المحتوى الرئيسى

حكاية "العبادي".. صاحب خدعة الحرب البديلة بـ"الغناء"

11/01 16:22

منذ أثنين وأربعين عاما في هذا الوقت، كانت تبادل النيران بين الجانب المصري والإسرائيلي بحرب أكتوبر قد توقفت بالقرار 338 الصادر من مجلس الأمن، كان وقتها "علي العبادي" في موقعه بأحد الثكنات العسكرية في القنال، يستعد لإشارة الموافقة من قائده للعودة إلى القاهرة -لمقر سكنه بجاردن سيتي- والذي لا يزال يسكن به حتى الآن، وتنصت جدرانه لذكريات الحرب دوما.

رائحة أكتوبر لا تزال تجد مكانا في بيته الصغير، وسط آلات المزيكا المتنوعة التي تسلل حبها إلى قلب الرجل الستيني مذكرة إياه بجزء من خطة الحرب صنعها صوته والموسيقى، شهادة تقدير من قائد حرب منحها إلى فرد الاستطلاع في الجيش اتخذت موقعا بحائط منزله، الشهادة تكرمه كواحد من أبناء الوحدة 2500، تسرد جزءا من الحكاية، باشتركه في معركة العاشر من رمضان، 6 أكتوبر، وكان "ضمن الموجات الأولى من العبور والتي اقتحمت خط بارليف واشتركت في معارك سيناء، وقد أدى واجبه بشجاعة نادرة أثناء سير المعارك وأبلى بلاء حسنا"، بتلك الشهادة وحدها كان تكريم العبادي، ابن قبيلة العبابدة من أسوان، التي تعود أصولها إلى سلالة الزبير بن العوام، اتخذوا من العبادة اسما لهم، وينتشرون بالجزيرة العربية أيضا.

عام وراء عام تمر ذكرى أكتوبر على فرد الاستطلاع القديم المحب للغناء، والذي كان رفيقا له قبل الولوج إلى الجيش المصري، يتذكر وقت أن كان طالبا في مدرسة مصنع البلاستيك، لم يكن يعرف الكثيرين عنه كمكان للدراسة والعمل، ليصبح مؤهلا بصنعة "فراز" للبلاستيك، تؤهله فيما بعد عند اختبارات القوات المسلحة "كان وقتها فيه أولوية للصانع الماهر في أماكن متقدمة في الجيش"، ويكون أول أيام دخوله الجيش في رمضان 1969، يصبح بعدها بعامين تقريبا من "مقدري المسافة" على أحد الأجهزة العتيقة التي تحسب المسافات بين مكان الجيش والعدو، ويقول إنه لا يزال متواجدا إلى الآن في بانوراما حرب أكتوبر.

في عام 1971، أصبح العبادي رسولا لأهله على جبهة الحرب؛ بعد أن أصيب شقيقه الأكبر –عوض- أثناء تواجده في الجيش بحرب اليمن 67، على خط القنال بالإسماعيلية استمرت فترات التدريب حتى إعلان توقيت الحرب، ورديات تصل إلى 12 ساعة يوميا كان العبادي فيها يتعلم ويقيس الإحداثيات، ومنها تُرسل الإشارات إلى القيادة لتحدد صورة كاملة عن وضع الجبهة الساخنة، "كان دورنا كأفراد استطلاع أننا ننقل صورة الأهداف للجيش في كتيبة اللواء الواحدة، واللي بتضم مجموعة أسلحة".

يوم الخامس من أكتوبر كان كتيبة العبادي على موعد جديد من خطة الخداع التي كان فيها الجيش المصري، لا يعرفون هم أيضا موعدا نهائيا للحرب، لكن شائعات تنتشر عن ذهاب الجيش للعمرة، وشائعة عن إجازات تُمنح لأفراد من الجيش، لا يبتعد فيها العبادي بالمشاركة بحفلة غنائية بسيطة، لا يزال يحتفظ بصورة من تلك الحفلة، يرتدي فيها الأفرول العسكري، يقف أمام الميكرفون يؤدي أحد الأغاني، كانت أغنية "ازيكم ازيكم.. كيف أنكم.. أنا ليا زمان ما شفتكم"، وهى أغنية شهيرة للمطرب السوداني سيد خليفة، كانت الفرقة العسكرية تؤديها من ورائه، "وقتها كان الإسرائيليين على الناحية التانية بيستفزونا ويقولوا مصري (تعالي اشرب شاي) باللغة الإنجليزية والعربي المكسر، مكنوش عارفين إن الحرب هتقوم في أقل من 24 ساعة".

الساعة الثانية ظهرا في السادس من أكتوبر لم تكن فقط ساعة الحرب، لكنها أيضا كانت "ساعة قائد عظيم"، فطوال الأيام الساعة الثانية والثامنة مساءً هو موعد مرور أحد اللواءات أو القادة على الكتائب، تكون من قبلها كل الجنود على أهبة الاستعداد في مواقعها، وفي السادس من أكتوبر كان إطلاق الحرب مفاجأة للعبادي كما للجميع "اختيار الساعة 2 مكنش من فراغ"، لحظات العبور ، أول تكبيرة، وأول احتضان لمصري زميل على جبهة الحرب، لحظات لا تمر دون دموع الرجل الكبير "قعدنا 6 أيام وخمس ليالي على الجبهة"، وعدينا تقريبا 8 كيلو داخل القنال، واستمرت قوات الصاعقة قبل وبعد الحرب بتمهد لينا بعمليات استشهادية، وعلى لسان العبادي يروي أن الشاذلي بقى قرابة الستة أشهر بداخل الجبهة بعد الحرب.

"ضربت 72 هدف، ما بين صواريخ ودبابة وقاعدة وغيرها".. بلسان يملؤه الفخر تحدث الرجل الستيني عن إنجاز لا ينساه، يتذكر كيف أفلت من المتفجرات، لحظات الفرح والونس مع أصدقاءه من الجنود على الجبهة، جوابات الأهل التي تصل بين الحين والآخر تهون مرارة الصحراء والحرب غير المتوقعة، كما أن هناك لحظات ألم حين فقد رفيقه في الاستطلاع "محمد أبو الليل"، وقتما أصابته قذيفة في أحد الحفر البرميلية "يومها دفناه مكانه، وحتى مكنش فيه وقت نحزن عليه".

حكايات النصر وقصص البطولة حكاها العبادي لأولاده الأثنين، يتذكر حالة مزرية للبلاد عقب الحرب، يراها سببا لعدم تكريم كل الجنود الذين عادوا بالانتصار، "أول ما رجعت الناس في الشارع كانت بتتخانق على صابونة، اقتصاد البلد كان واقع، البلد مكنش فيها حاجة وده كان أولى للقيادة في البلد أهم من أي تكريم؛ لأن البلد كلها كانت بتحارب مش الجيش بس، كان كل مقتدر في البلد يضحي عشان الجيش سواء بالمال أو التطوع في المجهود الحربي"، يحكي العبادي أن هذا التكريم أصبح منسيا من ذهن القيادة ليس للجنود الصغار فحسب، لكن أيضا للواءات كِبار "في أبطال كتير قدموا للبلد وما اتكرموش، زي صائد الدبابات أو حتى عبد المنعم رياض صاحب الدور الكبير في حرب الاستنزاف".

ظل العبادي عاملا بمصنع البلاستيك بعد الحرب، تاركا المجال أيضا لهوايته الغناء، بأدوات بسيطة صنعها بنفسه عاش أيامه بين الفن والعمل، يتحدث بشغف الأطفال عن أدوات الموسيقى الأسوانية والسودانية المنشأ، مثل الطمبورة شبيهة السمسمية، والجنزي والدف، صنع منهم فرقة خماسية تعزف بخمس آلات، لم تكتب لها الاستمرار حتى الآن، جولات عدة في قصور الثقافة أبرزها قصر ثقافة النيل القريب من منزله، وعدة جولات في محلات عماد الدين "الغنا في دمي، وتتلمذت في كورال الشيخ زكريا الحجازي، واشتركت في الفرقة القومية للفنون الشعبية"، استمع إلى موسيقى غربية وألف منها ما عشقه وحبه.

ظل "العبادي" ينتظر تكريما طوال حقبة مبارك في الثلاثين عاما، لم يذق إلا نيران الخصخصة التي أتت على مصنعه في عام 1999، وجعلته خارجا بمعاش مبكر، مودعا بحزن لم يملك معه الدموع حين تذكر "وقتها ودعنا الآلات قبل ما نمشي، واتخصخص المصنع واتسرح العمال"، العامل المنبوذ يرى أن مبارك أفسد مصنعه كما لم يكرم من يستحق في الحرب "للأسف أنا ولادي كانوا في ذكرى أكتوبر بيقولوا الضربة الجوية، لكن أنا فهمتهم أن الحرب مش بس ضربة، ده جيش كامل قدم التضحية من أقل الإمكانيات، مفيش دول أجنبية وقفت جنبنا بالسلاح إلا التشيك وحبة سلاح روسي، وإحنا كنا بنحارب أمريكا وإسرائيل".

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل