأخير هو الأساس والمنطلق الذي وضع المؤلف كتابه انطلاقاً منه ووصولاً إليه، حدّد أهداف التعليم بالنسبة إليه بداية من إعداد الإنسان للتفاعل مع الثقافة المعاصرة، وتعزيز مبدأ المواطنة عبر السعي إلى توحيد التعليم ومناهجه، سواء كان هذا التعليم رسمياً، خاصاً أو أزهرياً، ما من شأنه أن ينتج مواطنين موحدي الأسس الفكرية، ثم أحراراً بعد ذلك في توجهاتهم ضمن إطار شعورهم المشترك بالمواطنة في دولة رعاية واحدة، وهذا الأمر يستتبع، بالنسبة إلى مفكرنا، إعداد المناهج التعليمية في شكل علمي وعقلي بغية منع الدروشة والتخلف من السيطرة على عقول الناشئين، أما بعد ذلك فإن طه حسين يعالج مسألة أمية المتعلمين، من دون أن يطلق عليها هذا الاسم. إذ بالنسبة إليه، لا يكفي نيل الشهادة لاكتساب عقل ماهر وفعال. لقد كان طه حسين يرى أن هذا الذي يعرضه في كتاب أراد منه أن يساهم في بعث عصور جديدة، هو الحد الأدنى المطلوب، لكن الذين هاجموا الكتاب، وفور صدوره، لم يروا الأمر على هذه الشاكلة، بل اعتبروه إضعافاً لمصر وإبعاداً لها من الوحدات المتعددة الافتراضية التي كانوا يريدون إدخال مصر فيها عبر إلغاء تاريخها.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل