المحتوى الرئيسى

رسائل الغيطاني عن عذابات المصري في زمن «كامب ديفيد»

10/28 16:44

”وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت”  .. حقيقة تذكرها الغيطاني وهو يسرد سجلاته عن غربة المصريين.. وهو الكاتب الذي منحته أقداره بعثا جديدا بعد شبح الحرب ، فظل ممتنا للفرصة و انطلق يستجلي كنه الحياة والموت، ينسى الوقت برحاب العتبات العتيقة بالقاهرة والتي تشي بسيرة من مروا هنا قبل آلاف السنين .. يأسف لأنه عاش زمنا يسخر من القيم والبديهيات .. يقرر أن يدون كل شيء لأجيال لم تعش تلك اللحظة ..

”رسالة البصائر في المصائر” متتالية قصصية متشابكة، كتبها الغيطاني بصوت راو عليم بنهاية الثمانينات وأعيدت طباعتها وترجمت للغات عدة. وقد ضم المؤلف بمجلده ثلاثة أعمال تعبر كلها عن مصريين شهدوا الحرب وكادوا يفنون لاسترداد تراب الوطن من المحتل فإذا بهم مجبرين للهجرة لبلاد النفط، بعيدا عن دفء الأرض والذكريات ..

التيمة الأساسية للمجموعة هي بيع المباديء مقابل المال ، وتلاشي قيمة العلم والعمل الشريف والنضال من أجل الوطن وصعود الأفاقين والانتهازيين . وتجمع الوحدة والاغتراب شمل أبطال القصص، والذين يلتقون بسنوات حكم الرئيس السادات، وبعد نصر أكتوبر، وحتى توقيع معاهدة كامب ديفيد، أما المكان فيشمل القاهرة وعواصم الخليج وإحدى العواصم الأوروبية، ليشهد الجميع على الكارثة التي تمتد توابعها حتى اللحظة.

ستقرأ عن “حارس الأثر” عم عاشور، والذي أورثه أبوه الصعيدي عشق حي الحسين منذ قدما إليه في طفولته، استقبلهما عالم الآثار حسن أفندي عبدالوهاب، سكنا إلى جوار قبة قلاوون، مات الأب بلدغة حية رابضة تحت القبة، فيما كان يهم بتثبيت حجر سقط منها، وظل الابن مسكونا بالمكان العتيق، الذي بناه المماليك في عصر زهوة الدولة الإسلامية بالقاهرة.

أصبح “عاشور” قبلة للباحثين الغربيين لمعرفة أسرار المكان؛ كان شرحه عجيبا لأثر هو حدود دنيته ، حتى أنه أتقن همسات الأركان القصية وطقطقات الخشب وأصوات مرور الهواء والكسور بالزجاج والمطر المنهمر وقد أسماه العالم كريزويل “لسان الحجر” . . لكن الناس من طيلة صمته ومكوثه ليلا لحراسة الأثر ظنون ملبوس بالجن، وشرعوا ينسجون الحكايات في ذلك.

لم يعرف أحد متى ارتضى الرجل الطيب أن يتعامل بتغيير العملة ويطلب الهبة من الزوار، ومتى صمت أمام من يدنس الأثر من سائحين يدخلون لممارسة الرذيلة ! وهو من كان يهيج فيمن يلقي بعقب سيجارة أو يضبط متلبسا بوضع مخل!!

ليس عم عاشور وحده من تغير في ذلك المكان القريب من العتبة الخضراء؛ فالغيطاني يستدعي طبيبا قطن بنفس البيت الذي أقام فيه سنوات بميدان الجيش. ظل الطبيب موضعا لثقة الجميع، بسبب حسن خلقه ونباهته وإحسانه للمحتاجين، وبمرور الوقت تغير الأمر والتفت لمجال العقارات، وقرر بناء برج ، وظل الناس يتساءلون عن سر ارتفاع ثمن تذكرة زيارته المفاجيء وتغير لغته التي صارت أقرب للعوام ، والإنهاك البادي عليه نتيجة مراقبة عمليات البناء والتشطيب، ثم تجاهله للطب بعد أن صار “حاجا” يصادق المسئولين ويفتتح مصانع ويشتري أراض !

كما أن لدينا هذا الشاب، خريج السياسة والاقتصاد، والذي ألحقه أبوه وكيل الوزارة السابق بكلية مرموقة أملا بأن يراه دبلوماسيا يمثل مصر بالخارج، وبالفعل اجتهد الابن وصار موضع فخر أساتذته، فإذا بفرص العمل مسدودة بضبة ومفتاح، والوسائط قليلة للسفر، وليس بالإمكان أبدع من فندق يملكه رجل عربي ليعمل فيه الشاب بالعلاقات العامة.

مهنة هذا الشاب تحتاج للأناقة واللباقة، والتفاخر بالمؤهلات والخبرات، ولكنها عمليا تستدعي خبرات مختلفة، فأنت على خطأ دائما أمام الزبون، تفعل كل شيء لجذب المزيد من الرواد، تتساهل بحقك وكرامتك مهما بلغ درجة الإهانة الموجهة إليك. المدير بدأ بإيفاد الشاب بمهام أشد خطورة أيضا، لقد طلب منه مواقعة بعض النزيلات الراغبات في المتعة! بل وبعض الراغبين من الشواذ!! .. ليست هناك مستحيلات في عالم يحكمه المال.

في عام  1969 زار الغيطاني مقهى خارج السويس وكان مجندا آنذاك، وشاهد الشظايا الإسرائيلية تنهي حياة الرفاق واحدا تلو الآخر، كان موتهم محققا ونجاتهم تعني أنهم سينعمون بمجرد وقت مضاف زائد لحكمة يعلمها الله!

لكن فيما بعد، سيجد الغيطاني كيف جرت مفاوضات فض الاشتباك وزيارة كيسنجر ونيكسون ، وقرارات وقف إطلاق النار، ثم معاهدة الصلح مع العدو بكامب ديفيد . يصور الغيطاني عصرا سادت فيه لغة المنافع وصار التصالح بالدماء أمرا عاديا وإهدار المباديء وسيلة مجربة للصعود بدء من الساسة والرؤساء ووصولا لأبسط عامل .

في هذا العالم صعد تجار المخدرات وأصحاب القدرات الخاصة على اقتناص المناقصات بمشروعات البناء والقرى السياحية والاستيراد والتصدير، وبعضهم كان يتخذ من تلك المشاريع واجهة لأعمال مشبوهة، ومن هؤلاء ظهر الحاج “مقبل” صاحب مجموعة “مقبلكو” للاستيراد والتصدير، والذي وافق على تعيين ضابط مهندس أحيل للتقاعد بعد الأربعين، أي في ذروة شبابه، لمعاش مبكر، فعينه بحسابات المجموعة.

لم يكن أمام ذلك الضابط حلولا أخرى لمواصلة تعليم فتياته بالمدارس الأجنبية، وتوفير حياة شبه كريمة لهن، كانت الأسعار تزداد والمعاش لا يفي بشيء، والمشروعات التي ينخرط فيها هو أو رفاقه بالجيش تبوء بالفشل لغياب الخبرة ورأس المال . وكان الحل التوظف لدى طبقة الصاعدين الجدد.

وقد استفاض الغيطاني في تجسيد ألم ذلك المحارب القديم، خاصة بعدما اكتشف أن الشركة التي يعمل بها ليست إلا يافطة وهمية لتهريب المخدرات، فالسلع كاسدة وبعضها منتهي الصلاحية ولكن الشركة تعيد كتابة التواريخ، ولا يهم من يموت، ورغم كل تلك الفضائح لم يمر يوم إلا والحاج صاحب الشركة يصافح المسئولين وتزهو بسمته بصور عريضة على صفحات الجرائد .

يشعر المحارب الذي كان يوما مسئولا عن فك شفرات العدو، أنه صار قطعة حديد صدئة، من زمن حروب غابرة، لا يحب أحد أن يتذكرها . يشبه قلعة معزولة، تبدو شاهقة مهيبة من الخارج، ولكن حجارتها في الحقيقة مصمتة معزولة تعيسة. أما زمنه فهو أصفر رتيب وظلال البيت قاتمة بعد سفر الابن وانشغاله ، يستجديه بالرسائل فلا يجد غير ردود جافة متعجلة ينفطر لها قلبه!

خطاط ينتمي لأسرة مصرية كادحة، يتحول محل الخط العربي الذي كان يتقنه لمحل سوبرماركت، بعد أن عزف الناس عن شراء لوحات مكتوبة وفضل التجار لوحات منسوخة جاهزة ، نعم بلا روح لكنها أوفر وأسرع!

يضطر للهجرة للعراق بعد أن تعب من بيع المناديل بالإشارات وتذاكر السينما، وهناك يرى مهرجانات منصوبة للزعيم المفدى، قائد الثورة، ومن لا يبادر بإظهار الفرح يعتقل على الفور ويجري التحقيق معه. ولما كان صاحبنا خطاط فقد استعانوا به كثيرا لتسجيل إنجازات الزعيم بيافطات تزين الشوارع، وظل هذا الشاب سببا بإيواء العديد من الشباب المصريين الذين لم يجدوا ما يصنعونه ببلد تدور في فلك الزعيم المفدى.

لكن نهاية الخطاط لن تكون سعيدة، ويرجح البعض أن رجال الزعيم المسلحين قد قضوا عليه لأخطاء بلافتات التأييد!

مرة ثانية نلتقى بأحد  ضحايا الانفتاح، شاب مصري متفوق، كبله الزواج بمطالب جمة لم تكن بمقدوره، فالأم لا تتنازل عن دولاب فضيات ولا شبكة ماركة محددة لأن الابنة ليست أقل من اختها. يتغرب الشاب ليكفي طلبات البيت الجديد، يلتحق بجريدة صاحبها من أكبر مضاربي بورصات الأسهم والذهب، يظل مكلوما محروما من رؤية أبنائه، يكتب الخطابات النازفة شوقا لزوجته كي تعتني بهم ولا تحرمهم من شيء، يتوق للمسهم وملاعبتهم، لكن صاحب العمل لا يتيح له سوى أيام قليلة بالسنة لزيارة أهله.

يمر الوقت ويعود الرجل ليجد ابنته وقد أصبحت مقيمة دائما بشقة خالتها التي لا تنجب، أما ابنه فلا تربطه به أية صلة، يحاول أن يغير من الأمر شيئا فلا يستطيع، وتقتله شكوكه بزوج الخالة الذي يهيم بالفتاة ويدللها ، ولكن الغربة تطل بوجهها القبيح مجددا، فيضطر نفس الرجل للسفر مع زوج الخالة ببلد غربي، لأكل العيش، بعد أن فقد بريق الأمل بالقاهرة، وتموت أمه وهو بالغربة، ويكاتب شقيقته التي صارت وحيدة ببيت العائلة .. ثم يموت وحيدا نازفا من الألم .

والكاتب لا يفوته إظهار الذل الذي وصل له حال بعض المصريين بالدول العربية إبان توقيع معاهدة كامب ديفيد ،فهم يفتشون بشكل مهين بالمطارات وينعتون بأقذع الألفاظ وكأنهم مسئولون عن جريمة لم يرتكبوها.

نرشح لك

أهم أخبار رمضان

Comments

عاجل