المحتوى الرئيسى

الحسين تاريخ للوعي والاحتجاج

10/24 09:12

الحسينُ افقٌ مفتوحٌ للمراجعه التاريخيه والنقديه، ولوعي ما تمّ تدوينه في خطاطاتِ السلطهِ والجماعاتِ السريه واصحاب السيره والاسفار، فهو تاريخٌ وحده، تاريخٌ للوعي والاحتجاجٍ والرفض، وفكرهٌ متعاليهٌ للسمو والشهاده، فيه الكثير من يوحنا المعمدان، والكثير من الناصري، والكثير من يحيى بن زكريا، والكثير من الروح السقراطي الرافض لاي خيار خارج ارادته..

هذا الافقُ الحسيني العاشورائي يتمثله خطاب المجاهده، اذ يضع السيره بوصفها خلوداً، ويضع الموت بوصفه حياهً وبلاغهً للحق، وسعياً اخلاقياً لتطهيرها من عوارضِ التهوينِ والضعفِ والخذلان، مثلما هو الافق الانسانيُ الفائق لاستكناه ما يمكن ان يمارسه المرءُ ازاء استبداداتٍ كبري او صغري لا فرق، وبما يجعل صوره الحسين الامام الشهيد خارجَ توصيفِ القتيل الضحيه التي نستهلكُها كثيراً في المثيولوجيا، وداخلَ متعاليات البطولهِ التي تُحفّزها الذاكره الكربلائيه بوصفها شهادهَ متواصله علي وعي علني..

الحسينُ هو الكائنُ الارضي الذي اصطاد الموتَ، وحاوره، واطلقَ بوجههِ صوتَه (الاسرافيلي) الرافض للمنكر، والعالق بسمو لحظه كبريائهِ وكرامتهِ، ولما يمكن انْ يكونَه في جوهر القيمه الاخلاقيه لحركيه الثوره، تلك التي حفظها التاريخُ والوجدانُ الشعبي والحكواتي والرواه لانها شفرهٌ للوجود، ولعرفانيهِ الحلول في المعني القدسي واليومي، مثلما جعلتْ من فضائهِ العاشورائي اولَ فضيحهٍ حقيقيهٍ في تاريخِ الاسلام، حين تمّ اغتيال روحِ الرساله في دمه، والتجاوزُ علي رمزيهِ النبي محمد وسُنّته في تغييبِ خطابه، تعرّتْ فيها نجاسهُ الحكمِ العضوض، والعصابِ القومي والسلطوي، ورهاب الفكرهِ السلاليه التي جرّتْ التاريخَ الي سلسلهٍ طويلهٍ من الاستبداداتِ التي نعيشُ اليوم توحشَها وحروبَ تاويلها وفقه قاتليها، لكنها فتحتْ لنا بالمقابل البابَ السري لانتاجِ ثقافويهِ النصِ المعارضِ والسري، نصِ الاحتجاج والرفض والمواجهه.

هذه الكشوفات والتعريات الثقافيه والتاريخيه - بقطع النظر عن معطياتها - اخذتْ كثيرَ شفراتها من رمزيهِ الحسين الثقافي والرسالي والاحتجاجي اكثرَ مما اخذتْ من ايِ مصدرٍ اخر، بدءاً من حركه التوابين وحركه المختار الثقفي ورفض حجر بن عدي وصولاً الي ثورهِ زيد بن علي وابناءِ النفسِ الزكيه ومواقف الامام ابي حنيفه النعمان مروراً بمقدماتِ الحركهِ العباسيه ومعارضاتها الطويله في ما بعد، وحتي بعض الحركات الثقافيه الباطنيه والاعتزاليه والعقلانيه عند اخوان الصفا والحركات الصوفيه والعرفانيه والفلسفيه كانتْ تملكُ عمقاً حسينياً في صناعه خطابها ورسالتها ومنطقها القائم علي اليقين بالحق والعدل والمعروف، ورفض التسييس والاخضاع السلطوي لهما.

الحسينُ بطلٌ حقيقي لفكره المدينه، ولسيرهِ المثقفِ المعارضِ العميق في وعي ارادته وحريته وخياراته، والثائر الغامر في ثورته، والتي تجلتّ فيها رؤيته العاليه لمفهوم المعروف بوصفه عملاً، وللبطوله بوصفها تطهيراً، وفكره النداء بوصفه اعترافاً، فهو يجسّدُ تاريخاً حركياً للجدّه في النظر لمعني التحوّل المديني ونبذ العصاب الصحراوي بكل تبدياته، والتماهي مع فكره النضال الاخلاقي والمعرفي والثوري بحميميتها وشرعيتها، اذ قال لاصحابه وهو يُلقي عليهم الحجّه: (القوم يقصدونني، فخلّوا بيني وبينهم، واركبوا الليل جملاً).

هذه الصورهُ الطهريهُ تكشفُ عن وعي هذا البطل باخلاقيه النضال، والتعالي بفكره ايثاره، اذْ غابت في خطابه شهوه الاحتماء بالاتباع، والتخلي عن مسؤوليه مواجهه نزعه التغالب السلطوي، وما كرّسَه من مركزهٍ داميه للاستبدادِ في العقلِ العربي الرسمي، تلك التي اجهضتْ القيم العميقهَ للحياه والذات، ولسيروره الدولهِ المدنيهِ التي شرّعتها (وثيقهُ المدينه) واقسرتْ مشروعَها المدني القوي الانقلابيه، بنزعاتها القبيليه لفقه الغنائم، ولتكريس سلطه البطريرك البدوي التي كرستْ حاكميه العصاب والتدوين المخاتل، والغمتْ الوعي بفقهِ السكوت وفقهِ المقاصد واغتراب الفكر والمعني...

استعاده الحسين الثقافي اليوم هي دعوه لمنهج الشوق والقراءه كما يسميها عبد اللطيف الحرز، واستعاده لمعني الرفض الثقافي والشرعي الخارج عن المعروف، ولقيمه الفكره الانسانيه والاخلاقيه عبر السمو بالموقف، ومغالبه النفس صبراً وجَلَداً علي استبداد الهيمنه، وعنف الجماعه، وعبر المجاهره بفكره الاصلاح، والقبول بالموت الاحيائي لتوكيد خطوره المواجهه، ولعمق الرساله بوصفها خطاباً حقيقياً في التحوّل السياسي والاجتماعي والذي تحكمه معايير وقيم واستراتيجيات، وليس عصاباً قرابياً تَكرَّس عبر انموذج السلطه التوتاليتاريه..

كما انها تعني درساً في مواجهه كلّ مظاهرِ الخوفِ والاستعباد والاستبداد، استبداد الجماعه واستعباد الطغاه وامراء الموت والعصاب الباحثين عن وهم السلطه، تلك التي باتت مصدراً لاباحه العنف والتكفير والمجاهره بموت الفكره النبيله والوعي الصادق، وقسر المعني، وتحجيمه في سياقات الاكراه التي اباحتها سلطه النقل العربي.

تضخيمُ هذه السلطهِ برعبها ورمزيتها انعكس علي ازمه موت العقل الذي قاتل الحسين علاماته القامعه والطارده، وهو ما يستدعي اليوم ايضاً الكثير من الاركولوجيا لتعريه للسلطه، ولفضحها اوهام الحاكميات التي قامت علي شراهه استعمالات القوه، وعلي التفقّه المُضلِل للعنف الطائفي والشعبوي وخطابه العصابي الموهوم بفكره الامه والمله والفرقه الناجيه، والخبييء بالشفره الحمائيه والصيانيه للجماعه، وهي تسوّق عنف السلكه للخنادق المتحاربه العاطله عن الحوار والوعي، والراكزه في لاوعي عصابها الجمعي الطارد للهويات والمُبشّر بالموت العمومي..

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل